&
&
عُرف عن بيكاسو أنه كان يعذب حبيباته ويسيئ معاملتهن عاطفيا. لكن إحداهن وهي فرانسواز جيلو تمكنت من الخروج من علاقة معه دامت عشر سنوات دون أضرار تُذكر. جيلو الآن في الرابعة والتسعين وما تزال ترسم.&
موضوع العلاقة بين جيلو وبيكاسو تناولها الكاتب والباحث والناقد مالتي هيرفغ في كتاب يحمل عنوان "المرأة التي تقول لا: عن فرانسواز جيلو وحياتها مع بيكاسو وبدونه". وفيما يلي مقطع منه
(واستشاط بيكاسو غضبا. ابتعدت سيارة الأجرة التي تحمل حقائب وطفلين وامرأة شابة عن فيللا لاغالواز في فالوري، ثم ما لبثت ان تحولت إلى سحابة من غبار امتد على طول الطريق المتوجه إلى باريس مرورا بمناطق ريفية فرنسية. وعاد بيكاسو بخطوات واسعة مهتاجة الى المنزل الذي أصبح خاويا الآن. لقد وفت بوعدها ورحلت مع الطفلين بشكل نهائي، طفليه هو! يا لها من فعلة شنيعة.&
لم تستدر المرأة التي كانت في السيارة إلى الوراء لتنظر إلى الخلف ولكن كان في إمكانها تخيل حال بيكاسو. لقد أمضيا عشر سنوات معا - فرانسواز الشابة وبابلو الهرم. وقد عرفته بشكل أفضل من أي شخص آخر تقريبا وعرفت شخصيته بكلا جانبيها، الرقيق والشرس. ولكنها عرفت أيضا بأنها ستضيع هي وطفلاها إن أمضت إلى جانبه فترة أطول. ونظرت فرانسواز إلى كلود وبالوما اللذين كانا يجلسان إلى جانبها في السيارة. ما تزال تحب بابلو ولكنها تحب أطفالها أكثر. &&
"لا امرأةً تتخلى عن رجلٍ مثلي"، هذا ما قاله بيكاسو لها قبل أسابيع وهو يرميها بنظراته التي تشبه نظرات حيوان البازيليسق السوداء الملتمعة. كان غنيا ومعروفا، وكان أكثر الرسامين شهرة في العالم، بل كان أشبه بإله. فبعد خمسمائة عام سيظل الناس يعجبون بأعماله، أما هي فلن تكون أكثر من هامش يُدرج في الحواشي السفلية للصفحة، ولن يكون لها وجود إلا في ظل هذه العبقرية. كان بيكاسو يعتبر نفسه رجلا لا يمكن أن يحُلَّ رجل آخر محله، ولا يمكن أن تقاومه امرأة. وحتى وإن كان لا يُطاق أحيانا فاولئك المحيطون به يتقبلون ذلك بكل امتنان ويعتبرونه الثمن الذي يجب دفعه مقابل تفضله بالتواجد إلى جانبهم.&
ولكن ماذا عنها هي؟ أطلقت ضحكة مجلجلة وعارضته قائلة إنها ستكون بذلك أول امرأة تنجح في التخلي عنه على الإطلاق. لطالما أحب تلك الضحكة المنطلقة الحرة المشرقة ولكنها أثارت فزعا في قلبه هذه المرة. &
قالت له أنها تريد من الآن فصاعدا أن تلتقي أشخاصا آخرين من جيلها هي - وهي عبارة أخرى جعلته ينتفض. كان ذلك بمثابة تجديف صريح. من المؤكد أن بينهما فارق عمر من أربعين عاما، ولكن ما أهمية ذلك؟ فأعماله الإبداعية حافظت على شبابه وعلى قوته أكثر من أي ممن هم في عمرها.&
وبخها وخاطب إحساسها بالواجب (عليها أن تبقى معه بسبب الأطفال)، ثم راح يهددها: "وهل تعتقدين أن هناك من سينظر إليك وسيهتم بك؟ لا على الإطلاق، حقيقة. وحتى لو اعتقدت أن البعض قد يعجب بك، فسيكون ذلك نابعا من فضولهم تجاه شخص لامست حياته حياتي بشكل وثيق. وبعدها لن تجدي غير طعم الرماد في فمك. إنك تمضين في اتجاه الصحراء بشكل مباشر". وأراد بيكاسو أن تكون هذه الكلمات بمثابة تحذير ولكنه أرادها أيضا أن تكون بمثابة لعنة: بدوني، أنت مجرد لا شئ.
أما هي فقالت له إنها تفضل أن تعيش في الصحراء على أن تعيش في ظله وإنها تريد استعادة "أناها" من جديد، حسب كلماتها. كانت مدركة تماما أن تخريفات بيكاسو تلك ما كانت ستثنيها عن قرارها لكونها مجرد غطاء لهيجانه وسخطه من احتمال أن يُترك وحده. وللحظة، أدركت انها أصبحت تشعر بالشفقة على هذا العبقري المستبد. تخيلته وهو يجيل النظر في ما حوله في ثنايا المنزل الذي عاشا فيه على مدى سنوات خمس ماضية، المنزل الذي ملأه بأعمال السيراميك، المنزل الذي سيبدو الآن خاويا بدونها. أين ذهب الطرف الذي ينشر الهدوء في حياته المجنونة؟ أين مضى المشاهدُ المعجَب وعاشق أناه الشاسعة؟
&
"أنا وبيكاسو" لفرانسواز جيلو - 1948
كان تحت مطرقة التعاسة عندما جلس إلى طاولة المطبخ ثم أشعل سيجارة. ربما لديها عشيق. بالنسبة له هو، ما كان يهتم كثيرا بالعلاقات الخارجية، فهناك نساء يجملن أنفسهن ويتبرجن ويدعين بأنهن يردن أن يرسمهن هو وحده فقط. ولم تعن تلك النسوة شيئا بالنسبة له وإذا ما عنين شيئا ما فلفترة وجيزة لا غير - وبعدها كان يعرف تماما كيف يتخلص منهن.
في إحدى المرات، في بداية حياته المهنية، عندما كان يبحث عن منفذ يقوده إلى أوساط أفضل، إرتكب خطأ شنيعا بالزواج من امرأة، ثم ما لبثت أن تحولت اولغا الى عبء عندما انتبه إلى ماري تيريز ثم جعلها تحمل منه. وبعدها جاءت دورا، وكان لفترة طويلة يسلي نفسه بجعلهما تتقاتلان من أجله.
كان يعرف دائما كيف يبقي النساء الأكثر أهمية في حياته يعتمدن عليه ماديا كي يواصلن خدمته. أما أمام الناس فكان يحب الإدعاء بأن مجرد وجودهن في حياته يمثل عبءا ثقيلا عليه. وكان يحب أن يشتكي بالقول "كل مرة أغير فيها زوجة، أضطر إلى إحراق الأخيرة. وبهذه الطريقة أتخلص منهن".&
ولكن، كان ادعاؤه هذا مجرد تمويه في الواقع، إذ كانت فكرة ان تتمكن إحدى نسائه الشابات من العيش بدونه تملؤه بغضب عارم وكان يعتقد أيضا بأن موت الآخر قد يعيد اليه شبابه ولذا هدد فرانسواز: "لن تعيشي قدر ما أعيش" ولكنها ضحكت مرة أخرى وعارضته قائلة "سنرى".
لا أحد كان يتحدث إليه بتلك الطريقة ولذا لم يخطئ عندما أسماها "المرأة التي تقول لا" رغم أنه كان يريد أن تكون هذه الكلمات مجرد نكتة غير مؤذية.&
ولجزء من الثانية، بدأ بيكاسو يعتقد بأنه ربما كان من الخطأ ان يفكر بنفسه فقط وأن يفترض أن الآخرين سيقبلون بكل نزواته. ولكنه سرعان ما طرد هذه الفكرة من ذهنه واستعاد وضعه الطبيعي وشعوره بغضب نابع من إحساسه بأنه على حق.&
وما أهمية أنه لم يكن مخلصا لها على الدوام؟ كانت ردود فعلها على مغامراته وعلاقاته وفترات غضبه هادئة على الدوام. لقد قبلت به كما هو وذهبت بعيدا جدا بأداء دور الأم رغم أنها فعلت ذلك بعد تردد كبير وبإصرار منه فقط. وأخيرا طلب منها أن تحمل بأطفاله لأنه أراد أن يربطها به بشكل كامل، فمنحته أولا كلود ثم بالوما.&
كانت فكرة أن يأخذ رجل آخر مكانه تثير فيه غضبا شديدا. كان هو السيد وكانت هي ملهمته وقد اكتشفها عندما كانت في الحادية والعشرين. كانت نقية مثل قماش كانفاس أبيض ينتظر منه أن يملأه بالألوان. لقد صنعها بنفسه ولذا فعليه أن يقرر ما سيحدث لها أو معها.
توجه بيكاسو بوجه مكفهر إلى الحمام ونظر إلى وجهه في المرآة. وبعد أن فشلت الدقائق القليلة التي أمضاها وهو يتأمل انعكاس صورته، في تحسين مزاجه، راح يحلق ذقنه. وأشعره هذا الطقس ببعض الهدوء. وعندما انتهى غمس سبابته في معجوم الحلاقة ثم رسم شفتين ضخمتين على وجهه، مثل مهرج، ثم وضع تحت كل عين دمعة. ولكن ذلك لم يجد نفعا.
واجتاحته موجة من الشفقة على نفسه. مع من سيتحدث الآن ومن سيحادث؟ لديه أمور كثيرة جدا عليه إنجازها عندما يكون وحيدا. كان تخليها عنه بهذه الطريقة امرا غير مسؤول بالمرة.
ومع ذلك، عليه أن يقر بأن رحيل فرانسواز لم يكن غير متوقع. كان يعلم بأنها لم تكن سعيدة ولكنه تجاهل الإشارات وأصبح صارما معها أكثر من ذي قبل. وفي إحدى المرات عندما عاودت البكاء من جديد، رسمها وأثنى على صدق ألمها وقال "وجهك رائع اليوم".
وفي مرة أخرى عنفها لأنها نحفت بعد ولادة طفلهما الثاني. "كنت تشبهين فينوس أما الآن فتشبهين المسيح معلقا على الصليب، أضلاعك ظاهرة من تحت الجلد حتى يمكن عدها" وكان عليها أن تشعر بالخجل من نفسها. كانت أي امرأة أخرى تبدو أجمل بعد ولادة طفل، فيما كانت هي تبدو مثل عصا مكنسة.
عندما كان يستيقظ من نومه وهو يشعر بالكآبة، وهو ما كان يحدث في أغلب الأيام، كانت ترفض أن تسري عنه ثم أقرت بأنه كان محقا عندما شكا من سوء الحياة معها. بل وشجعته أيضا على الشكوى - كل شئ مقرف ويدعو إلى الإمتعاض وغدا ستسوء الأمور أكثر - حتى تحول غضبه إلى العنف وهدد بقتل نفسه. وكان يبقيها في مرات عديدة وهي تتكلم حتى ساعات الصباح الأولى ثم يلقي عليها مواعظ ويظل يشكو من الحياة حتى تغيب عن الوعي بسبب الإجهاد وهو ما كان يشعره بالسعادة لأنه يثبت له بأنها لم تكن قوية البنية مثله رغم أنها في الثانية والثلاثين فقط من العمر.
وكان يسئ معاملتها بالألفاظ وبالكلام حتى تصل إلى مرحلة الضياع والتشتت ثم ما يلبث أن يخرج من الحال كله بالقول إنها كانت مجرد لعبة: "عندما أصرخ في وجهك وأتلفظ بكلمات غير لطيفة هدفي هو جعلك أقوى. بودي لو تغضبين وتصرخين وتواصلين، ولكنك لا تفعلين ذلك بل تلتزمين الصمت ثم تتحولين إلى السخرية. بودي لو أراك مرة واحدة فقط تلعبين لعبتي نفسها". ولكنها كانت ترفض الرضوخ.
وبعدها كانت تبكي وكان يعرف دائما بأنه ترك الأثر الذي يريد في نفسها. ولكن، ورغم أن ملاحظاته اخترقت قلوبا كثيرة، كان يجد صعوبة في أحايين عديدة في خرق درعها. ولكنه واصل اللعبة رغم ذلك ورسمها في ثوب أخضر على أرضية حمراء بلون الدم وهي تصارع كلبا ضخما. كان ذلك قبل أشهر قليلة من رحيلها، عندما بدأ يرتاب في أن لها رغبة في التخلي عنه.
وراح يخبر الجميع بذلك كما لو أنه أراد طمأنة نفسه: "عليكم ان تعلموا بأن فرانسواز ستتركني!" ومع ذلك ما ظن يوما أنه سيصل إلى تلك النقطة، إذ كانت ثقته في قدرته على تحريك الأمور حسب مشيئته أقوى بكثير. &
وفي الأسابيع والأشهر اللاحقة لرحيلها أشاع بيكاسو الخبر بين أصدقائه. وسرعان ما بدأت فالاريس كلها تبكي على السيد الذي تم التخلي عنه - وفي تلك السن! أما الصحفيون فكتبوا يقولون: رفيقة بيكاسو الشابة تركت السيد لأنها لم ترد ان تواصل العيش مع "نصب تاريخي". ولم تكن هي من قال هذه الكلمات على الإطلاق، بل بيكاسو نفسه. كان هو من يحدد للآخرين ما يفكرون فيه.&
ومع ذلك، لم يدرك أحد عمق تأثره. لقد انتصرت هذه المرأة لأنها تمكنت من التجاوز والبقاء. لقد غادر الثور الحلبة وترك مصارع الثيران واقفا وسط الغبار مع محرمته وخنجره. لقد انتهت اللعبة وقد خسر أشهر فنان في العالم.&
توجه بيكاسو إلى حامل اللوحات ثم رسم فرانسواز للمرة الأخيرة. رسمها مستلقية على سرير أزرق في حجرة النوم وذراعاها تحيطان برأسها ولون جلدها أبيض ناصع. ولكن من الباب، يمكن رؤية ظل رجل يسقط على جسدها العاري، وكان هو ذلك الرجل. لقد ابتعدت عنه، وطيفه فقط هو الذي يستطيع لمسها بعد الآن. أو هذا ما كان يظن.
التعليقات