"خليط" الجاليات الوافدة الى "عروس البحر" وعلاقتهم بالسعوديين


بعض أصحاب العمائر يرفضون التأجير للسعوديين
(أم داليا، سيدة سعودية)

خالد ربيع السيد من جدة: يخطئ من يعتقد أن مدينة جدة قد تحولت إلى مدينة كزموبوليتانية، لأنها في الأساس

جدة
قد أنشأت لتحمل هذه الصفة. فهي لم تتحول بقدر ما تنامى التنوع العرقي للأجناس القاطنة فيها، و تبعاً لذلك تشكل عمرانها البنياني،وتفاعل حراكها الحيوي، و ترسخت، وفقا لذلك ثوابتها المدنية (إنسانيا وماديا وثقافياً)،على طابعي الإختلاف والتمازج البشري، حيث تجسد كيانها "االمختلط الأعراق" مع ازدهارها،منذ نشأتها، على أيدي التجار والمطوفين المكيين، مكونة بذلك المدينة/البوابة التي تستقبل البضائع و الحجاج..
منذ زمن بعيد وهي تأوي مختلف الجنسيات من كل أنحاء العالم.. ولا غرابة، إذا تأملنا المفارقة في دلالة تسميتها بـ ( جدة )، فنجدها تحقق عميق المعنى المتواري في المسمى.. جدة، مرقد (أمنا) حواء عليها السلام.. الأم التي "تحوي" الجميع.

جاليات متعددة

جاليات من معظم بلدان العالم، يعيشون في شكل تجمعات منعزلة عن الحياة السعودية ومتصلة بها في آن واحد.. جاليات أثرت وتؤثر في النبض الاجتماعي لحياة المدينة، للدرجة التي صبغتها بتوليفة من الثقافات المختلفة والتي نتج عنها ذلك التميز الذي تنفرد به عن باقي المدن العربية.
( في جدة ستجد لسانك، لوحده، قد رطن بعدة لهجات في اليوم الواحد.. ) كانت تلك العبارة الذكية التي تفوه بها بائع اللبان الطبيعي "الشامي واللامي" عبده العيدروس في سوق الندى بقلب جدة العتيقة، ذات دلالة واضحة على تنوع الجنسيات في جدة.. وعندما سألته : وهل الكل يشتري منك اللبان؟.. وقبل أن يجيب أجابته الذكية الثانية مازحني ضاحكا : نحن "الحضارمة" تجار ما ينخفش علينا.. هم لا يشترون ولكني أنا الذي أبيع لهم.. أتعلم لهجتهم أ و لغتهم،إذا كانوا لا يعرفون العربية، ثم أداعبهم وأمازحهم، وأدعوهم إلى تجريب لباني اللذيذ، وهكذا سرعان ما يصبحون زبائني خلال فترة قصيرة،فيترددون علي ويسألوني سؤالهم المعتاد : من أين تجلب هذا اللبان...؟

( إلى أي درجة تتراوح علاقة الوافدين في تواصلهم أو انعزالهم مع أو من السكان الأصليين للمدينة، وكذلك فيما بينهم؟ ). كان هذا سؤالي للدكتورة نجاة العوضي،- أستاذة علم الاجتماع التربوي بكلية الاقتصاد والتدبير المنزلي - فأجابتني : ( أؤكد لك بأن مرحلة الطفرة الاقتصادية قد أحدثت تغيرات في العلاقات الإنسانية، وفي التركيبة النفسية للإنسان السعودي على وجه الخصوص، فأصبح ينظر للوافد من خلال رؤية عملية في ضوء واجبات وحقوق يجب أن تؤدى، متغافلا الرابطة الإنسانية، ومتخلياً عن إرثه العميق في الانصهار معه بغض النظر عن لونه أو جنسه أو عمله.. وحتى عن دينه.. ولكن تلك التغيرات أحدثت حالة تقترب من انعدام العلاقات الإنسانية بين الوافد والساكن الأصلي.. وأعتقد أنه آن الأوان لترميم ما أتلفته الطفرة.. ).

لكل جالية منطقتها

مدينة جدة بها أحياء كاملة لا يقطنها إلا جنس محدد بعينه.،شأنها شأن المدن المختلطة الكبرى في العالم لندن أو نيويورك، وقد يتكرر تواجد جنس معين في أكثر من منطقة في المدينة، فهناك على سبيل المثال، منطقة هنود البغدادية، ومنطقة هنود الجامعة.. سودانيو بني مالك.. و سودانيو مدائن الفهد، ثم سودانيو حي الصفا. وهناك أحباش البوادي، وأحباش حي مشرفة وعنيكش.. هناك تكارنة (أفارقة) المحجر،وتكارنة المكرونة، وتكارنة البوادي الشعبية.. فلبينيو الكورنيش، وحي الفيصلية...

( السكن في حي فيه أبناء بلدك له ميزة"حلوة"، على الأقل يخفف عنك هموم الغربة.. )، هذا ما قاله لي الحلاق المصري مرسي الفيومي في ميدان البيعة بوسط جدة، قرب مقهى الفيشاوي.. ( حتى أسماء مقاهيهم قد نقلوها معهم من بلدانهم.. هل هي النستالوجيا.؟ ) هكذا تسائل صديقي محمود بن صديق"مهندس بشركة أرامكو"، أثناء تجولنا ذات ليلة في جدة القديمة.

على الرغم من تمثل هذا الوضع "الكشُري" على حد تعبير طبيبة الأسنان المصرية محاسن سماحة، ( إلا أن الغالبية الساحقة من هذه الجنسيات تعيش في "معازل" اجتماعية وثقافية.. )،كما يرى نايف المطيري الموظف ببلدية جدة.. غير أن محمد فايز (أبوالفوز) "فلسطيني " محاسب " يؤكد بأن جدة بالنسبة لهم يقصد الوافدين الأسيويين بشكل خاص ليست سوى معسكر للعمل ومحاولة للعيش بأقل التكاليف المادية.. أما الإنسان السعودي فيعتبرونه مجرد شخص يرتدي "الثوب والغترة" وهو يخيفهم جداً، لأنه بإمكانه أن يرحلهم من المملكة في أية لحظة.. وغير ذلك ( فالسعودي يضع فوق رأسه صفرين أسودين "دبل بلاك زيروز" ) حسب تعبير الإنجليزي مستر كريس ثورنتون مدير إحدى شركات الإنتاج والتوزيع الفني بجدة.


يقول مدثر سرالختم، سوداني يعمل في شركة للنقل البري : ( السعودي هو "الكفيل"، وهو زول أخلاقه ضيقة جدا في قيادة السيارة.. هذا كل ما أعرفه عنه ).

بينما يسهب إبراهيم المك،سوداني أيضا، يعمل محاسبا لدى البنك الأهلي، في تحليل الأمر فيقول : ( لا تسمح لنا الظروف في التعرف والتقارب أكثر مع أخواننا السعوديين، وعلاقات العمل سريعة ولا يمكن تسميتها علاقة صداقة.. وخلال الـ 13 سنة التي أقمت فيها بجدة،دعيت خمس مرات لحضور مناسبات للزملاء السعوديين، وقد كانت جميلة بالفعل، وبدا الجميع بروح مختلفة عن تلك الروح التي تسود جو العمل.. وفوجئت في أول "عزومة" أنهم يفضلون أكل الأرز بأياديهم المجردة.. وعلى أية حال أستطيع القول أنني لا أعرف عن المجتمع السعودي أي شيء مهم.. لأنه لا مكان للالتقاء بهم والتحاور معهم.. ومعرفتي عنهم مصدرها الجرائد أو الإذاعة.. أعني أنها معرفة ليست حميمة )...
سألته ماذا تعني بأنه لا يوجد مكان للالتقاء بهم وأنت تعيش على أرضهم وفي عقر دارهم...
أجاب بسرعة : نعم،أنا أراهم بمجرد الخروج إلى الشارع، ولكني أقصد باللقاء :التآلف والاحتكاك والتفاعل الطبيعي في مختلف أوجه الحياة.. أن أدخل قلبه، ويدخل قلبي..

منعزلون عن السعوديين

وبكثير من الجدية البالغة حد الصرامة،خاطبني أحد مدراء المبيعات لشركة سيارات كبرى،وهو سويدي الجنسية، ويبدو حازما جدا، وبإنجليزية شكسيبيرية أجابني : ( لا أعرف عنهم شيء، أجتمع مع المدراء السعوديين التنفيذيين في الشركة لمناقشة خطط ونتائج المبيعات.. فقط لا غير.. أقيم منذ ثلاثة سنوات في المملكة وحتى الآن لم أر أو أتحدث مع أي سعودي عن أية موضوعات خارج نطاق العمل، لم أر امرأة سعودية واحدة، لم أهنيء شابا سعوديا واحد بفوز فريقه في مباراة لكرة القدم.. مثلا، لم أدخل بيت سعودي، بل أنني لم أتذوق الطعام السعودي )..

و

اكثر الاجانب منعزلون عن اهل جدة
يستطرد قائلا عندما حضرت إلى جدة،في أول أسبوع، سألت عن الأندية الاجتماعية، وفوجئت بأنه لا توجد أندية اجتماعية في هذه المدينة.. قاطعته : أنت تذكرني بعنوان رواية جابرييل ماركيز "لا يوجد لصوص في هذه المدينة"، ابتسم ثم تابع حديثة المنفعل ( نصحوني بالذهاب إلى "المقاهي" الكائنة بالكورنيش، وعندما ذهبت وجدت الجميع يدخن الشيشة لساعات طويلة.، بالمناسبة يمكنك اعتبار المقاهي بديلا عن اللصوص التي تسرق حياة المدينة.. على أية حال لم يحاول أي أحد التعرف علي، رغم أنني حاولت وحييت عدة أشخاص، متوقعا منهم مبادلتي التحية ودعوتي للجلوس على طاولاتهم.. في بلادنا عندما تذهب إلى النادي، سرعان ما يبادرك أحدهم بالتحية ثم يدعوك للجلوس،وتبدأ الدردشة الخفيفة وبعد ذلك تأتي الصداقة.. صدقني هذا يحدث بشكل طبيعي ودائم.. )

وهكذا الحال يبدو أنه رغم التعددية السكانية في مدينة جدة إلا أن هناك فجوة هائلة بين السعوديين والوافدين العرب وغير العرب من "الأجانب". لدرجة أن لفظة "أجنبي" أصبحت تطلق على كل من هو غير سعودي. وللوقوف على تحليل هذه الوضعية (الانعزالية) التي يفرضها السعوديون على من يطلقون عليهم "أجانب" سألت محمد المالكي،مدرس التربية الوطنية،الذي أرجع الأمر للتغيرات النفسية الفردية والسلوكية الاجتماعية التي طرأت على المجتمع إبان وبعد مرحلة الطفرة، مما حتم أن تكون نوعية العلاقة بين السعودي و الوافد محصورة في شأن العمل فقط.. وهي علاقة تستوجب إلغاء العوامل الإنسانية، وهذه مغالطة كبيرة، ففي اليابان الآن ومن ضمن مفاهيم العمل يوالون الجانب الإنساني قدرا كبيرا من الاهتمام.. دعك من اليابان، جميعنا يعرف أنه في عهد الدولة الإسلامية،بدءا من دولة الرسول محمد عليه السلام وحتى الدولة العباسية، كان العمل مؤسسا على القيم الإنسانية، وهذا معروف ولن أخوض فيه.. وصدقني أنا مثلك أتعجب لماذا الطفرة محت معاني العطف والتسامح والمعاملة الطيبة من أخلاقيات الإنسان السعودي.. هل التنمية الاقتصادية،"غول" جشع يستوجب وجود طفرة جامحة تلغي إنسانية الفرد..؟ أم أنه لم تكن لدينا أسس تنموية أخلاقية فنبذنا الوافدين وأصبحنا عنصريين..، ثم هل نسينا الآية العظيمة (( ولقد جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ))..!!

* يلاحظ تقارب جزء من رأي المالكي مع بعض من أراء الدكتورة نجاة العوضي.

يقول النادل حميد معلاوي،تونسي، يعمل في إحدى المقاهي :( إن الشاب السعودي حريص وحذر لدرجة الخوف من التعامل مع الوافد.. كذلك الجيران، لكن بعد أن يطمئن إليك كثيرا.. وأقول كثيرا جدا، ستجده صديقا رائعا ).

لاتأجير للسعوديين

تحاورت مع السيدة "أم داليا"، سعودية من أهالي جدة، وهي ربة منزل منفصلة عن زوجها، حيث أكدت بأنها ترحب دائما بالعلاقات والصداقة مع الوافدات العربيات، تقول : نحن تربينا على العشرة مع كل الناس والجنسيات.. والجيران من أي جنسية كانوا بالنسبة لنا مثل الأهل، ولذلك تعلمنا منهم الكثير وأخذنا بسبب معاشرتهم "من كل بحر قطرة".. تعلمنا منهم بعض الأكلات وطرق ترتيب المنزل والذوق.. استفدنا منهم في تنظيم حياتنا واكتسبنا بعض من عاداتهم الطيبة، وبالطبع هم استفادوا من عاداتنا الأصيلة وتعلموا مننا الكثير.. أنا لا أقيم أية حواجز بيني وبين المرأة الوافدة، الجارة، وتتوقف مدى قوة علاقتي بها عليها هي، ومدى قابليتها لأن تصبح صديقتي ).

غير أن "أم داليا" ليست لها أية علاقات مع جاراتها، وهنا تكمن المفارقة ـ

تقول : لا تتعجب فصاحب العمارة"السعودي" يرفض التأجير للسعوديين، ويفضل الوافدين بحجة أن السعودي لا يلتزم في سداد الإيجار، ومن الممكن أن يهرب. لذلك عندما استأجرت وسطت زوج صديقتي،الأجنبي" لتوقيع العقد باسمه،لأني منفصلة(مطلقة).. لهذا أنا لا أحبذ التعرف على الجارات حتى لا ينفضح أمري ويعرفن بأني سعودية، وقد يخبرن صاحب العمارة. ولك أن تتخيل أنا ابنة البلد أخفي هويتي في وطني وأعزل نفسي عن جاراتي بسبب ليس لي يد فيه )..!

ولكن لكل قاعدة شواذ، وهناك فئات من المجتمع السعودي تقيم علاقات وطيدة مع غيرها.

ويؤكد ذلك المهندس "مصري" رضوان عبد الرحيم، بلهجة صعيدية لطيفة، يقول : ( لي أصدقاء مهندسين سعوديين، أعمل معهم منذ سنوات عديدة في مشاريع تطوير المشاعر المقدسة بمنى وعرفات، وقد توطدت روابط الصداقة بيننا لدرجة أننا نجتمع كل مساء ثلاثاء في بيت أحدنا ومعنا عائلاتنا.. علاقاتنا رائعة وهم شباب جدعان وكرماء وذوق و"آخر مفهومية"، منهم المهندس عدنان كتبي،والمهندس مروان نقلي، وأحمد صديق.. ).

غير أن السيدة"الأردنية" أم طارق،ربة منزل،تقول : المرأة السعودية غامضة في بادئ الأمر ولكن بعد معاشرتها تكتشف طيبتها وحنانها ووعيها الكبير الذي كنت لا أتخيله.

ويبقى أن نتخيل كيف يمكن لغير السعوديين أن يقيموا جسورا من الود والمحبة مع السعوديين!؟