من يحمي أرث الأخوة والتسامح في المدينة التأريخية؟
معد الشمري:
التعايش والتسامح..
لايستغرب من يقرأ تأريخ هذه المدينة الموغلة في القدم والتي تقع في واحدة من أهم مناطق الشرق الأوسط وبالتحديد شمال مهد الحضارات القديمة (وادي الرافدين) في المناطق المتموجة الواقعة شمال سلسة جبال حمرين على بعد 255 كم شمال شرق العاصمة بغداد.. لايستغرب حين يعلم أن المدينة كانت ومُنذ القدم موطناً لكل القوميات والأثنيات والأعراق؛ وسيجد قارىء تأريخ المدينة أن مزيجاً من القوميات المتآخية من العرب والأرمن والتركمان والكرد والكلدانيين والآشوريين والصابئة المندائيين، قد شكلوا خليطاً في صورة فسيفسائية تختلط فيها الأعراق لتولد كركوك المتآخية، حيث أرث الأجداد في التعايش والإنصهار والإندماج والتزواج الذي أستمر على مدى القرون الماضية.
التنوع الأثني والعرقي في المدينة وتعدد الثقافات وإنصهارها في بوتقة واحدة، يجعل من المدينة تشكل ذلك الموزائيك الجميل الذي يتناغم ولغة العراق الجديد القائمة على أساس التنوع الفكري والحضاري، بل وحتى التنوع في الخلفيات اللغوية لشرائح المجتمع كافة، ولعل من حسنات الإختلاط في كركوك، هو معرفة السكان لغة الآخر، حيث تجد الكردي والعربي والتركماني، يفهم بعضهم البعض، وبالتالي يتبادل السكان المفاهيم الثقافية والمعرفية فيما بينهم.. وهكذا جمعت كركوك اللغة العربية واللهجة الكردية والتركمانية التي يعود جذورها إلى مجموعة لغات الأورال- أنطاي التي انتشرت في أواسط آسيا.
كركوك حضارة وتاريخ حافل
تقع كركوك الحالية على أطلال المدينة الآشورية القديمة اررابخا (عرفة) التي يقدر عمرها بحوالي 5000 سنة، وتتمتع المدينة بمناخ معتدل يجمع بين مناخ المناطق الجبلية القريبة منها الغزيرة بالأمطار والثلوج، ومناخ البوادي والسهول الجافة التي تتميز بحرارتها العالية.
تُعد واحة الجمال كركوك من المدن العراقية التأريخية القديمة، وهنالك آراء مختلفة عن أصل تسمية المدينة. أحد النظريات تنص على ان تسمية كركوك أتت من الكلمة التي استخدمها الآشوريون كرخاد بيت سلوخ التي تعني المدينة المحصنة بجدار، وتفترض نظرية أخرى ان المدينة سميت بكركوك لأول مرة في عهد دولة( قه ره قوينلو) اشتقاقاً من كلمة كرك التي تعني الجمال باللغة التركية القديمة. في حين يذهب آخرون إلى أنه وفي حدود القرن السادس قبل الميلاد أطلق على المدينة إسم (كاركوك )من قبل الأهالي وهذه الكلمة كانت متداولة أيام السومريين، وهي في الأصل متكونة من ( كار) بمعنى العمل و ( كوك) أي الشديد والمنتظم أو العظيم، والكلمتان كرديتان، ومتداولتان حتى يومنا هذا.
والمعلومات التأريخية المتوفرة تنص على ان كركوك كانت جزءاً من الإمبراطورية الميدية بعد تحالفها مع الباليين الجدد، والذي نتجت عنه سقوط الإمبراطورية الآشورية وتدمير عاصمتها نينوى، حيث أطلق الميديون إسم ( كي ه رك ) على المدينة.
عندما احتلها البريطانيون عام 1918 كان عدد سكان المدينة يبلغ 25 الف نسمة.. وفي آخر إحصائية أو تخمين أُجري في العام 2003 قُدر عدد نفوس المدينة بما يقارب 755،700 نسمة..وتناقصت مساحة لواء مدينة كركوك من (20000) كيلو متر مربع عند تأسيس الدولة العراقية بعد الحرب العالمية الاولى عام 1921 إلى 9426 كيلو متر مربع بعد تطبيق سياسة التعريب التي أنتهجها النظام السابق، حيث تم ضم بعض من أقضية ونواحي المدينة إلى المحافظات المجاورة لها (ديالى وصلاح الدين).
قلعة كركوك ومسجد النبي دانيال
وسط المدينة تنتصب شاخصة، وكأن عيونها تحرس الناس، قلعتها، التي تعد واحدة من أقدم معالم المدينة، وبحسب المعلومات التأريخية المتوفرة فإن الكوتيين هم من شيد القلعة المبنية أصلاً على تل مدور ذي أربع زوايا يرتفع عن السهول المحيطة به بحوالي (120 ) قدماً وتشرف القلعة على وادي نهر (الخاصة) النهر الصغير الذي يفيض في فصل الشتاء بسبب كثرة الأمطار. ويعتقد مؤرخون آخرون أن القلعة بنيت بين عامي (850- 884 ) ق.م في عهد الملك الاشوري (آشور ناصر بال الثاني) الذي أتخذ من القلعة خطاً دفاعيا لجيوشه.
أجمل مافي القلعة مسجد( النبي دانيال) الذي يضم رفاته بالإضافة إلى رفات (عزرا وميخائيل وحنا)، بحسب المؤرخين، والمسجد بقبتيه ومناراته الثلاث كان في الأصل معبداً من المعابد اليهودية التي تحولت إلى كنائس ليتم تشييد المسجد فوقها في مرحلة لاحقة.
تعرضت العوائل التركمانية والكردية التي كانت تسكن في القلعة إلى الترحيل عندما قام النظام العراقي السابق وبحجة تجميل القلعة وإعادة ترميمها بترحيل أكثر من 900 عائلة منها تطبيقاً لسياسة التعريب التي بدأت في العام 1974، وبأسم الحفاظ على معالمها وصيانة الآثار التاريخية فيها، تم اغتيال قلعة كركوك، عندما خُصص( 250 ) مليون دينار للبدء بعمليات هدم أحياء القلعة.. و أستمرت رياح التخريب والتغيير في سماتها الحضارية حتى مابعد تغيير النظام.. الأمر الذي دعا الساسة الجدد لبذل المزيد من الجهد لتشخيص الجراح التي خلَفها النظام السابق بعد أن أغمد خنجره المسموم في جسد المدينة الطري بدون رحمة.
الصراع على مدينة الذهب الأسود
الصراع على مدينة الذهب الأسود( النفط) قديم قدم التأريخ ولم يتوقف خلال العصور الغابرة، حيث شهدت مدينة كركوك معارك عدة بين الأمبراطوريات المتصارعة؛ بسبب موقع المدينة الجغرافي المهم بين امبراطوريات البابليين والآشوريين والميديين وهم أحد الأقوام الذين استوطنوا إيران قديما؛ وكانوا مؤلفين أصلاً من ستة قبائل رئيسة( ستروخات، باريتاك، بودي، بوزا، موغي، وآريا).
واليوم تشهد المدينة صراعاً من نوع آخر فرضته التطورات الأخيرة التي حصلت في العراق بعد إحتلاله.
موقع المدينة الجغرافي والثروات الطبيعية الكبيرة التي تتمتع بها كركوك، كالنفط ذهب المدينة الأسود المستثمر في حقول جمبور ومنطقة باباكركر موقع النار الأزلية التي يعتقد أنبعاثها لأول مرة سنة( 550 ق.م) في عهد نبوخذ نصر.. وتحدثنا النصوص القديمة أن كثيراً من ملوك الفرس القدماء كانوا يزورون منطقة النار الأزلية للإحتفال، حيث يقيمون فيها المهرجانات الدينية ويقربون لها القرابين..ومن ثروات الطبيعية في كركوك أيضاً الكبريت والغاز الطبيعي، كما وتتميز المدينة بوجود الملح الذي يكثر على وجه التحديد في قضاء طوزخرماتو، ومن الثروات الأخرى المرمر والجص المستعمل في البناء، كل ذلك بالإضافة إلى موقع المدينة كممر تجاري للسلع والبضائع من وإلى مناطق مختلفة داخل وخارج العراق وهو الموقع الذي شغلته المدينة منذ العصور القديمة وحتى اليوم؛ دفع بجهات محلية وإقليمة لتمترس خلف شعارات استخدمت للحشد والتعبئة، وسياسات بعضها لتكريد المدينة(نسبة إلى الأكراد)، وتعريبها(نسبة إلى العرب)، وأخيراً التركمنة( نسبة إلى التركمان).
زمُنذ إحتلال العراق وحتى اليوم لم تهدأ المدينة وسكانها يخوضون صراعا لاينتهي لغرض اثبات الوجود، بالإضافة إلى الإستئثار بخيرات المدينة وفي مقدمتها ثروتها النفطية.
ومع أزدياد أهمية الثروة النفطية، تتصاعد الدعوات من جانب القوى السياسية الكردية لضم كركوك إلى quot;كردستان العراقquot;..ولعل الوعود التي يطلقها الساسة الكرد لمواطنيهم في الرفاهية والتنمية والإنتعاش الأقتصادي، لن تتحقق دون ضمان تدفق واردات نفط كركوك لخزينة كردستان.
والأكراد يعتبرون كركوك جزءاً لايتجزء مما يطلقون عليه تسمية كردستان، كما يطالبون بتطبيق المادة (140) من الدستور والتي تنص على إخراج العرب الوافدين من كركوك وصرف تعويضات مالية ومعنوية لهم.. وذكرت تقارير أن أكثر من سبعة الاف عائلة عربية ستغادر كركوك في حال تطبيق المادة المذكورة.
تقابل تلك الدعوات دعوات تركية للسيطرة على مايسمى بولاية الموصل؛ كذريعة للتدخل من أجل حماية التركمان في المدينة؛ والهدف الحقيقي الذي يدفع الأتراك لإطلاق التهديدات بين فترة وأخرى هو الضغط باتجاه استمرار ضخ نفط كركوك عبر الأراضي التركية؛ وصولا إلى ميناء جيهان؛ وبالتالي ضمان تدفق الأموال إلى الخزينة التركية.
التركمان من جانبهم لايتنازلون عن حقهم الذي يعتبرونه مشروعاً في المدينة، ويبدون مخاوفهم من ازدياد نفوذ الأكراد في المدينة.
في كركوك أيضاً العرب الطرف الثالث المهم في معادلة مدينة الذهب الأسود، وتنتشر في المدينة عشائر عربية أصيلة كالعبيدي والجبوري والتكريتي التي تتمتع بنفوذ كبير في كركوك وضواحيها.
..ويبقى السؤال المركزي مطروحاً: متى تتشتت غيوم الصراعات والنزاعات على مدينة الذهب الأسود من فضاء التعايش والإنصهار بين أبناء المدينة والبلد الواحد؟ وهل تتحول النار الأزلية إلى نار تحرق حالة التآلف والتعايش بين أطياف المدينة، بسبب النفط، الأمر الذي يهدد السلم المدني، والتنمية البشرية في مدينة التآخي والإتحاد؟.. وأخيراً يبقى ملف مدينة الذهب الأسود مكتسياً بطابع سياسي، ورهينة لحقوق جيوسياسية تأريخية يطالب بها البعض الذي مازال حتى اليوم يغني بطريقته الخاصة على ليلاه، ولكل منا ليلاه.
إعلامي وصحافي
[email protected]
المصادر:
1- د.أحمد، جمال رشيد، كركوك في العصور القديمة، ط1-أربيل، 2002.
2- مجموعة أبحاث أكاديمية حول كركوك، دار ناراس، أربيل، 2001.
3 ـ كريم زه ند، كركوك في ذاكرة التاريخ، الثقافة الجديدة العدد 245.
4- ويكبيديا الموسوعة الحرة.
التحقيق منشور في ايلاف دجتال يوم الاربعاء 11 تموز 2007
التعليقات