صبراتة الليبية... عروس فينيقية تزفُّ نفسها متزينة إلى البحر



حسن ولد المختار: الوصول إلى محطة تاكسيات مدينة صبراتة في ميدان بورقيبة بطرابلس الغرب، في مواجهة سور "المدينة القديمة" مباشرة، ليس فقط صعباً وإنما يرقى إلى مصاف المجازفة الحقيقية. إذ ليس سهلاً أن يجد المرء أماكن يضع فيها قدميه من فرط صخب هرجة "الميدان"، ووسط شياط محلات الشاورما وروائح الدجاج المحمَّر النفاذة، وبين الأمواج البشرية المتدفقة التي يصبها "شارع الرشيد" بحركة ميكانيكية رشيقة في ميدان بورقيبة في منتصف النهار خاصة. الزحام خانق حقاً وبدوْنا ونحن نتلمس الطريق ونتدحرج كالمسطولين كما لو أننا نرقص رقصة رديئة من غير همّة على إيقاع الموسيقى القوية المنبعثة من محلات وبسْطات الباعة الجائلين وأشرطة الكاسيت التي تصدح بأعلى صوت يمكن تصوره. وبين زحام المطاعم والمقاهي ومحطات المدن الأخرى، واصلنا مع ذلك السير بإصرار ونداءات سائقي التاكسي أو كما تسمى هنا "الركوبة العامة" تتسابق إلينا، وهم ينادون بحثاً عن الركاب مرددين أسماء المدن التي يقصدونها: "مصراتة.. مصراتة"، "زليتن.."، الخُمس.. الزاوية.. زوارة.. الجميل.. رقدالين... رأس اجدير.. بو كمّاش.. زلْطن. وأخيراً.. ها هو أحدهم ينادي بأعلى صوته جالساً على مقدمة سيارته، مسترخياً في بدلته العربية الفضفاضة: "صبراتة.. لعجيلات.. صبراتة.. لعجيلات".
جلسنا في مقاعدنا مُطْرِقين بصبر والسائق من حين لآخر يعيد النداء: "صبراتة.. لعجيلات". ولحسن الحظ تمكن صاحبنا من تحصيل الركاب السبعة. وكنتُ بين الركاب الليبيين بملابسهم العربية المحلية الجميلة من "جرد" و"طاقية" و"فرملة" وغيرها، وأيضاً العمال الأفارقة بسحنتهم السمراء وملابسهم فاقعة الألوان، أبدو -وأنا البدوي، ابن الطرف الآخر من الصحراء العربية هذه- أرفل في بدلتي "الإفرنجية" كما لو كنتُ "سائحاً" حقيقياً قادماً من ليفربول أو مانشستر، مرة واحدة ودون سابق مقدمات!.


وأخيراً.. انطلقت البيجو 504 العائلية ذات اللونين الأصفر والأبيض، منسربة مع الطريق الساحلي المتجه إلى تونس، شاقة شارع قرقارش بصعوبة وسط زحام العربات أمامنا، والبحر الأبيض المتوسط عن يمنينا، يظهر.. ويختفي، خلف غابة "الإسمنت"، ووراء قضبان الحديد وأعمدة الإنارة ودوريات المرور ومحلات بيع الخضار والفواكه والمباني والفيلات الفخمة، حتى تجاوزنا جسر حي "الصياد" فتنفسنا الصعداء، أخيراً، بعد أن بدأ ضغط المدينة الخانق وزحامها ينزاحان.. أخيراً عن صدورنا. وحين هبت علينا نسمة بحر لطيفة، تذكر أحد الركاب الشباب ببراءة فجأة، على ما يبدو، حبيبته، فأخرج هاتفه المحمول، وكان علينا نحن الآخرين أن نسترق السمع لبعض الأسرار البريئة، واستمرت المحادثة بشيفرة خاصة: "هكِّي درْتي؟"، "والنبي؟"، "باهي"، "توَّا انشوف"، "انجيكم غادي؟"، ومن حين لآخر تعوم على سطح الحديث عبارات أخرى "صريحة"، أعني غير مشفرة برطانة المحبين الصغار. وأخيراً أدار السائق شريطاً يعج بالأغاني العذبة ذات الكلمات الساحرة، الطافحة بذكريات الزمن الجميل، قال إن من يغني فيه هو "الشيخ الصديق بوعبعاب"، واستمر الشريط من أغنية لأخرى لا يقطعه سوى محادثات مقتضبة بين الركاب بعبارات من اللهجة الليبية الفصيحة تذكر بكلمات بعض أغاني محمد حسن الشجية وأشعار علي الكيلاني الشفافة.


صرنا الآن نسير على بساط أخضر وخطوط مزارع الزيتون الجميلة دقيقة التخطيط على يسارنا، تمضي مع المدى إلى منتهى البصر، والبحر الأبيض المتوسط كعادته يلعب معنا لعبته الظريفة، يظهر.. ويختفي، وحين اقتربنا من مدينة "الزاوية" لم نعد نحس له أثراً كأن المدينة شربته. ربما لأن عبقرية أحد "فطاحل" مهندسي الطرق ارتأت أن عابر السبيل لا يستحق هو الآخر رؤية البحر، من قريب. (وعلى كل حال أتفهم أنا الآن ظروف ذلك المهندس، أتخيّله رجلاً أبيض مشرباً بحُمرة، ممتلئاً، متوسط العمر، كث الشارب، يبدو بياقته الزرقاء كأحد عتاة البيروقراطيين. قدِم إلى هنا من أوروبا في منتصف السبعينيات، بعد أن فازت شركته بمناقصة إنشاء هذا الطريق الساحلي المتجه إلى تونس. وكان مجلس إدارة الشركة يلحُّ عليه بإتمام العمل وفق زمن العقد المحدد مسبقاً، في حين كانت حبيبته هناك في أوروبا تلح عليه هي الأخرى بالعودة لرؤيتها. كان المسكين بين نارين، وكان طبيب الشركة، بكل تأكيد، ينصحه بتعاطي جرعات قوية من عقار "البروزوراك" المضاد للاكتئاب، من فرط ضغط العمل، وتباريح الجوى، والحنين إلى أرض الوطن، وتقطع وصول البطاقات البريدية والأخبار السارة القادمة من الجانب الآخر من هذا البحر الثرثار الذي ظل يحمل حكايات شاطئيه ويرميها عبر أمواجه في كلا الاتجاهين).


وعلى العموم فقد كان من رسم سير خط هذه الطريق مهندساً حادَّ المزاج، وقاسياً في ملامحه بعض الشيء، فقد جعل الطريق من الآن يتلوَّى على غير هدى في الأطراف الجنوبية من مدينة الزاوية التي دُرنا حولها دورة شبه كاملة تقريباً، دون أن ندخلها مع ذلك للمفارقة، ودون أن تكون كالعادة في دورتنا البطوطية هذه إطلالة واحدة على البحر. وحين تجاوزنا الزاوية ودخلنا بلدتي "الحرشة" و"صرمان"، لم يجد جديد، سوى بساط يتضاءل من الخضرة واخطبوط من الزحام وغابات الاسمنت المتجهِّمة التي أصبحت الآن أمراً واقعاً لا مهرب منه، كما يقال. وأخيراً.. قرأنا اللافتة قبل الجسر عن يمين الطريق بصعوبة لتخبرنا بأننا دخلنا الآن مدينة صبراتة، (ولحسن الحظ كل اللافتات هنا دون استثناء باللغة العربية وبخطوط شرقية جميلة للغاية). ومن المحطة أخذنا رأساً سيارة خاصة مضت بنا إلى آثار المدينة على شاطئ البحر تماماً، دون دليل سياحي، ودون ترتيبات، وحتى دون قطع تذكرة زيارة، كما هي العادة لدى زيارة المتاحف والمواقع الأثرية في البلدان الأخرى.
وحين وصلنا القصد ندمنا صراحةً على كل ما جمعناه من النشرات السياحية ومن كتب التاريخ والآثار المتعلقة بصبراتة، لأن من رأى ليس كمن سمع، كما يقال في الأمثال القديمة، ولأن نظرة سريعة واحدة إلى هذه الأوابد الدهرية الجاثمة متحدية أمواج البحر وعاديات الزمان، كانت كافية لإعداد هذا "التحقيق"، وأكثر.
لقد اخترنا أن يكون تحقيقنا، هذه المرة، سياحة خالصة في الزمان.. لا المكان. صعوداً وارتقاء مع صبراتة إلى أيامها الأولى ومواسمها القديمة الخالية. وإن كنا سنكتفي في حديثنا عن المكان عامة بوصف سريع لأبهة المشهد وعبقرية الموقع، محاولين رسم ملامح مدينة عربية ظلت تخفر البحر الأبيض المتوسط منذ عشرات القرون. مدينة يتصافح عند ثناياها وحكاياها ما اعتاد الناس أن يسموه عادة زماناً ومكاناً، تاريخاً وجغرافيا.


تاريخ ومواسم
تقع مدينة صبراتة التاريخية على بعد 67 كلم غرب العاصمة الليبية طرابلس، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وسط وشاح أخضر تلتقي عنده نهايات سهل جفارة الفاصل بين حواف الجبل الغربي الليبي ومياه البحر الأبيض المتوسط شديدة الزرقة. وعلى بعد كيلومتر واحد من شوارع المدينة الحالية وبساطها الأخضر وعماراتها وحركتها الدائبة، تجثم بجلال وسكينة آثار مدينة صبراتة الفينيقية الرومانية القديمة بجدرانها الدهرية الفخمة، ومدافنها البونيقية، وأعمدتها المرمرية، ومسرحها الفخم المرمَّم، وممراتها المرصوفة، متحدية عاديات الزمان، وشاهدة على ما عرفته المنطقة المغاربية عامة من حضارات ودول، وعصور ومواسم. فالأضرحة الفينيقية تتحاور وتتجاور مع الآثار الرومانية الهائلة المتجهمة التي تحمل هي الأخرى الكثير من قسمات الرومان أنفسهم، وتنبئ عن الطينة التي خبزوا منها. مثلما يشي موقع المدينة الساحر والاستراتيجي بمدى حنكة ورقة بل وشاعرية مؤسسيها الأصليين الفينيقيين.


ذاكرة المكان
ليس ثمة اتفاق بين المؤرخين على تحديد دقيق لتاريخ تأسيس مدينة صبراتة، وإن كان البعض يرجح أن تكون أسست في القرن السادس قبل الميلاد، و(تؤيد هذا الكلام الحفريات التي أجريت بمدينة صبراتة في المنطقة ما بين الفورم والبحر، حيث وجدت بها آثار فينيقية تتمثل في مصاطب رملية، كان الفينيقيون يقيمون فوقها أكواخاً مؤقتة لفترة قصيرة من السنة. وأثناء الحفريات وجدت فوق المصاطب طبقات سميكة من الرمال، وهذا دليل على أن الموقع ظل مهجوراً لفترة زمنية طويلة. وفي تلك الأكواخ وجدت جرار بونيقية، وقدور يونانية ترجع للقرنين السادس والخامس قبل الميلاد).
وعلى جانب المدينة الفينيقية بنيت المدينة الرومانية بمسرحها ذي المدرجات الفخمة وبيوتها العالية، وأعمدتها وأقواسها، ليتشكل من الحيين معا، ما يمكن اعتباره مدينة كبيرة بمقاييس ذلك العصر، وهي مدينة كانت تشكل بمرساها أحد أهم المراكز التجارية على الساحل الإفريقي لحوض البحر الأبيض المتوسط، وإحدى المدن الثلاث التي سمي بها إقليم طرابلس، وهي: لبدة الكبرى (في ضواحي مدينة الخمس الآن)، و"أويا" (طرابلس الحالية)، وصبراتة، ومن هذه الحواضر الفينيقية الشقيقات الثلاث سمي الإقليم كله طرابلس ( Tripoli ) أي "المدن الثلاث".
أما بالنسبة لتسمية صبراتة تحديداً، فقد وجد اسم المدينة بصيغة (صابرات) Sabrat على العملة البونيقية الحديثة، وأحياناً صبراتن ( Sabratan )، (ولاحظ هنا صيغة التعريف بالتنوين "تن" في اللغات العروبية القديمة والفينيقية من بينها)، وتعني هذه العبارة (سوق الحبوب)، ولذا يرجح بعض المؤرخين أن المدينة كانت تلعب دورا كبيرا في المبادلات التجارية بين شرق وشمال المتوسط من جهة، وتجار محاصيل المنطقة الطرابلسية وحتى الجبل الغربي (جبل نفوسة) وغدامس من جهة أخرى، وإن كان المؤرخ "فيليب وارد" يرى أن يونان جزيرة صقلية هم من كانوا يصدِّرون الحبوب إلى صبراتة لا العكس، وأنها كانت بمينائها مجرد واجهة بحرية لمدينة أخرى تحمل هي أيضا اسماً شبيها هو (صابرية) ولكنها في عمق البر وهي التي تعرف الآن باسم "الجوش"، وما زالت قائمة بهذا الاسم حتى اليوم.
وقد ذكر المؤرخ بلينيوس الأكبر plinius في كتابه (التاريخ الطبيعي) وكذلك بطليموس في كتابه (الجغرافيا) أن اسم صبراتة أطلق لتحديد منطقتين الأولى بالداخل وكانت تدفع الضرائب للثانية الساحلية. والمصادر التاريخية تذكر وجود آثار رومانية بالقرب من بلدة الجوش الحالية، وهذا دليل على سابق وجود مدينة مهمة هناك. والمصادر التاريخية نفسها تسمي هذه المدينة صابرية Sabria وهو يشبه اشتقاقاً اسم المدينة الساحلية صبراتة التي نتحدث عنها هنا.
وإذا رجعنا مع التاريخ إلى الوراء أكثر نجد أن بداية تأسيس المدينة، مرتبطة بموجة الاكتساح الحضاري الفينيقي لسواحل حوض البحر المتوسط. وربما يكون من الضروري أن نشير في هذا المقام، إلى أن الفينيقيين هؤلاء هم شعب سامي عربي، كان يتركز أساسا ببلاد الشام، وتحديدا في جبال لبنان الحالية التي وفد إليها من جنوب وجنوب شرق الجزيرة العربية. وقد مهر الفينيقيون خاصة في الملاحة البحرية والتجارة، وكانوا شعبا وديعا مسالما، وهم من بنى صور وصيدا وغيرهما من حواضر بلاد الشام، كما أسسوا مراكز حضرية في جزر المتوسط، ووصلوا أسبانيا وبريطانيا، وكانوا يمرون بمحاذاة شواطئ شمال أفريقيا ليتمكنوا من اللجوء إليها في حالة هبوب العواصف العاتية. ومع مرور الوقت أسسوا عددا كبيرا من المدن على هذه الشواطئ الأفريقية الشمالية كانت أبرزها قرطاج، والمدن الطرابلسية، وجزيرة قرقنة بتونس، وقابس، وحضرموت (سوسة بتونس الآن)، وهيبو رجيبس (عنابة)، وغيرها.
وهكذا نلاحظ أن الفينيقيين لم يسكنوا هذه المحطات فحسب بل إنهم أسسوا العديد منها من البداية. وكان غالبها مجرد محطات صغيرة أقيمت على الشاطئ في كل 30 كلم تقريبا، وذلك خوفا من الابتعاد عن السواحل ولكي يستريحوا من تعب السفر ويتزودوا بالطعام والماء ويستطيعوا إصلاح سفنهم إن أصابها عطل. وقد لعبت تلك المحطات الساحلية الفينيقية المتتالية التي أنشئت لأغراض ملاحية وتجارية، دور الوطن البديل الذي هاجرت إليه موجات من الفينيقيين بعدما اشتد عليهم ضغط الآشوريين في وطنهم الأصلي لبنان، حيث قام مهاجرون من صيدا بالاستيطان نهائيا بالإقليم الطرابلسي، ولحق بهم آخرون من صور أيضاً.
ولكن الكتـَّاب القدماء يختلفون في أي من هذه المدن الفينيقية أنشأتها مدينة صور وأيها التي أنشأتها مدينة صيدا، ويخبرنا الشاعر اللاتيني سيليوس إيتاليكوس أن مدينة صور ومهاجريها هم من أنشأوا مدينتي لبدة وصبراتة، ولكن من قام بإنشاء مدينة أويا (طرابلس) هم مهاجرون من صقلية من أصل فينيقي. أما المؤرخ سالوستيوس كرسبيوس 86 - 34 ق.م، والذي كان ينتمي إلى أسرة من العامة وشغل منصب (بروقنصل) لإفريقيا الجديدة في عهد قيصر، فقد قال إن مهاجرين من صيدا هم من أنشأ مدينة لبدة الكبرى. وعند مقارنتنا لرأيي الكاتبين يتبين لنا أن الكتاب اللاتين كانوا يخلطون في كتاباتهم بشكل واضح بين مدينتي صيدا وصور. والمقصود في المحصلة هو أن صبراتة والمدن الطرابلسية عموماً قد أسسها واستقر بها الفينيقيون أولا قبل غيرهم، بغض النظر عن المدينة اللبنانية التي جاءوا منها أصلاً.
وعلى أية حال فإن مدينة صبراتة لم تبلغ أوج ازدهارها إلا بعدما بسطت عليها قرطاجة سيطرتها إثر تدخلها لطرد اليونان الذين حاولوا بقيادة دوريوس بناء مستوطنة بإقليم غرب ليبيا عند مصب وادي كنبس (وادي كعام) قرب مدينة "لبدة"/ الخُمس. وقد شارك الأهالي إلى جانب الفينيقيين في الدفاع عن المنطقة، وظلت المدينة قرطاجنية مع نوع من الحكم الذاتي حتى تمكن الرومان من تدمير قرطاج نفسها وإحراقها نهائيا في نهاية الحروب البونيقية 146 ق.م، لينتهي بذلك حلم فينيقي جميل - كما تروي الأساطير - بدأته مؤسسة قرطاجة عليسة شقيقة الملك الصوري بجماليون، وانتهى تقريباً بنهاية مغامرة القائد الحربي الفينيقي الفذ هانيبعل الذي غزا روما ملتفاً عليها من الشمال عابراً إسبانيا وجبال الألب.


معابد وآلهة.. بالجملة
أما على مستوى الحياة الروحية فقد كانت تسود صبراتة قديماً الديانات الشرقية التي استقدمها الفينيقيون، المتميزة بتعدد (الآلهة) الأسطورية، وفي مقدمة تلك الآلهة، الإلهة (تانيت بينبعل) التي هي في الأصل الإلهة (إسطرطة) إلهة القمر عند الفينيقيين بمدينة صور، وكانت بمثابة الإلهة (هيرا) زوجة الإله زيوس عند اليونان، وفي مقام الإلهة (يونوسيليستس) زوجة الإله جوبيتر عند الرومان.
ويعتقد الكاتب والباحث في مجال التاريخ أحمد صقر في كتابه (مدنية المغرب العربي في التاريخ) أن (تانيت بينبعل) كانت تعبد كإلهة للبذر والحصاد والتناسل ويستغاث بها عند الولادة. وقد دلت (الحفريات التي أجريت بمنطقة رأس المنفاخ بمدينة صبراتة في سنتي 74 1975م أن الإلهة "تانيت" (كانت) هي المعبود الرئيسي بالمدينة حيث إن معظم الأحجار النذرية التي وجدت بالمقبرة البونيقية تحتوي على عظام الأطفال المحروقين والمقدمين قربانا للإله "بعل". ومن بين الأدلة (الأركيولوجية) الأخرى التي تبين وجود عادة التضحية بالأطفال، تلك الصورة المنحوتة على النصب التذكاري الموجود بتونس والذي يمثل كاهناً يرتدي جبة شفافة وهو يرفع يده مبتهلا ومتضرعا إلى المعبود "بعل" ومقدما له القرابين).
وقد اصطلح علماء الآثار على تسمية الجرار والمدافن التي تحوي عظام أطفال محروقة كقرابين فينيقية، باسم (توفيت). ويؤكد وجود مثل هذه العبادة المؤرخ اليوناني القديم بلوتارخ (45 125م) الذي يقول إن (المؤمنين الحقيقيين كانوا لا يترددون في تقديم أطفالهم قرابين على مذبح الآلهة، أما الأغنياء ذوو العقلية الواقعية فقد كانوا يقدمون للآلهة صغار الرقيق أو يشترون أبناء الفقراء ويستعيضون بهم عن أبنائهم قرابين).
وقد استعيض لاحقاً عن تقديم قرابين بشرية بقرابين من الماعز والماشية، والدليل على ذلك أن الأواني الفخارية التي اكتشفت برأس المنفاخ بصبراتة كانت ملأى بعظام ماشية محروقة، حيث إن الإله بعل حمون استعاض عن الضحية من الأطفال بالضحية الحيوانية التي تكون غالبا خروفاً أو جدي ماعز سميناً. وقد أيدت هذا الكلام الحفريات الأثرية، وكذلك النقوش التي وجدت على النصب الرومانية في نقاوس، حيث يقول النقش: "روح بروح ودم بدم وحياة بحياة"، وهذه العبارة تعني أن الإله "بعل" قد قبل التعويض عن حياة البشر بحياة الحيوان، كما تعد دليلا على أن الديانة التوحيدية (ملة إبراهيم) عليه السلام، قد عرفت طريقها إلى الفينيقيين في آخر عهودهم أيضاً.
وحين بسط الرومان سيطرتهم على المدينة بالغوا في بناء مبان ضخمة مازال بعضها قائما حتى الآن بصبراتة كالمسرح ومعبد الفورم، والأقواس الفخمة التي تذكر بقوس ماركس أورليوس.
لقد عرفت مدينة صبراتة القديمة ازدهاراً شديداً على المستويين الفكري والتجاري، وقد سجلت لنا وثيقة تاريخية جو الصراعات الفكرية بين رومان صبراتة هي كتاب المطارحات الشهير: (دفاع صبراتة).
وحين أضاء الإسلام ظلام العصور ووصل الفاتحون المسلمون الأوائل لشمال إفريقيا أبواب مدينة صبراتة، فتحت لهم ذراعيها بكل حب، كما تحدِّثنا كتب المغازي، أن أهالي هذه المدينة فتحوها للمسلمين صلحاً دون قتال، ربما لأن الأرض تحن إلى أهلها، فهذه المدينة العربية الفينيقية رأت في الفتح العربي الإسلامي عودة إلى الأصل وخلاصاً من براثن الغزاة الأجانب الرومان.
وبعد عدة قرون من صراعات دول شمال أفريقيا الإسلامية وقع تهميش هذه المدينة كلياً بعدما نهضت مدن أخرى في الدواخل، كانت أكثر أمناً، وأبعد عن طارقي البحر وغزاته ومغامريه. ومنذ ذلك التاريخ تآكل الكثير من أحياء المدينة وحل بالبعض الآخر الخراب، وذلك لطبيعة المواد التي استعملت في البناء، ومعظمها من الحجر الجيري المغطى بطبقة من الجبس (الستوكو). وبفعل عوامل التعرية والرطوبة، كانت طبقة الجبس تتآكل مع الزمن لتنهار بعد ذلك المباني ويتحول بعضها إلى أكوام من الحجارة، والأعمدة المنهارة أو المتصدعة.
وقد ذكر الرحالة اليعقوبي أواخر القرن الحادي عشر الميلادي أنه مر بصبراتة وأن بها مبانيَ، وتماثيل فخمة. أما الرحالة التيجاني فقد مر بها في القرن الرابع عشر ووصف أعمدة الرخام والمباني بقوله (وبهذه المدينة آثار قديمة وأعمدة مرتفعة من الرخام قائمة إلى الآن لا بناء يكنفها، ووجِدتْ ساريتان منها متجاورتان على شكل واحد وكل واحدة مؤلفة من أربع قطع في غاية الفخامة والارتفاع وحسن الصنع).
كما وصف آثار صبراتة الكثير من الرحالة الأوروبيين في القرن التاسع عشر الميلادي مثل (بارت) الذي تحدث عن (المسرح والأعمدة والأقواس وقد رأى أيضا رصيف الميناء، وتمثالين من الرخام أحدهما لامرأة ذات جسم متناسق). كما وصفها الرحالة (فون مالتزان) ووصف المسرح الدائري، والتماثيل والميناء وبعض الأبنية البيزنطية المتأخرة. ومع الاحتلال الإيطالي لليبيا 1911 قررت الحكومة الإيطالية تكليف بعثة من كبار المؤرخين وعلماء الآثار بالبحث عن الآثار الرومانية بصبراتة وغيرها من المدن الليبية، وذلك لأنها كانت ترفع شعار أن طرابلس هي شاطئ روما الرابع من الناحية "التاريخية"، وبدأت الحفائر المكثفة بصبراتة من سنة 1923 إلى 1936، وأدت إلى اكتشاف وترميم معظم مباني وشوارع ومسرح ومدافن المدينة القائمة حتى الآن.
وربما تكون هذه هي الحسنة الوحيدة التي تركها الإيطاليون بليبيا وإن كانوا نهبوا أيضاً الكثير من الآثار، التي لا تقدر بثمن. ثم رمم في مرحلة لاحقة الضريح البونيقي الشهير العائد للقرنين الثالث والثاني قبل الميلاد والذي هو مسلَّة شاهقة، ترى مع المسرح من عدة كيلومترات.


لحظة الوداع...
وبعد أن فرغنا من قراءة أسفار مدينة صبراتة الأثرية بأوابدها ومعابدها، عدنا ثانية إلى المدينة الحديثة بشوارعها وعماراتها وعربها الودودين، واستمتعنا برؤية مغارس نخيلها وزيتونها وأرضها شديدة الخضرة الممتدة حتى دحمان وصرمان شرقا، وجبار والعجيلات وسوق الجمعة "سوق العلالقة" جنوبا. وعندما اتجهنا غرباً إلى تونس، بدأت الخضرة تنحسر عند سبخة مدينة زوارة غرباً، أما في الشمال فظلت تشيِّعنا أهازيج أمواج البحر الأبيض المتوسط، وتهدْهِدُنا أشواق اللقاء بعاصمة فينيقيي شمال إفريقيا، قرطاج، تونس الخضراء، غداً: إننا ذاهبون لزيارة عاصمة هانيبعل.
-----
*قاص موريتاني

[email protected]