ربى أبو عمو من بيروت: يستفيق شارع الحمراء باكراً. تسبق روحه أقدام المارة العابرين عبر رصيفه الذي تعشّش فيه أنفاس القدماء. أيامه تتشابه. يفتتح رصيفه أصحاب quot;أكشاكquot; الصحف والكتب والمجلات، الذين باتوا يشكّلون تقليداً شبه مقدّس، بعدما تزاوجوا وهذا الشارع، وأنجبوا أجيالاً من الروّاد، بدءاً من أواخر ستينيات القرن الماضي، وحتى اليوم.

إلى جانبهم، تبدأ المقاهي والأفران باستقبال زبائنها، أو عابري السبيل. العديد من المقاهي ومحلات الثياب وغيرها، فرضت نفسها على هذا الشارع، منتزعة عصره الذهبي، أو على الأقل، مضيفة روح العصرنة إليه. إلاّ أن أصحاب الأكشاك عرفوا هذا الشارع في الكثير من مراحله، حفظوها، واستمروا...

ورغم انقلاب الزمن عليهم، لا تزال الحمراء تشكّل جزءاً لا يتجزأ من هويتهم. فهذه الأكشاك، أو quot;البسطات المتنقلةquot; قديماً، تكاملت مع الدور الثقافي الذي فرضته شخصياتها السياسية والفكرية والثقافية.

الكثيرون يعرفون نعيم. فهو إحدى الشخصيات القديمة الذي استوطن هذا الشارع، وفرض نفسه كبائع متجوّل للصحف والمجلات. يغطي نعيم شيب رأسه بـ quot;قلوسةquot; حمراء. يروح ويجيء بالقرب من quot;كشكهquot;، محاولاً كسر جمودٍ ما. تفيض معالمه بحكايات الشارع وذكريات الماضي. فهو كما يقول، يحتاج إلى quot;مجلداتquot; كي يوضح الفارق بين الماضي واليوم.

تراه يحافظ على حيويته رغم مرور الزمن. ذورة العمل هي في الصباح، الوقت الذي يقصده الناس لشراء صحفهم. وبين دقيقة وأخرى، تصطف سيارة تلو الأخرى، يلقي صاحبها التحية على نعيم، يطلب صحيفه التي بات الأخير يحفظها، ثم يرحل.

هي طقوس يومية. فالناس الذين اعتادوا بدء نهارهم في هذا المكان ومع هذا الشخص، من الصحب أن يغيروا عاداتهم. فالعلاقة بين صاحب الكشك والزبون، تشبه العلاقة مع تفاصيل الحياة، كالقهوة أو ممارسة الرياضة وغيرها.

تسرد عينا نعيم قصة الحمراء. كأنه يريد أن يقول أن هذا الشارع امتزج أناسه وكتبه ومقاهيه ليشكلون سوياً روحاً واحدة. هذا يبدو واضحاً في عيني نعيم الذي يستذكر السنوات الماضية. يحكي عن هذه المهنة، quot;أصبحت جزءاً مني، فقد كنت أساعد أبي حين كنت صغيراًquot;. لم يمل نعيم من هذا العمل، إلاّ أنه اليوم يتكلّم بحسرة. quot;أصبح البيع قليلاً جداً. فالوسائل التكنولوجية ابتداءً من التلفاز والانترنت، وغيرها من وسائل اللهو، استحوذت على الناس، وباتت الحاجة إلى القراءة ضئيلة جداً.
في الماضي، كان شارع الحمراء يضم اللبنانين من مختلف الطوائف البنانية، إضافة إلى الكثير من الأجانب، quot;وقبل أن أفتح هذا الكشك، كنت آتي وأحطّ بسطتي بالقرب من الرد شو حوالي الساعة الثامنة مساءً، وأبيع عدداً كبيراً من المجلات الأجنبية والمحلية في اليوم الواحدquot;. ويضيف نعيم أن quot;كم المطبوعات في ذلك الوقت فاق العدد الحالي بكثير، أو على الأقل، كانت أكثر جودةquot;. هذه هي الحركة الثقافية التي تميّز به رصيف الحمراء.

إلاّ أن الحرب غيرت الكثير من الأشياء. فقد فصلت اللبنانيين إلى شطرين، المسلم والمسيحي، ما أدى إلى موت الحركة المتنوعة في هذا الشارع. ويوضع نعيم أن quot;عملنا يعتمد بشكل أساسي على الزبائن الدائمين، وخصوصاً التوزيع المنزلي، فيدفع هؤلاء الزبائن المبلغ كل شهر أو شهرين، سعر الصحيفة الأصليquot;، ما يجعل عملهم منافس لعروض التوزيع المنزلي التي تقدمها المؤسسات الصحافية.

يشير نعيم بيده إلى إحدى زبائنه الذي يأخذ صحيفته عائداً إلى عمله، محاولاً تقريب صورة أهمية الزبائن. لكنه ينهي موضوع المشاكل التي يعانون منها بأزمة الرسوم الذي يتوجب عليهم دفعها سنوياً للبلدية، والتي كانت عبارة عن رسوم رمزية. إلاّ أن وزارة الداخلية فرضت عليهم رسوماً عالية، وقد وعدتهم نقابة الصحافة بالتحرك سريعاً لتسوية الأمر، ما يجعل هذه المسألة معلقة اليومquot;.

وفي إحدى زوايا الشارع، يقف أبو حسن إلى جانب كشكه، يبتسم لإحدى زبائنه الدائمين الذي كالعادة، أتى لأخذ جريدته الصباحية. يتضمن كشكه كتباً قديمة، صحف ومجلات على أنواعها. تباع هذه الكتب في أسعار موحدة تحدّدها الشركة اللبنانية المسؤولة عن التوزيع عبر المتعهدين. يستذكر بحسرة quot;أيام عز شارع الحمراء، الناس كانوا مثل الخبزquot;.

إلاّ أنه في الوقت نفسه يشكو من التوسّع الجنوني لهذه المصلحة على المصلبيات ودكاكين الثمانة والصيدليات. ويؤكد أن وجود المكتبات لا يقف عائقاً أمام هذه المهنة، التي تكتسب زبائنها الخاصين مع الوقت.

كأن المعاناة هي القاسم المشترك بين أصحاب الأكشاك، إذ يحكي الجميع عن تبدّل الأحوال، وتراجع دورهم وأهميتهم رغم كونهم quot;واجهة ثقافية مهمّة للبلدquot;. رغم ذلك، لم يتوقّف عفيف عن حب عمله، إذ يعتبر نفسه بمثابة أداة quot;وساطة بين الذي يكتب ويقرأquot;. فهو قد ورث هذه المهنة عن والده منذ نحو 35 عاماً، فتحوّل إلى عاشق لها وللقراءة.

ربما لا يزال رصيف الحمراء يألف فكرة بسطات الكتب التي تضفي حيوية في الشارع، إلاّ أن الأهم هو محافظتها على روح هذا الشارع الذي ينسحب رويداً من عصره الذهبي. ويبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن أن يستمر عمل هذه الأكشاك، مع الغزو التكنولوجي للعالم؟