*برامج الفضائيات تتحكم في الترويج لمبيعاتها
*الآلات الموسيقية في جدة.. مفارقات و رؤى لسوق راكدة ومملة في نظر تجارها
*اندثرت صناعة ( الأعواد ) المحلية والاعتماد الكلي على المستورد

خالد ربيع السيد من جدة: قد يكون الوقوف على ديناميكية سوق سلعة معينة كاشفا عن مؤشرات مستترة تتضح بعد تحليلها وقد يتبين إثر ذلك ثقافة شريحة خفية في مجتمع المدينة، خاصة إذا تم رصد عوالم تلك الأسواق التي تتعامل مع سلع غير اعتيادية لزبائن يسعون إلى تلبية احتياجات غير استهلاكية. مثل هذه الأسواق يحكم نشاطها عناصر تتجاوز المألوف، ويتحكم في آلياتها محددات تتعلق بالميول والأهواء الشخصية، وتلعب المؤثرات غير المنظورة دوراً هاماً في تشكيل سلوكيات الأفراد المتعاملين فيها. سوق الآلات الموسيقية مثالا لهذه النوعية من الأسواق.

كساد
حانوت صغير بمساحة لا تتجاوز بضعة أمتار مربعة في قلب مدينة جدة القديمة، يعمل صاحبه في تجارة الآلات الوترية وآلات النفخ الموسيقية منذ قرابة ثلث قرن. عندما دلفت إلى المحل بادرني البائع المساعد ابتسامة وترحيب حار، ظاناً أنني أحد الزبائن. وبعدما عرفته على نفسي وسألته عن حال السوق أجابني بثرثرة عفوية طويلة :( كما ترى الحالة نائمة منذ عدة أشهر، لم نبع آلة موسيقية واحدة، فقط نشتغل على الصيانة، أحدهم يأتي إليك وقد كسر رقبة عوده، والثاني خرق دربكته، والآخر كمنجته تحتاج إلى ضبط وهكذا. أحيانا نبيع قطع الغيار، أطقم الأوتار، أو مشدات الطبال، وأحياناً جرابات الأعواد وبيوت الكمنجات، السوق راكدة ومملة. هذه الدندنات التي تسمعها آتية من الداخل هي للعم أحمد زمزمي، مؤسس هذا المحل، يعلم بعض الصبية العزف على العود. إنه باب رزق نسعى من خلاله لزيادة إيراد المحل. السوق " تعبانه" خاصة بعد انتهاء برامج مسابقات المطربين الهواة التي كانت تبثها الفضائيات، ونحن الآن ننتظر الدورة القادمة )،
ثرثرة هذا البائع تفتح منافذ للتحاور، عاجلته بسؤالي :
هل كان لمثل هذه البرامج تأثيراً على حركة المبيعات لديكم ؟
( بالتأكيد، الشباب لدينا مهووس بالتلفزيون، وللغرابة أنه بعد بث هذه البرامج تغيرت نوعية الزبائن، فقبل ثلاثة سنوات كان زبائننا من أبناء الطبقة المتوسطة التي تسكن الأحياء الشعبية، وهم حريصون في عملية الدفع، ويفاصلون في الأسعار، أما الآن أصبح يأتي إلينا الشباب اللذين يمتلكون السيارات الأسبور الفاخرة وهم يرتدون ملابس غربية وينطقون ببعض الكلمات الإنجليزية في كلامهم، وعندما نقول له السعر كذا وكذا، يرد بسرعة " أو كي ".. استوردنا مجموعة كبيرة من الجيتارات الأسبانية وكلها بيعت، كذلك جاءتنا طلبات كثيرة على الأعواد "المصدفة" السورية والمصرية.. تشكراتي إلى الخلاوي و أبو الهش ). يختم ضاحكا. قبل أن أباغته بسؤال :

الزبائن
هلا حدثتني عن زبائنك بشكل عام ؟ وهل تستطيع أن تستشف من طلباتهم طبيعة ذائقتهم ؟ ( طبعاً.. زبائني هم الشباب دائماً، فمنذ تسعة سنوات،وهي فترة عملي هنا، لا يأتينا سوى الشباب بين عمر 18 سنة و 25 سنة، طلاب المرحلة الثانوية والجامعية. ومن النادر جداً أن يزورنا موظفون أو تجار أو سيدات.. يكثر الطلب على آلة العود، غير أن الزبون الذي يشتري عوداً يحتمل أن يشتري رق أو دربكة وأحيانا يشتري بعض الكماليات، وشيء أكيد أن أي بائع يستطيع معرفة ذائقة زبائنه، فالشباب اللذين يطلبون الأعواد يفضلون الطرب الأصيل ويستمعون إلى المطربين الكبار.. أما اللذين يشترون الغيتار والأورغ يفضلون الأغاني الشبابية والغربية ذات الإيقاعات الصاخبة )..


ألا يوجد صناع للأعواد هنا في جدة؟
( زمان كان يوجد، حسب ما أسمع، وفي مكة كان يوجد المعصراني وأبو الشامات. أما الآن فنعتمد على الاستيراد فقط ).


كيف بدأت مزاولة هذه المهنة.؟
( أنا هنا شريك في المحل، أعمل موظفاً في النهار وبعد المغرب أحضر هنا للتكسب، أتعامل مع صانع في القاهرة، أحدثه عن المواصفات المطلوبة ويرسل لي. كذلك أزور سوريا من آن إلى آخر لإحضار بعض الكمنجات وآلة القانون. دخلت المهنة من باب الهواية).

لبعض حديثه مفارقات لطيفة، فعندما زرت إحدى المحلات التي تبيع الآلات الموسيقية الإلكترونية الحديثة، في أحد المراكز التجارية. أكد البائع الفليبيني ( مستر أليكس) أن معظم زبائنه تقريباً من العاملين الآسيويين، وخاصة الفليبينيين، فهم مغرمون باقتناء آلة الأورغ و الجيتار الكهربائي، وكذلك الدرامز المتعددة المستويات. مازحني قائلا : ( لذلك كما ترى نحن هنا ثلاثة فليبينيون من أجل زبائن فلبينين يا رئيس ). كان شخصاً مرحاً ويعقب كل جملة ينطقها بكلمة (Boss) أي يا ريس.


تقصد أن زبائنك فقط من هذه الجنسية؟
( إلى حد ما يا ريس، ولكن يزورنا شباب من الجنسيات العربية، مثل المغاربة واللبنانيون والاريتريون، يبدو أنها شعوب تحب الغناء.. يشتري منا أيضا بعض أبناء الأوربيين، شباباً وفتيات، وبشكل عام فإن مبيعاتنا من أجهزة الاستريو "الهاي فاي" تفوق بمراحل مبيعات الآلات الموسيقية ).


سألته، وماذا عن السعوديين يا ريس؟
( نعم لا يخلو الأمر، غالباً ما يكونون من صغار السن، تحت العشرين أو أقل، ويأتون غالباً برفقة آباءهم أو أمهاتهم، وأعتقد أن الأباء أو الأمهات هم اللذين يدفعون بهم لتنمية هوايتهم في العزف الموسيقي، نحن في الفلبين نتعلم الموسيقى منذ الصف الأول للدراسة، وهي مادة مقررة على جميع المراحل الدراسية، لذلك نعشق الموسيقى،بووس.. الزبائن من الشباب السعوديين الأحداث يكثرون في التوافد علينا في فترة ما بعد الاختبارات، تشعر أنهم أتوا لشراء هدية النجاح "بووس". ).


ولكن ما فائدة أن تتعلموا الموسيقى في المدارس؟
( نحن نتعلمها كلغة عالمية، صدقني يمكنك فهم الكثير عن الشعوب من خلال لغة موسيقاها). استمتعت بالحديث معك يا مستر أليكس.. شكراً يا "بووس ".

( لا، لم يخطر في بالي أبداً أن أضيف التعليم الموسيقي إلى الدورات التي يقدمها معهدي، أنا أكتفي بتعليم الفنون التشكيلية، والمهارات اليدوية، والرسم، وتشكيل الصلصال،.. لن تلتحق أية فتاة بمثل هذه الدورات.. كما أنه ليس لدينا خبيرات لتعليم الموسيقى.. من أين آتي بهن أصلاً !! ) السيدة أمل، صاحبة معهد صغير لتعليم الفنون التشكيلية.

تعمدت أن أحاور بعض الزبائن فتصيدت وجود شابين في أحد المحال الشعبية. أحدهم يدعى عبد الرزاق والآخر سلطان،طالبان جامعيان، فاتحني عبد الرزاق : ( لدي رغبة في تعلم الموسيقى،مثل سلطان، لا أحلم بأن أصبح عازفاً شهيراً أو مطرباً ذائع الصيت، ولكن هناك شيء بداخلي يشدني إلى الموسيقى والغناء، واليوم نحن هنا لشراء آلة العود، بعدما تلف عودي القديم )..


سألته : ألم تفكر قبل الشراء في تلقي دروس عن الموسيقى؟
( وأين أتلقى هذه الدروس ليس بمقدوري السفر إلى القاهرة أو بيروت لأدرس.. لا.. لا، سوف يتكفل سلطان بتعليمي وهذا كل ما أريده، وأنا الآن أجيد عزف بعض المقطوعات وأجد متعة كلما تعلمت معزوفات لعبادي الجوهر ).


لماذا لا تحاول الانتساب إلى جمعيات الثقافة والفنون.؟
( والله لم يخطر ببالي ذلك، ولم يرشدني أحد من قبل، كما أنني لا أعرف أين هي جمعية الفنون هذه ) !!!
ذكرت قبل لحظات أنك تعزف الحان عبادي الجوهر،مع أنك صغير السن ويفترض أنك تهوى الأغاني الشبابية ؟!!
( أسمع الأغاني الشبابية دائماً، ولكن من باب التسلية وليس من باب الطرب.. لماذا لا يفهمونا الكبار، نحن نتسلى ونسري الوقت مع الأغاني الخفيفة السريعة، وهذا لا يعني أننا لا نستمتع بالأغاني الطربية، لكل وجبة وقت، ولكل وقت أذان.. ).
- ولكن الغالبية من الشباب فسدت ذائقتهم بسبب استماعهم المكثف للغناء الحالي المتأثر بالغربي المشوه، وابتعادهم عن الطرب الأصيل.. وحتى أنهم لا يستمعون إلى الغربي الجيد؟

رأي الاباء

صعقني أحد الأباء عندما استوقفته على مقربة من استريو لبيع الأشرطة السمعية، وسألته : هل تحبذ لو تعلم أطفالك الموسيقى.؟ فكان رده المتجهم : ( دعهم يفلحون في دروسهم أولاً ).

غير أن المحاسب نور الدين باهارون بدا متحمساً لتعليم أطفاله الموسيقى : ( يا ليت لو كان لدينا معاهد أو أندية خاصة لهواة الموسيقى، سينشغل أطفالنا وسيكتسبون مهارة وذوقاً ينعكس على باقي حياته.. نحن عندما نعلم أطفالنا لغة الموسيقى سنرتقي بهم، وسنجعلهم يتعاملون مع رافد هام وحيوي في ثقافتهم.. لا أريد أن أردد شعارات، لكن صدقني أنا مؤمن بأن الموسيقى والرياضة والرسم والتمثيل وجمع الطوابع والرحلات وغيرها كلها مهارات وهوايات تزيد من قدرات الشباب على خلق حياة ثرية وتبعده عن الشغب والعنف والتفاهة ).

( الأعواد غالية السعر ونادرة الوجود والمحلات التي تبيعها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، كيف تريد أن يشتري الناس سلعة هي أصلا غير موجودة !!). هكذا علق فهد الرفاعي، موظف بشركة لتأجير السيارات.

منير الألفي صاحب محل ألعاب يقول : ( في عقد الثمانينات ظهر جهاز أورغ ماركة "كاسيو" كان زهيد الثمن وسهل الاستعمال وخفيف الوزن، كان يقبل على شراءه جميع الفئات من أطفال،أولاداً وبنات،شباب،فتيات للدرجة التي جعلتني أعتقد أن جميع الناس تريد تعلم الموسيقى، وكان سعره آنذاك 280 ريالاً ). هل تعني أن عامل السعر هو محرك الرغبة في الشراء لدى الناس ؟ ( ربما السعر وربما عوامل أخرى، لاحظ أن في تلك الفترة ظهرت فئات من المجتمع تحرم الموسيقى، ربما كان الرفض بطريقة عملية هو الوسيلة للاعتراض على أراء من حرموها.. على أي حال، ذلك الجهاز تحديدا كان سلس الاستعمال و يعطي شعوراً لدى مستخدمه بأنه موسيقارا كبيرا، كل ما عليك هو ظبط بضعة أزرار، ثم اللعب على المفاتيح فتسمع معزوفة رائعة.. لقد غزا اليابانيون العالم "بأورغهم" هذا ).

هواية ذكورية

( هواية العزف على الآلات الموسيقية هواية رجالية في مجتمعنا، لذلك لم يسبق لي أن سمعت أو شاهدت أو تعرفت على أية فتاة من جيلي أو سيدة من معارفي أو أقربائي من الجيل السابق ترغب في تعلم العزف على العود أو غيره) تصريح منال نعمان،سكرتيرة استقبال في إحدى المستشفيات.

وبالعودة إلى متاجر الآلات التقليدية سائلنا العامل محمد شبير، عامل بمتجر للآلات الوترية، الذي أجابني بعربية مكسرة : ( أن سوق الآلات الموسيقية في تدهور مستمر، ومنذ فترة يقتصر نشاطنا في الصيانة وترميم الآلات، لكن حركة البيع لدينا ضعيفة بسبب أن الزبائن يفضلون اقتناء آلاتهم من الدول المجاورة عندما يسافرون لقضاء الإجازات.. صاحب المحل يعتمد على علاقاته مع بعض الفرق الموسيقية فنعمل معهم عقوداً للصيانة والترميم، وأحيانا أقنعهم بشراء بعض الكماليات والإكسسوارات.. في الشتاء الماضي نشطت المبيعات لدينا، وأعتقد أن السبب يعود إلى رغبة الشباب في تقليد نجوم الغناء اللذين يظهرون في الفضائيات. ).

( لماذا لا يكون تفكيرنا منصباً نحو إنشاء مراكز تعلم شبابنا السباحة والرماية وركوب الخيل، كما يحثنا الفاروق رضي الله عنه، بدلا من دعوتهم لتعلم الموسيقى) تنويه من صالح بن مريس.

أستاذة علوم الحاسب الآلي بكلية التربية والاقتصاد المهندسة نازك سعد، تلمح إلى أن توفر الموسيقى والأغاني،سماعياً، عبر مختلف الوسائل وبهذا الكم الهائل تؤدي بالشبيبة إلى استسهال الاستهلاك بدلاً من الإنتاج.. أن تصنع جيلا مهتما بملكاته الفنية معناه أنك قد وفرت له منذ نعومة أظفاره الأرضية التي ستهيئه لأن يكون ذو ملكات خاصة، ومن ثم ستنشط أسواق كثيرة لتلبي احتياجات هذا الجيل، سينشط سوق الآلات الموسيقية، سينشط سوق الدروس الخاصة لتعليم الموسيقى، المتغيرات سوف تسير في اطراد.. وبالتالي سينشأ جيل سيبدع موسيقى جديدة، ليست بالضرورة سيئة، وليست بالضرورة جيدة..ولكن في كل الأحوال سيكون هناك إبداع موسيقي، هذا أمر هام ويتوقف على المدخلات... ما سقته من مثل منطبق تماما على ما حدث منذ بداية التسعينات وحتى يومنا في سوق أجهزة الحاسب الآلي "الكمبيوتر".. فمنذ بداية التسعينيات بدأت المدارس في تقرير منهج الحاسب الآلي، وتربى الأطفال على استثمار هذه التقنية، والآن كما ترى سوق "الكمبيوتر" سوق ضخمة يتعامل معها مئات الآلاف، وتبعاً لذلك ارتقى مستوى استخدام الحاسب الآلي بشكل مذهل لدرجة أنه لدينا طالبات في الكلية ذوات مهارات عالية في تصميم الغرافيك والجداول والتشغيل.. ومثلما حدث في "الكمبيوتر" يمكن أن يحدث مع الموسيقى، ومن يدري ربما استطاعوا إذا أتبعنا نفس المنهجية أن تنشأ أجيال تخلصنا من التلوث الموسيقي الموجود.