شارع السعدون.. شجرة الحزن التي تمطر مواويل بكاء

عبد الجبار العتابي من بغداد: اذا ما اردت ان تشعر بالحزن على حال بغداد، وتمتليء بالشجن الذي يسحب الدموع من عينيك مدرارا، فعليك ان تقطع شارع السعدون من اوله الى اخره، تعاين احواله التي غيرها البلى، وتتأمل صوره الفاضحة، اعتقد انك ستشهق وانت غير مصدق ان اجمل شوارع بغداد يتحول الى شارع في قرية مهجورة منسية، ولاتكاد تصدق ما ترى، فهو خربة، ستسمع من اطلالها نشيجا مرا يتردد في جنبات نفسك قبل جنبات الشارع الذي تحسه ينفث حسراته مواويل حزن يقوم الناي على موسيقاها بتلك الانكسارات الصوتية المريرة.

جانب من شارع السعدون سابقا
لايمكنني ان اقول عنه بيت شعر واحد، فكل ما في الذاكرة من كلام يتبخر مع نار الاسى التي تلتهب في العيون الناظرات الى امكنته، فلم يعد سوى حجارة وابنية مغمضة العيون تنوء بثقل ما تراكم على وجوهها من غبار وجهد وضوضاء وصخب ودخان ومن زفير (المولدات الكهربائية) ومن الحواجز الكونكريتية الجاثمة على طوله ومن العبث الذي تراكم على ارصفته، اشعرني ابكي وانا اتدحرج على رصيفه، أنزف دمعا من اقطار جسدي وسرعان ما يشدني التعب اليه فأجلس على اقرب رصيف متداع، أحسني مثله متداعيا ومثل الشارع متهالكا.. نعم بلا ضوء ولا نهار ولااحساس !!، لكن وجه الشاعر عبد الامير الحصيري كان يقف قبالتي ويقول لي يخاطبني بنبرة حزن :
( أفتوقدُ الدربَ الشموع ُ ؟ وفرقد ٌ
أكلته من جوع الظلام مخالب ُ)
ثم يختفي.. اقول له : ايها الرجل الذي عشقت بغداد، هل ترى ؟، لكن احد المارين حسبني مجنونا أكلم نفسي كمتسول على الرصيف، نهضت ومشيت في الشارع اخوض في سيئاته، وليس بمقدوري ان اتنفس، بل كنت اشعرني اتقطر دمعا وارى بقاياي تسيح على الخطوات التي اخطوها،وصرت ابحث عن تلك الاماكن التي اعرفها فيه حيث كنت اقول : ان الانسان اذا
شارع السعدون اليوم تصوير عبد الجبار العتابي
مر في حالة ضجر فما عليه الا ان يأتي الى شارع السعدون،ويعاين اشياءه، يتوقف امام جمالياته التي لا تحصى، سينمات، مقاهي، مكتبات، محال تجارية، دكاكين مختلفة البضائع والمحتويات، مكاتب للسفر وللخطوط الجوية، عيادات اطباء، فنادق،مطاعم، كازينوهات، حدائق واشياء اخرى كثيرة، فيشعر بالراحة، يذهب كل ما كان ينتابه وينفس عن نفسه، وهو الشارع الذي يضرب فيه المثل، رحت اتذكر.. وانا اعبر المساحات وانظرها كأنني غريب عنها، شارع (السع..دون) الان (دون..سعد )، يا للاسى، فالنفس تكفهر وهي تتنفس هذا الخراب، هذا الزحام من الضجر والكآبة والقسوة،لا ادري من اين بدأت منه ولكن الصورة التي امامي تجعلني لا اعرف مبتدأه من منتهاه، ثمة احزان تنز من ملامحه لاسيما من تلك التي فرقت بين جهتي الشارع وتلك الاسلحة التي ترتفع على شاخصات من نقاط الحراسة في المسافة من والى ( فندق بغداد) والتي تبث الرعب في المارة.


شارع السعدون هو أحد شوارع بغداد المميزة ليس على مستوى بغداد فحسب بل في العراق،كان في مضى يسمى شارع (كلواذى) القرية البابلية الصغيرة (الكرادةالشرقية) التي يقع بابها في منطقة (الباب الشرقي)، يقع ضمن المنطقة التي تسمى حوله بالاسم ذاته، على جانب الرصافة من بغداد، يبدأ من منطقة ساحة التحرير في الباب الشرقي ويهرع صاعدا باتجاه الكرادة الشرقية، حيث ساحة الفتح التي تقع قبالة بناية المسرح الوطني، بطول ثلاثة كيلومترات ونصف، واخذ اسمه من عبد المحسن السعدون، رئيس الوزراء العراقي الاسبق الذي توفي في ظروف غامضة عام 1929، وفي وسط الشارع (امام ساحة النصر) تمثال من الجبس لعبد المحسن السعدون بعد ان كان قد تعرض النصب البرونزي للسرقة بعد احداث 2003 لكن احد الفنانين اعاد تشكيله من جديد بالجبس وعاد السعدون ليقف متفرجا على ارجاء شارعه ومستقبلا الاتين الى عمقه، كان الشارع في بدايته يسمى (شارع البتاويين) وهو عبارة عن ممر يربط بين مناطق متعددة يمتد من البتاويين إلى شارع (أبو نواس) ويضم بقايا بساتين ومزارع صغيرة محلية حتى النصف الأول من القرن العشرين، كان يضم بستان (مامو) وبستان الخس (ساحة النصر حاليا) ومناطق الأورفلية (من المواقع المعروفة اليوم في املاك بيت الاورفلي سينما السندباد وكان اسمها اول الامر سينما الاورفلي وقد بنيت في موقع مقهى الاورفلي القديمة والبساتين وقد زال اثر هذه القهوة سنة 1930 واخيراً بنيت على اطلالها سينما السندباد، والثاني (قهوة سعيد العبد) وهي تبعد عن قهوة الاورفلي مسافة مائة متر) وكرد الباشا وعكد الخناق ولم يكن يحتوي على دور سكنية أو بنايات تجارية ولكنه كان يمر بجانب القصر الأبيض الذي كان مقر الملك في بغداد، والطريف ان ساحة النصر الشهيرة لا علاقة لها بالعراق بل جاءت تسميتها من قبل الانكليز الذين احتلوا العراق بعد انتصارهم في الحرب العالمية الاولى على الالمان عام 1918، وظلت منذ ذلك الوقت لو يتبدل اسمها، وربما الاسم فيه اغراء ودهشة.

بدأ تطوير هذا الشارع في الثلاثينيات من القرن العشرين ومعظم البيوت والمباني فيه تعود إلى النصف الأول من القرن في الأربعينيات والخمسينيات، وفي بدايته كان من أرقى الشوارع وكانت منطقة البتاويين ومنطقة القصر الأبيض من أرقى المناطق السكنية في بغداد، في العقود التي تلت وبعد تحوله إلى شارع تجاري رئيسي بدأت العوائل ذات الدخل العالي بالإنتقال إلى مناطق أكثر هدوءا وتحولت البتاويين والقصر الأبيض إلى مناطق أقل رقيا وبدأ يسكنها بعض العمال وذوو الدخل المحدود.


وقفت على رأس الشارع.. من اول نفق ساحة التحرير ونظرته شمالا ويمينا، نظرت الى مكتبة المثنى التي تقع على طرف الشارع، كانت مغلقة وعلى ملامحها احزان لا متناهية، على مسافة منها جامع الاورفلي شاهدت على ملامحه اثار الانفجارات وقد تهدم جزء منه، سرت على الرصيف كانت صاخبا بالمطبات والماء الاسن المتبقي على فراغات الرصيف، وعربات الباعة وهي تسد جزء منه في منطقة لاترى من ابنيتها الا غمامات من لافتات عيادات الاطباء التي اشتهر بها الشارع، اما الافرع منه المتشعبة داخل البتاويين فثمة احزان خرافية تمشي في انهرها، فلا يسرك ان تنظرها، اما على الجانب الاخر فالمكتبات المتتالية يمتد امامها رصيف لايتلاءم معها، والافرع القادمة من شارع ابي نؤاس متعبة مثل الابنية التي بعضها تراثي، اما (الجزرة الوسطية) الضيقة فمرتبكة جدا، محطمة ونافرة ومجرد تراب غير مرتب، اتوقف امام سينما السندباد المغلقة القاتمة، ارى امامها تصطف عربات المعاقين كأنها تقول انها اصبحت كذلك، وكل شيء فيها عاريا، اترصد المارة وواجهات الابنية، لقد تغيرت، هكذا احسها، والنفق امام السينما مغلق بعد ان تراكمت النفايات فيه ولم تعد له اية فائدة، فالعبور من اي مكان حيث لا خطوط عبور ولا سيارات مسرعة !!، هذه المنطقة من الشارع والممتدة الى ساحة النصر تشكو اهمالا واضحا، وارضيته سيئة جدا وما عليك الا ان تنظر سينما (النجوم) التي انطفأت نجومها وبدت واجهتها الدعائية كئيبة، ومن الساحة الى مسافة (200) متر، ومن الجانبين لاشيء فيها يسعد الناظر الذي عليه ان يركز في مشيه، فالارصفة مهرجان من مطبات غاية في الغرائبية مليئة بالحفر و(الطسات) والاوساخ التي راحت تتجمع على اطراف الشوارع الفرعية، ولا وجود لمتعة سوى كازينو بسيطة على ركن مقابل محطة الوقود التي يمتد طابورها طويلا في الشارع، ومن بعدها يجثم على نصف الطريق حاجز كونكريتي هو بداية الدخول تحت ظلال الحواجز الوسطية التي تشطر الشارع الى شطرين، ويبدو ان اعمالا لامانة بغداد جرت فيه ثم تركته ترابا، والطريق على طوله لايصلح لسير السيارات ولا للعربات التي تجرها حيوانات، والعديد من المحال التجارية اغلقت لقربها من فندق بغداد ولايمكن ان ترى على تلك المساحة الا الكونكريت، واذا ما تذكرت تلك المحال الجميلة النظيفة فأنك ستشعر لامحالة بالكآبة، وعليك اذا ما كنت ماشيا ان تمشي على الجهة التي فيها سينما السعدون التي مازالت تفتح ابوابها فيما كل ما حولها مغلق، وتشعر بالخيبة اذا مانظرت اللافتات وقرأتها واغلبها عبارة عن مكاتب خطوط جوية لدول اسيوية واوربية، لكنها لت تعد تلك الزاهية بألوانها وتفاؤلها فقد كبت الطائرات، ولا يسرك ان احسست انك تمشي وحيدا في المكان الذي كان السير فيه زرافات ولا يخلو متر واحد من عابرين، ومن محطة الوقود الى بداية فندق (فلسطين ميرديان) تمتد الحواجز الكونكريتية العالية ولا توجد الا (فتحة) صغيرة امام (سينما بابل)، هذه الفتحة تسمى (فتحة الموت) لان العديد من من الانفجارات حدثت فيها، وحدثني احد الاشخاص من اصحاب المحال القريبة عن عجائب ما حدث من تفجيرات، حينما كانت الارتال الامريكية تمر منها لتستدير الى الجانب الاخر او تدخل في الشارع المحاذي لسينما بابل، يقول هذا الشخص انه كان شاهد عيان على تفجيرات راح ضحيتها العديد من الجنود الامريكان مثلما راح ضحيتها العديد من المواطنين الابرياء وقد كان اللحم يتناثر ويلتصق في الجدران او يصعد فوق البنايات وما زالت الاثار باقية، وفي الاخير اغلق الامريكان هذه الفتحة وتحولوا الى شارع (ابي نؤاس)، حدثني هذا الشخص عن وقائع مقززة يرتعد لها القلب وتشمئز منها النفس ورسم لي صور ومشاهد مرعبة حدثت في هذا المكان، واضاف المواطن : شارع السعدون لا يعود كما كان الا اذا غادر الامريكان فندق بغداد، حتى تزال الحواجز وينظف الشارع.

مع كل الاشكالات في الشارع التي تجعله صفة الشارع، الا ان هنالك صيانة لفتحات المجاري ومحاولات بسيطة وخجولة لترتيبه من جديد ولكن يبدو ان المشكلة اكبر فالشارع يحتاج الى جهد جماعي كبير، يقلع كل شيء ويعيد بناءه من جديد، ولكل قبله يجب ان يغادر الامريكان المكان وترفع الحواجز الكونكريتية، قال لي احد المارة وقد سألته : كيف يرى الشارع ؟، اشعر بالحزن وانا اقطع الشارع يوميا وارى حاله المأساوي، فليس في الشارع الذي كان جميلا اي جمال الان، من رأسه الى قدميه عبارة عن خراب ولا يوجد اي استمتاع في السير فيه، انه مجرد طريق عادي، آه على ايام الشارع الذي كان مفعما بالحيوية والحركة.

اتواصل مع الشارع لاقف امام الفندقين الشهيرين (الشيراتون والميرديان) حيث الطريق اليهما مغلقة وشكل الشيراتون بائس حيث اثار التفجيرات القريبة منه مازالت واضحة على ملامحه الشاهقة، لا احس فيهما بأية حركة تطرد الوحشة وقد اغلقا تماما بالحواجز الكونكريتية واغلقت المحال والمكاتب الممتدة على ضفافهما، انظر الى ساحة الفردوس التي صارت (هايد بارك) بغداد وفيها تقام الاحتجاجات والمظاهرات وكل من يريد ان يلفت النظر اليه، على مقربة منها نادي (العلوية) انه يمنح نفسه فرصة الامل لاستعادة ايامه على حذر، اما ما بعد ذلك فليس افضل فكل مافيه تشعر بعذاباته، زحامات وارصفة مبعثرة تقوم عليها (المولدات) الكهربائية والسيارات،وعليك ان تستذكر ما كانت عليه هذه المنطقة الاشد هدوء ومتعة، وحتى حين اعاين ساحة كهرمانة احزن لمنظرها الذي بدا بائسا وقد جف حوض نافورتها ولم تعد تصب (الماء) على الجرار، شكلها تغير بفعل فاعل بعد ان تعرضت للصبغ والتكسير، اتأمل شكلها واحادثها ولكن دون جواب، فوجها المكفهر ينطق بالجفاف، ولكن ما بعد ساحة كهرمانة افضل حالا وان يحزنك مشهد الفنادق التي اغلقت مداخلها بالطابوق واعلنت الغياب الى اجل غير مسمى، واثار تلك الامكنة التي كانت عامرة بالمرح التي تلاشت منذ (الحملة الايمانية) التي ابتدعها النظام السابق!.

اراني لا اعرف كيف اتصرف وقد تراكمت في ذاكرتي نفايات واحزان وحواجز كونكريتية، اجلس تحت مظلة لمحطة وقوف الحافلات قرب ساحة الفتح، اتذكر باصات نقل الركاب الحمر رقم (3 و 4) التي تقف هناك، اتطلع الى ارضية المحطة لا اجد اثارا للواقفين ولا للمنتظرين، ولا وجود للحافلات هذه، ولا اية حافلات، بل مجرد عشب نبت على الطين وبين الفراغات، جلست هناك وعيني على المسرح الوطني الذي احيط هو الاخر بالكونكريت المسلح وبنايته الهادئة وواجهته العارية، واطلت النظر مثلما اطلت الجلوس وقد كان العابرون مني ينظرونني بدهشة، حتى قال لي احدهم : ان باص المصلحة لن يأت، فلا تنتظره!.