كامل الشيرازي من الجزائر:اقترن وادي السعادة في المخيال الجزائري الجمعي بمدينة بوسعادة (422 كلم شرقي الجزائر)، وظلّ هذا الوادي مشتهرا على مدار عقود طويلة بكونه موقعا حالما ومرفئا رومانسيا تتجلى فيه آيات الحنين والأنين والآهات، ما أهلّه إلى تجاوز دوره الآبد كمغذي لواحة بوسعادة الجميلة، لتصبح مناظره الساحرة ملهمة المبدعين وملتقى الأحبة.


وعلى طول منخفضات جبل كردادة العتيق الذي يعتلي مدينة بوسعادة الآسرة، يمتد وادي السعادة على عدة كيلومترات إلى غاية زاوية الهامل الشهيرة، ويختزن هذا الوادي بين دفقاته حكايا متناثرة يرويها السكان المحليون دون كلل، ويحتفي أبناء الوادي برمزية المكان وهالة شلالات (فيريرو)، ويقول محمد (37 سنة) بافتخار أنّ الوادي يحتضن القريب والبعيد، ويضيف متباهيا:quot;إذا ما حدث وأن زار شخص غريب وادينا، فإنّه يدرك لأول وهلة أنه كلما اقترب من المنطقة، كلما زاد الوادي جمالا ورونقا وتألقا، ويؤيد أحمد نظرة صديقه بتوكيده على أن| وادي السعادة يجلب النظر ويمنح المتعة ويعزز الرغبة في المكوث لأجل معايشة أجواء خلابة جادت بها الطبيعة.


ولكون الوادي عابرا لبوسعادة القديمة، يروي مخضرمون أنّه بقي مصدرا هاما للزراعة والبستنة، حيث عمد سكانه الأوائل إلى إنجاز الحدائق وغرس الأشجار المثمرة من رمان وتين وزيتون ونخيل، كما كانوا يعتمدون عليه في الاستهلاك اليومي للخضروات بل ومن بين السكان من يجعل بعض المساحات المحاذية لضفتي الوادي مرعى للغنم.


وبالنظر لأهميته وكونه دائم الجريان إلا في حالات طول مدة الجفاف، فإنّ منسوب الوادي يتعرض للتقلص، وقد عمد المستوطنون الفرنسيون في عشرينات القرن الماضي إلى إنشاء طاحونات الماء على طول إحدى ضفتي الوادي من أهمها quot;رحى فيريروquot; التي لا تزال بعض أجزائها قائمة إلى حد الآن، ويتداول وسط الشارع المحلي أنّ الرحى المذكورة دفعت بقوافل هائلة من الأوروبيين إلى غزو بوسعادة بغرض الاستفادة من نموذج رحي الغلال الذي اشتهرت به بوسعادة في أزمنة سابقة، كما يتداول أيضا أنّ وادي السعادة كان يتوفر على أزيد من ست طواحين للماء مملوكة غالبا من طرف الأوروبيين الذين كانوا يقومون برحي الغلال مقابل جزء منها، وينتظر رواد التاريخ ببوسعادة أن يتم إعادة الاعتبار ولو لجزء من هذه الطواحن خصوصا تلك التي تسمى (فيريرو) التي تعد معلما تاريخيا شاهدا إلى حد الآن عن فترة مرت بها هذه المدينة الشرقية المتشامخة.


وعلى منوال مواقع كثيرة في بوسعادة اجتذبت السينمائيين، ظل وادي السعادة هو الآخر مسرحا محبذا لكثير من المنتجين السينمائيين حيث تم تصوير ما يفوق العشرين عملا سينمائيا هناك بينها دراما quot;أشواك المدينةquot; للمخرج علي عيساوي، ولعلّ انفراد الوادي بطبيعة جبلية تجوبها شلالات وسط مناخ جبلي وصحراوي وشبه صحراوي، حفزت ممارسي الفن السابع على الحج باستمرار إلى موقع يتميز بديكور طبيعي مميز، إذ أنّ تموقع جبل كردادة الصخري الأحمر المحاذي للوادي من الجهة الجنوبية، يمكّن من التقاط مشاهد ممزوجة بين واقعين: أخضر في الواحة وأحمر كما في الصحراء.
وقد اتخذ الفنان التشكيلي الفرنسي الشهير quot;إتيان دينيهquot; (1861 ـ 1929م) الذي دخل الإسلام وغيّر اسمه إلى quot;نصر الدين ديني)، من إحدى ضفتي الوادي موقعا لورشته التي مكنته من الاطلاع عما يجري آنذاك في بعض المواقع الحساسة من الوادي، حيث تمكن أن يصور الحياة التي تعيشها المرأة آنذاك خصوصا الشابات اللواتي يتخذن من الوادي موقعا لتنظيف الملابس والاستحمام والترفيه عن النفس، وتلك خلفية محاولة أهالي المنطقة قتل دينيه، حينما علموا أنه يتخذ من ضفة الوادي موقعا للتجسس عن الشابات وتصويرهن بالآلة الفوتوغرافية ليتسنى له إعادة رسمهن بالريشة فيما بعد.


ولا تزال غالبية فنانيه التشكيليين محافظة على نمط quot;دينيهquot; فهم لا يهملون في لوحاتهم أي تدقيق في ما يحتويه الوادي من ميزات لا يراها عامة الناس بل ويغوصون في أعماق محتويات الوادي ويجعلون منها في بعض الأحيان موضوعا رئيسيا للوحاتهم كما الحال بالنسبة لبعض المواقع الحجرية للوادي.
اللافت حاليا أنّ وادي السعادة تحوّل تدريجيا إلى موقع للبناء ومرمى للنفايات، لكنّ الغيورين عليه يصرون على تأمينه ضدّ محاولات المسخ، ما جعل الوادي محافظا على تلك العلاقة التي تربط الواحة بالسكان فالبعض من شبابه كثيرا ما حوّلوا quot;رحى فريروquot; إلى موقع للسباحة والاستجمام صيفا، والجلوس والمسامرة أثناء بقية فصول السنة، وبعدما كان الوادي قبلة لفرق الفولكلور المحلي، بات الحضور النخبوي في الوقت الراهن محصورا في كوكبة من الفنانين الشعبيين والشعراء الذين يجدون فيه موقعا ملائما للإلهام والإلقاء.


ويروى أن وادي السعادة عندما quot;يغضبquot; تؤدي سيوله إلى جر كل ما تلاقيه في طريقها، مثلما كان عليه الحال سنة 2001، حيث جرفت سيوله عديد المنازل والحدائق، وأدت إلى تشريد بعض العوائل المقيمة بمحاذاته، لكن ذلك لم يقلل من حماسة السكان المحليين للإقامة بجوار الوادي، بيد أنّ الخطر الآنف الذكر جعل السلطات تكبح جماح جميع أشكال البناء الفوضوي وتقدم على إعادة تفعيل شبكة الصرف الصحي حفاظا على التنوّع البيئي للوادي، إثر الأضرار التي طالت الأخير جرّاء استخدامه من لدن البعض كمفرغة للقاذورات ومصب للمياه المستعملة.
وهناك شبه إجماع بين عموم السكان المحليين لإعادة الاعتبار إلى الوادي تبعا لمكانته كإرث نفيس وقيمته السياحية والبيئية، لذا تتجه دوائر القرار إلى إنعاش الوادي عبر تكثيف المشاريع الجوارية ذات العلاقة بالسياحة مثل الفنادق والمسابح والمقاهي، على نحو من شأنه إنهاء التهجين الذي تتعرض له ذاكرة المكان.