سفير سوريا في واشنطن: لن نبيع العراق من أجل إرضاء أميركا

منذ بدء الحرب في العراق والإدارة الأمريكية لا تتوقف عن توجبه الانتقادات لسوريا لعدم التعاون في ضبط حدودها مع العراق ومنع المسلحين من التسلل عبر حدودها، ومن ثم انتهجت الإدارة سياسة لمقاطعة وعزل سوريا، لكن توصيات تقرير هاملتون ndash; بيكر لم تتفق مع هذه السياسة ودعت الولايات المتحدة إلى الانفتاح والانخراط في حوار مباشر مع كل من سوريا وإيران لحل الأزمة العراقية. توجه تقرير واشنطن بمجموعة من الأسئلة إلى السفير السوري لدى واشنطن الدكتور عماد مصطفى لاستبيان وجهة النظر السورية حول هذه الاتهامات وتوصيات مجموعة دراسات العراق ومستقبل العلاقات السورية الأمريكية وفيما يلي نص المقابلة التي أجراها مراسل تقرير واشنطن مع السفير السوري في 18 ديسمبر2006:


*سعادة السفير، نبدأ بتوصيات تقرير بيكر أو ما يعرف رسميا بمجموعة دراسة العراق، حيث كان من ضمن التوصيات الرئيسية للتقرير ضرورة الانفتاح سوريا وإيران وإجراء محادثات مباشرة مع الدولتين. الإدارة الأمريكية ترفض رسميا إجراء محادثات مباشرة وتضع شروطا مسبقة للحوار مع كل من سوريا وإيران. ما رأيكم في كل من التوصيات ورد فعل الإدارة الأمريكية؟


السفير عماد مصطفى: القضية أعمق قليلا من مجرد تقرير بيكر. تاريخيا وعبر تاريخ الدبلوماسية العالمي، هدف الدبلوماسية والسياسة الخارجية هي أن تبني التحالفات وتحل الخلافات، فأنت تحل الخلافات مع خصومك وليس مع حلفائك وأصدقائك. الولايات المتحدة وسوريا لا توجد بينهما بالأصل خصومة صرف، فنحن لسنا أعداء للولايات المتحدة في الأصل، ولم نكن ننظر أبدا إلى الولايات المتحدة كطرف في صراع الشرق الأوسط ، ولكن سياسات الولايات المتحدة بدأت تتزايد انحيازا باطراد، حيث لم تأخذ الولايات المتحدة هذا المنحى شديد الانحياز إلى إسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي منذ اللحظات الأولى لقيام إسرائيل، ونتذكر أثناء العدوان الثلاثي عندما وجهت الولايات المتحدة إنذارا إلى إسرائيل بسحب قواتها من مصر.
ودون الإطالة في الخلفيات التاريخية، نجد أن الولايات المتحدة بتقاليدها السياسية دائما تتكلم مع الأطراف التي تختلف معها خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق، مع الصين... ، وهذا ليس شأنا أمريكيا صرفا، هذا هو شأن المدرسة الدبلوماسية العالمية.


*طالما كان الحوار مع الخصوم من تقاليد السياسة الأمريكية، ما الذي تغير إذن؟

السفير عماد مصطفى: الظاهرة الجديدة هي أن عناصر مؤدلجة تسللت إلى السلك الدبلوماسي الأمريكي، ثم إلى مراكز صنع القرار في البيت الأبيض، في مجلس الأمن القومي، في مكتب نائب الرئيس، عناصر يطغى عليها ما يسمى فكر المحافظين الجدد. وهذه العناصر تبنت مواقف شاذة وغريبة خالفت التقاليد السياسة الأمريكية ذاتها، مثل: نحن لا نتكلم مع هذه الدولة، هذه الدول مارقة، هذه الدول شريرة، إرهابية. هذه العقلية التي تقسم العالم إلى أخيار وأشرار، أبيض وأسود، معنا أو ضدنا، هي العقلية التي تغلغلت وسادت في أوساط الإدارة الأمريكية تعارض مصالح الولايات المتحدة نفسها.

وهناك قوى مهمة اليوم على الساحة الأمريكية بدأت تشكك بشكل جدي في أهداف السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. هذه السياسات التي أفرزت المشاكل التي نعاني منها الآن، فالشرق الأوسط بفضل هذه السياسة أصبح أكثر اضطرابا وأقل استقرار، العنف يزداد في الشرق الأوسط،، سفك الدماء والخراب والتدمير كلها ثمرات مباشرة للسياسات الأمريكية التي أسست على عقيدة المحافظين الجدد. وكان من نتائج هذا الواقع أن بدأت النخبة السياسية الأمريكية في التمرد على هذه التوجهات، حتى أن بعض أقطاب المحافظين الجدد بدءوا يعلنون ندمهم علنا ، ويعتبر تراجع فرنسيس فوكوياما ونقده لأفكار المحافظين الجدد مثالا صارخا على ذلك، حيث طالب يوما ما بتطهير وزارة الخارجية من هؤلاء المستعربين المضللين الذين يصابون بنفس المرض الذي تصاب به الشعوب العربية وهو حب تضليل النفس ، نقلا عن فوكوياما. فالأمور بدأت تتغير الآن ، فالقلعة الأخيرة والحصن الحصين للتشبث الأيدلوجي هو في الإدارة الأمريكية. الكونغرس بدأ يتغير وعندما أقول الكونغرس لا أقصد الديمقراطيين فحسب، بل إن كبار رجال الكونغرس من الجمهوريين أصبحوا مدركين اليوم أنه لابد من إعادة النظر في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وأنه لابد من الانخراط في حديث جدي مع دول مثل سوريا.
إذن، هناك تيار سائد في النخبة السياسية، وهو الأمر الواضح في مختلف وسائل الإعلام التي بدأت تطالب في الشهور الأخيرة بضرورة الحوار والانفتاح مع دول هامة وفاعلة تقاطعها الولايات المتحدة. وفي هذا السياق نجد أن تقرير هاملتون- بيكر جاء كتتويج وانعكاس لتلك المطالب، ولم يأت كحالة منفردة. وهو يتكلم بوضوح وصراحة عن فشل سياسات الولايات المتحدة في العراق ويتكلم ضمنا عن فشل هذه السياسات عبر كل الشرق الأوسط، والحاجة إلى إعادة نظر جذرية في هذه السياسات، والبحث عن حلول شاملة ، وإلى إعادة الانخراط مع سوريا وإيران ودول أخرى.


*سعادة السفير، روجت إدارة الرئيس بوش في فترة حكمها الأولى أفكارا ومشاريعا مثل الشرق الأوسط الجديد ودمقرطة المنطقة. بمرور الوقت تلاشت هذه الأفكار وسمعنا عن أفكار جديدة وتقسيم دول وأنظمة المنطقة إلى معتدلين ومتطرفين. ما تعليقكم على هذه التقسيمات؟


السفير عماد مصطفى: يمكن النظر إلى ذلك بوصفه النزع الأخير في سياسة فاشلة لا زالت تتشبث بأساليب التقسيم والتفرقة والتصنيف. صحيح، هناك حديث عن إضعاف ما يسمى بالدولة المتطرفة وتقوية ما يسمى بالدولة المعتدلة. يصفون سوريا بأنها دولة متطرفة وهذا غريب، فسوريا قد دعت علنا خلال السنوات الماضية إلى إعادة إحياء مسار العملية السلمية بين سوريا وإسرائيل. إسرائيل هي التي ترفض، ومع ذلك تصنف على أنها معتدلة. إسرائيل قصفت لبنان بشكل إجرامي خلال شهر تموز الماضي، فدمرت بنيته التحتية، ودمرت مدنه وقراه، وقتلت ما يزيد عن ألف وثلاثمائة مدني لبناني، ولكنها دولة معتدلة! وسوريا طلبت منذ اليوم الأول بوقف إطلاق النار، وهي دولة متطرفة! المفاهيم مشوهة جدا، ولا نريد أن نخوض الآن في حرب مفاهيم.

*ما مستقبل هذا التصنيف؟

السفير عماد مصطفى: تبنت الولايات المتحدة سياسة عزل الدول التي لا تتوافق معها سياسيا، مثلا عزل سوريا، عزل إيران، عزل الحكومة الفلسطينية المنتخبة، عزل حزب الله. الحقيقة أن هذه السياسات لن تؤدي إلا إلى إضعاف قدرة الولايات المتحدة على التأثير كلاعب مهم في الشرق الأوسط،. واليوم تتخبط الولايات المتحدة، ولا تجد طريقة لتحويل عقيدتها المتطرفة إلى سياسة تثمر عن نتائج.


*هناك ثلاثة ملفات شائكة أو اتهامات توتر في العلاقات الأمريكية السورية، هي: التدخل السوري في الشأن اللبناني، دعم المنظمات الفلسطينية التي توصف بالإرهابية، وعدم التعاون في ضبط حدودها مع العراق والسماح بتسلل المسلحين. فما هو التصور السوري ، وإلى أي مدي يمكن أن تقدم سوريا تنازلات في هذه الملفات الثلاثة؟


السفير عماد مصطفى: الحقيقة القضية برأينا نحن في سوريا معاكسة، فالعلاقات السورية الأمريكية متوترة لسبب وحيد، هو أن سوريا تمانع المشروع الذي يلبس اللبوس الأمريكي ولكنه هو مشروع صهيوني متطرف في المنطقة العربية. ما يحدث الآن في فلسطين، في لبنان، في العراق، لن أسميه مشروعا إسرائيليا، ، لأن هناك قوى في إسرائيل تريد أن تجد حل عادل ومشرف. أما حكومة الولايات المتحدة وبدلا من أن تشجع الجناح المؤيد للسلام في إسرائيل، فإنها تتبني الطيف الأكثر تطرفا من السياسات المتشددة صهيونيا في إسرائيل. وتتبناها الإدارة لأنها تتناغم معها، وكأنها سياسة أمريكية صرف.

اتهامات باطلة
أما عن الاتهامات الآلية التي توجه لسوريا، فقد أصبحت سوريا فجأة كما تقول كوندوليسا رايس هي المسئولة عن عدم الاستقرار في المنطقة، فنحن الذين احتللنا العراق، ونحن الذين دمرنا بنيته التحتية، ودمرنا حكومته المركزية،ونهبنا متاحفه، وأقمنا السجون فيه. ونحن الذين أذقنا الشعب الفلسطيني أبشع أنواع الاضطهاد خلال ستين سنة. ونحن الذين قصفنا لبنان في الحرب الأخيرة. والحقيقة التي لا تقبل مجالا للنقاش أننا الذين أوقفنا حربا أهلية في لبنان دامت خمسة عشر عاما. وبعد دخول القوات السورية، أعاد لبنان بناء مدنه واقتصاده. هذا ما حققناه وانظر إلى ما حققوه هم في العراق.

لا نقدم تنازلات
نحن لا نقدم تنازلات ، بالأصل لو كنا مستعدين لتقديم تنازلات للسياسة الأمريكية لما كنا وجدنا أنفسنا في صدام مع الولايات المتحدة. فسوريا قد اتخذت خيارا استراتيجيا بأنها لن تدعم الاحتلال الأمريكي للعراق،فالقضية غير قابلة للمساومة ، فهل يجب أن نبيع العراق من أجل رضا الولايات المتحدة، وهو رضا لن يحقق لنا شيئا. موقفنا واضح، قبل الحرب على العراق كانت سوريا عضوا في مجلس الأمن مانعت بأقصى حد غزو العراق، وكنا على علاقة طيبة بالولايات المتحدة فنصحناها بأن هذا المشروع سيحيق الدمار والخراب بالعراق، وسيلحق الضرر بالمصالح الأمريكية لم يصغ لنا أحد. وبعد الغزو مانعناه ولا نزال نمانعه حتى اليوم.

نتعاون مع الحكومة العراقية
وعلى الرغم من كل الاتهامات الكاذبة ، فالواقع هو إن سوريا تتعاون مع الحكومة العراقية لضبط الحدود والأمن ونحن ندعم العملية السياسية في العراق ليس من أجل للولايات المتحدة أو تنازلا لها ولكن حرصا على العراق، وعلى وحدة أراضيه وشعبه وحزنا على المآسي العظيمة التي يتعرض لها العراقيون.

ابتزاز الرئيس الفلسطيني
أما فيما يتعلق بالملف الفلسطيني، فنحن لا نتدخل في الشأن الفلسطيني، بل ندعو جميع القوى الفلسطينية إلى الحوار الداخلي وإلى الوئام بما يعكس المصلحة الوطنية، طالبنا الرئيس الفلسطيني وحكومة حماس بتنحية الخلافات جانبا وتشكيل حكومة وحدة وطنية. لكن الولايات المتحدة تمارس أبشع أنواع الابتزاز والضغوط على الرئيس الفلسطيني لكي لا يشكل حكومة وحدة وطنية مع حماس وهذا كلام غير مقبول. البارحة مصطفى البرغوتي، وهو وسيط محايد تحدث بصراحة عن الضغوط الفظيعة التي تمارسها الولايات المتحدة على الرئيس الفلسطيني وهذا يعني أنهم يحاولون تحريض الشعب الفلسطيني بعضهم على بعض، تماما كما يفعلون الآن في لبنان ،فاليوم هناك جزء كبير من الشعب اللبناني يختلف مع الحكومة اللبنانية ولكنه لا يقوم بأعمال إرهابية أو عسكرية ، فهو يقول للحكومة اللبنانية إما أن توسعها إلى حكومة وحدة وطنية أو تدعو إلى انتخابات جديدة، وهذه خيارات ديمقراطية، وهو شأن لبناني صرف. ولكن التحريض الأمريكي مستمر ضد بقية اللبنانيين وضد سوريا. سياسات لن تؤدي إلا أن يحدث إلا كما حدث في العراق، خراب ودمار على الأرض وفشل ذريع للسياسة الأمريكية.


*في ظل تلك المعطيات والمقاطعة بين الولايا المتحدة وسوريا، ما هي من وجهة نظر سوريا أفاق العلاقات بين الدولتين؟


السفير عماد مصطفى: الكرة في ملعب الإدارة الأمريكية. ماذا تستطيع سوريا أن تفعل ؟ قلنا للأمريكيين مرارا وتكرارا أننا مستعدون في اللحظة التي تريدون أن نجلس معكم ونتحاور بشكل صادق وبشكل جدي حول مشاكل العراق مشاكل فلسطين. ولكن ماذا تفعل عندما يكون لديك إدارة بهذا الشكل مؤدلجة أو عقائدية. لا تستطيع أن تفعل شيئا. الشيء الوحيد الذي بإمكانك أن تفعله أن توجه لها النصح تلو النصح ، وتنتظر علها تخرج من قوقعتها. فهي تحيط نفسها بقوقعة عقائدية، وعندما تستمع إلى تصريحات الساسة الأمريكيين تذهل من الأفكار العقائدية المتخشبة التي لا علاقة لها بالواقع. فنحن في سوريا ننصح الإدارة ونعبر عن رغبتنا وعن استعدادنا للانخراط الصادق والجدي في اللحظة التي يريدون، وإذا كانوا لا يريدون فلا نستطيع أن نجبرهم، ولكن يحزنني أن نراهم يتخبطون في هذه السياسات الخاطئة.