بغدد: لم يكن أبو سلام يتصور أنه سيعمل حمالا في مدينته الجنوبية، السماوة، وهو يقترب من نهاية العقد السابع من عمره، لكن مقتل ولديه بعد الاجتياح الأمريكي للعراق جعله يقبل بهذه المهنة الشاقة ليعيل نفسه وزوجته التي تردد دائما عبارتها الصادمة quot;إن من خصوصيات العراق أن يموت الأبناء قبل آبائهم وأمهاتهمquot;. أبو سلام، الذي كان أحد ولديه المقتولين شرطيا وكان الثاني طالبا في كلية الهندسة، هو أحد المسنين العراقيين الذين ما زالوا يخوضون غمار الحياة بعد أن فقدوا أحلامهم بالراحة في الفصل الأخير من أعمارهم، حتى أنهم لم يعلموا أن الدنيا من حولهم كانت تحتفل قبل أيام بيوم المسنين العالمي.
وأتى يوم المسنين العالمي في الأول من تشرين الأول أكتوبر الجاري ليعيد إلى الأذهان وجود أعداد كبيرة من المسنين العراقيين تعيش أوضاعا مأساوية، فيما لا يزال بعضهم مضطرا للعمل، رغم كبر سنه؛ لتوفير قوته اليومي، في حين يفجع العديد من المسنين في العراق يوميا بإصابة أو خطف أو قتل أبناء لهم ما زالوا في عمر الزهور، فضلا عن أحفادهم من الصبيان والبنات الذين لا تفرق المفخخات بينهم بعد ازدياد تردي الأوضاع الأمنية في البلاد، فيما يشمل التهجير القسري الطائفي والعرقي الجميع ويقتلعهم من بيوتهم عنوة إلى مناف داخلية وخارجية.
ومن المسنين من يئس من حياته وهو يتمنى الموت بأسرع وقت، بعد أن انفض من حوله الأهل والأحبة، ومنهم من لا يزال متمسكا بحياة يجد فيها متسعا له على الرغم من كل ما يراه و يسمعه من جحود و آلام، إلا أنه يريد أن يبقى في هذه الحياة حتى آخر شهيق أو زفير.
ويقول أبو سلام، للوكالة المستقلة للأنباء (أصوات العراق) quot;لدي عربة خشبية صغيرة أدفعها بيدي وأتجول بها في أسواق السماوة يوميا؛ لأنقل البضائع وأغراض المتسوقين من مكان إلى آخر.quot;
وتقع مدينة السماوة، مركز محافظة المثنى، على مسافة 280 كم جنوب العاصمة بغداد.
ويتابع quot;اضطررت إلى ممارسة هذا العمل الشاق جدا منذ ثلاث سنوات؛ لأتكفل بمصاريف البيت بعد أن قتل ولدي الأكبر الذي كان يتكفل بمصاريفنا، سلام، في إحدى مفخخات بغداد حيث كان يعمل شرطيا هناك، وكنا قد فقدنا من قبله أخيه، أحمد، خلال حرب 2003 والاجتياح الأمريكي لبغداد، حيث كان مقيما فيها ليكمل دراسته في كلية الهندسة.quot;
يتحدث أبو سلام عن أحلامه قبل مقتل ولديه فيقول quot;كنت أحلم أن أرى ولدي ناجحين في حياتهما؛ ليتكفلا بنا أنا ووالدتهما.quot;
ويضيف quot;كنت آمل أن أعيش أيامي الأخيرة في الحياة مرتاحا ومحاطا بأولادي، لكن هذا هو قدرنا فالأولاد قد رحلوا وأنا ما زلت أعمل لإعالة نفسي وزوجتي.quot;
من جانبها ترى زوجته أم سلام (53عاما) أن حياتهما هي وزوجها هي لــ quot;تمضية الأيام،quot; قائلة quot;نحن نعيش لنموت، فبفقدنا لولدينا فقدنا أحلامنا ولم يعد للفرح مكانا في يومياتنا الرتيبة.quot;
وأضافت أم سلام quot;نحن نعيش وننتظر اليوم الذي نفارق فيه الحياة بأمر الله؛ لنلحق بأولادنا.quot;
واختتمت quot;فمن خصوصيات العراق أن يموت الأبناء قبل آبائهم وأمهاتهم.quot;
الحاج كاظم عبد، الذي يقترب من نهاية العقد الثامن من عمره، هو من مدينة السماوة أيضا لكن لديه قصة أخرى، فهو يعيش وحيدا بعد أن رحل عنه الأبناء الى بلاد أخرى وفرّقه الموت عن زوجته.
يقول الحاج عبد quot;أنا أعيش لوحدي منذ عدة أعوام، فقد هاجر أولادي الثلاثة جواد وسعد وعلي مع من هاجر من العراقيين الى خارج العراق.quot;
ويضيف quot;لكنني لم أشعر بالوحدة الحقيقية إلا بعدما فقدت زوجتي أم جواد، قبل ثلاث سنوات؛ لأنها كانت من ترعاني وتتدبر شؤوني.quot;
ويقول الحاج عبد إنه على اتصال دائم بأولاده ويضيف quot;وهم يطالبونني باستمرار بالسفر إليهم والإقامة معهم خارج العراق.quot;
ويتابع quot;وقد رفضت ذلك؛ لأنني لا أريد مغادرة بلدي ومدينتي وبيتي.quot;
ويجد الحاج كاظم أن صبره على وحدته وعدم لحاقه بأولاده قد ضمن له تحقيق آخر أمنياته، حيث يقول quot;حياتي تتجه إلى نهايتها، وأنا لا أطيق التفكير باحتمالية موتي على أرض غير أرض العراق إذا ما سافرت.quot;
وهناك قصص أخرى مختلفة في دار رعاية المسنين في مدينة كربلاء (108 كم جنوب العاصمة بغداد) يظهر فيها الشعور بجحود الأبناء على وجوه بعض النزلاء، الذين بدت تجاعيد الزمن ظاهرة بعد أن أودعهم أبناؤهم هذه الدار.
يقول أحد المسنين الذي تجاوز عمره 70 عاما، وهو محني الظهر، لـــ(أصوات العراق) quot;هنا أنا في بيتي، بعد أن خذلني الأبناء الذين تعبت عليهم وأصبحت ثقيل الظل عليهم؛ لأن زوجاتهم لا يرغبن بوجودي.quot;
ويتابع quot;الحياة صعبة، وحين كنا نحن شبابا كانت الحياة أسهل مما عليه الآن؛ لأنه لم يكن فيها قتل، وأنا أعيش منتظرا الموت في أي لحظة.quot;
ويستدرك quot;إلا إن عقوق الأولاد يشعرني بخطأ ربما اقترفته في الماضي، لذلك اعذرهم.quot;
إحدى المسنات في الدار تقول quot;أولادي هم من أدخلوني هذه الدار ولم يأتني أحد منهم منذ عام.quot;
وتضيف quot;تركوني بلا مال أو أكل أو ملابس.quot;
لكنها ترفض أن تقول عنهم أنهم quot;أولاد عاقونquot;، في وقت تتذكر أحد أبنائها و تقول quot;سابقا كنت مع احد أولادي، وهو الوحيد الذي يحن علي من بين إخوته، إلا انه قتل في مدينة المحمودية (جنوبي بغداد) على يد إرهابيين.quot;
مدير الرعاية الاجتماعية في كربلاء علي رسول جودة من جانبه يقول quot;وزارة الشؤون الاجتماعية تهتم بهذه الشريحة المهمة من المواطنين الذين تعبوا في الحياة وقدموا ما لديهم في سبيل الوطن.quot;
ويضيف quot; في دار رعاية المسنين يوجد 45 مسنا من الرجال والنساء، ونحن نوفر لهم المأكل والمأوى والملبس ومعونات مالية.quot;
الإحصائيات الرسمية عن عدد دور المسنين، وعدد النزلاء تشير إلى أن عدد هذه الدور صغير جداً قياساً إلى تعداد الشعب العراقي الذي يتجاوز 27 مليون إنسان، فهناك خمس دور للمسنين في العراق، أقدمها تأسست في بغداد وتضم 120 مسناً منهم 40 سيدة، فيما تضم دار المسنين في كربلاء 47 مسناً منهم 20 سيدة، أما دار المسنين في مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد) فتضم 37 مسناً منهم 18 سيدة، وفي دار المسنين في مدينة البصرة (590 كم جنوب بغداد) يوجد 40 مسناً منهم ثماني سيدات فقط، بينما تضم دار المسنين في مدينة الديوانية (180كم جنوب العاصمة بغداد) 37 مسناً منهم ثماني سيدات ايضا.
تقول باحثة اجتماعية من مدينة كربلاء عن المسنين في دار الرعاية quot;نعمل على أن يتأقلم المسنون مع الواقع الجديد الذي أصبحوا فيه.quot;
وتضيف الباحثة التي اشترطت عدم ذكر اسمها quot;في الأيام الأولى يواجه المسن بعض الصعوبات في الدار؛ لأنه يعتقد إن الحياة ظلمته وأن لا نفع منها.quot;
وتطالب الباحثة الاجتماعية عوائل وأقرباء المسنين المقيمين في الدار بزيارتهم quot;لأن الزيارة تعطيهم دافعا للشعور بإنسانيتهم.quot;
بيد أن هناك الكثير ممن يرون أن علاقتهم بمن هم أكبر منهم مهمة لحياتهم، حيث يقول حامد علي (35 عاما) وهو من أهالي مدينة النجف (180 كم جنوب غرب بغداد)، لـ ( أصوات العراق ) quot; تعيش جدتي ـ أم والدتي ـ معنا في البيت وهي تشغل أوقات فراغها دائماً بالصلاة والدعاء والعبادة ، وتواظب على صلاة الليل رغم كبر سنها، الذي يبلغ 80 عاما، وصعوبة حركتها وتمكن الأمراض منها.quot;
و يضيف quot;جميع أفراد الأسرة لديهم إحساس إن بركة دعائها لنا تحفظ السعادة لهذا البيت.quot;
ويتحدث علي عن ذكرياته مع جدته بالقولquot;عندما نجتمع حولها أنا وإخوتي وزوجاتنا إضافة إلى والدتي فإننا نتذكر القصص التي كانت تقصها علينا ونحن صغار، أما الآن فنحن نسمع نفس هذه القصص تحكيها لأطفالنا.quot;
ويستدرك أما إذا ما طلبت جدتي منا أن نحكي لها ما يجري حولنا quot;فغالباً ما تكون هذه الحكايات عن الواقع المرير الذي يعيشه العراق من وضع امني مترد وسوء خدمات، ومع الألم الذي يعتصر قلبها لحديثنا إلا إن جواً من المرح يسود الحديث عندما تبدأ جدتي بإعطاء آرائها في السياسة والتي غالبا ما تكون بسيطة كبساطة الحياة التي عاشتها.quot;
وبرغم حديث بعض المسنين عن الجحود إلا أن هناك الكثير ممن يبرون بوالديهم وأجدادهم، ويتحدث حيدر إبراهيم ( 27 عاماً ) عن جدته بحزن حيث يقول quot;توفيت جدتي قبل شهر تقريباً فخلفت سحابةً من الحزن تلف البيت، وأصبحت اشعر بالوحشة كلما دخلت إلى المنزل لأنني لا أجدها.quot;
ويضيف quot;برغم إن المرض تفاقم عليها في السنوات الأخيرة من عمرها، إلا إن الجميع كان يخدمها بكل محبة وكنا جميعاً على استعداد لخدمتها طول العمر.quot;
أما عبد الحسن عزيز(45 عاماً) فيتحدث عن والده قائلا quot;بعد أن أفنى والدي زهرة شبابه في تربيتنا، عار عليّ وعلى أخوتي وعلى أبنائنا أن نتخلى عنه.quot;
ويضيف quot;لا تتصور فرحتنا عندما نجتمع مساء ونرى أبانا وهو يلعب مع أحفاده ويمازحهم.quot;
ويتساءل عزيز quot;كيف سيكون موقفنا إذا تخلينا في هذا الوقت عن والدنا ؟ وكيف سيعاملني أبنائي عندما أصبح عجوزاً لو تخليت عن أبي في عجزه؟quot;