هناك لحظات لا تُكتب بالتقارير، بل تُشمّ في الهواء السياسي، وتُقرأ من بين سطور صمت الأنظمة المتضخّمة. إيران تقف اليوم على عتبة تحوّل عميق، لن يكون فقط بيولوجيًا برحيل المرشد الأعلى علي خامنئي، بل فكريًا وسياسيًا بانهيار أحد أكثر المفاهيم الجيوسياسية تأثيراً في الشرق الأوسط: "ولاية الفقيه الفردية".
ليس من المبالغة القول إنَّ خريف 2026 سيكون لحظة فارقة، لا من حيث الحدث فحسب، بل من حيث ما سيترتب عليه من إعادة تشكيل للوعي السياسي داخل إيران وخارجها. خامنئي، الذي حمل عباءة السلطة منذ عام 1989، لم يكن مجرد رجل دين أعلى، بل تجسيداً لفكرة تغلغلت في شرايين النظام الإيراني حتى تحولت إلى ما يشبه العصب المركزي: أن يبقى القرار مختزلاً في شخص واحد، مقدّس، غير قابل للمساءلة، محاط بهالة تتجاوز الزمان والمكان.
لكنَّ هذه الفكرة بدأت تتآكل منذ سنوات، والعد التنازلي دخل مرحلته الحرجة. خامنئي لم يعد ذلك الرمز الذي يوحّد الصفوف، بل بات عنوانًا لصراع تيارات مستترة تتصارع تحت عباءته، تنتظر لحظة غيابه لتبدأ مرحلة جديدة من التفكك أو التشكل الجديد. والمؤسسة الدينية نفسها لم تعد موحدة حول فكرة استمرار الولاية الفردية بذات الطريقة المطلقة. بل هناك جناح متنامٍ يرى أن مرحلة ما بعد خامنئي يجب أن تتبنى نموذجاً أكثر تشاركية أو أقرب إلى "مجلس فقهاء" لا إلى مرشد أوحد.
إقرأ أيضاً: خمس بوابات لتحرير صنعاء وكسر يد الانقلاب الحوثي
خامنئي، الذي يحكم بمنطق الموازنة بين الحرس الثوري ومراكز القوة الدينية، صنع نظامًا هشًا من الداخل، لأن توازناته تعتمد على شخصه، لا على مؤسسات مستقرة أو آليات شفافة. وبمجرد اختفاء هذه الشخصية، ستتفكك تلقائيًا تلك الموازين الدقيقة التي أبقت النظام متماسكًا رغم التصدعات.
الرهان اليوم لم يعد على من سيخلف خامنئي، بل على ما إذا كانت المؤسسة السياسية والدينية قادرة أصلًا على تمرير ولاية فقيه جديدة دون انفجار داخلي. فإيران ما بعد 2026 ستكون مضطربة، ليس بسبب انتقال السلطة، بل لأن المجتمع الإيراني نفسه تغيّر. الجيل الجديد، الذي نشأ تحت ظل القمع والحصار والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية، لم يعد يملك ذلك الإيمان الغيبي بالنموذج الذي صُدّر لسنوات على أنه قدرٌ إلهي.
هذا الجيل يرى في الولاية الفردية عبئًا لا قداسة، يرى فيها عائقًا أمام بناء دولة مدنية حديثة تتنفس من خارج عباءة الخرافة السياسية. ومع تنامي الاحتقان الشعبي، وازدياد الصدامات بين الشباب وقوى الأمن، تصبح لحظة غياب خامنئي شرارة لا يمكن التحكم بتفاعلاتها.
إقرأ أيضاً: السومريون… أول من حبس الحرية
في خريف 2026، لن يكون النظام قادرًا على إعادة إنتاج شخصية تحمل نفس الوزن السياسي والهيبة الدينية لخامنئي. ومع غياب شخصية توافقية، ستبرز النزاعات بين التيارات المختلفة: المحافظون المتشددون، الإصلاحيون الخائبون، الحرس الثوري الطامح لدور أكبر من خلف الستار، ورجال الدين الذين يخشون أن تفقد المؤسسة الدينية سلطتها الرمزية.
وهنا يبدأ السؤال الأكبر: هل سيبقى مبدأ ولاية الفقيه الفردية قائماً؟ المؤشرات الاستشرافية تقول لا. سيبدأ النظام بالتحول نحو نمط تجميعي أو صوري من القيادة الدينية، مع تقليص تدريجي لصلاحيات المرشد القادم، سواء تم ذلك عبر إعادة تفسير دستوري، أو ضغط شعبي يفرض هذا التغيير كأمر واقع.
الاضطراب المتوقع بعد رحيل خامنئي سيفتح الباب لعملية إعادة هيكلة سياسية داخل النظام. وقد تشهد إيران محاولة انقلابية ناعمة من داخل أجهزتها الأمنية، أو حركة إصلاحية تفرضها احتجاجات الشارع، أو حتى صراعًا داخليًا بين الحرس الثوري والمؤسسة الدينية على تحديد ملامح الجمهورية المقبلة.
إقرأ أيضاً: الحوثيون ينهارون بهدوء والنهاية صيف 2027
لكنَّ الأكيد أنَّ فكرة المرشد الواحد، صاحب الكلمة الفصل، المحاط بحُجُب القداسة، لن تنجو من خريف 2026. لقد انتهى زمن التقديس السياسي، وبدأ زمن التشكيك العميق في جدوى هذا النموذج الذي فشل في تحقيق التنمية، وانتهى إلى تصدير الأزمات والقمع والتخلف.
حين تُطوى صفحة خامنئي، لن يرحل رجل فقط، بل تنهار منظومة فكرية كاملة، وتبدأ مرحلة إعادة تعريف إيران لنفسها. قد يستغرق الأمر سنوات، لكنه بدأ فعليًا من اللحظة التي فقدت فيها الولاية الفردية قدرتها على الإقناع.
التعليقات