لأنَّني كنت المراسل الحربي الأكثر تواجدًا وتنقلًا في جغرافيا اليمن، عرفت الأرض قبل أن تُرسم على الخرائط، ولامست وجوه الجبال قبل أن ترويها التقارير، رأيت الحرب وهي تتنفس، وسمعت الوطن يئن بين فوهات بنادق الانقلابيين، لذا أرى المشهد بعيون الميدان لا مقاعد التحليل.

في المعادلات العسكرية لا تُقاس الحروب بعدد الطلقات فقط، بل تُوزن بأحجام المسارات وتكتيكات التقدم ومدى قابلية الأرض للتنفس القتالي…

واليوم تقف صنعاء العاصمة اليمنية المختطفة، كعقدة مركزية تتشابك حولها خيوط السياسة والسلاح والمصير الوطني. وإذا كانت السيطرة على صنعاء هي المفتاح لإنهاء الانقلاب، فإنَّ رسم خريطة دقيقة لأفضل طرق الزحف نحوها بات مهمة لا تقبل التردد ولا تحتمل التقديرات المضللة. وفي هذا التحليل، نرصد خمس بوابات رئيسية تشكل أسهل وأذكى الطرق العسكرية الممكنة لانطلاق قوات الشرعية والتحالف لاستعادة العاصمة، مع توضيح نقاط القوة والتحديات لكل طريق.

الطريق الأول هو طريق مأرب – صرواح – خولان – صنعاء، وهو الطريق الذي ظل لسنوات، مرشحًا أولًا لأي عملية استرداد للعاصمة. هذا الطريق الذي أحفظه كما أحفظ اسمي ويمتاز هذا المسار بالدعم اللوجستي المستقر، والقرب من مركز ثقل الشرعية في مأرب وقبائلها الشجاعة، بالإضافة إلى الحضور الجوي. ورغم وعورة صرواح وكثافة الألغام، فإن التركيبة القبلية المتشابكة على امتداد هذا الطريق قد تُوظف لصالح الحسم إذا تم تنسيق الجهد القبلي مع الضغط العسكري. هنا لا تكمن الأهمية في السرعة، بل في الثبات وتماسك خطوط الإمداد التي تمنح هذا المحور قوة دافعة طويلة الأمد.

إقرأ أيضاً: أوجلان... ميلاد جديد من القيود إلى الأسطورة

الطريق الثاني هو طريق مأرب - نهم – أرحب – شمال صنعاء، وهو المسار الذي لمس ذات يوم تخوم مطار العاصمة، وكان قاب قوسين من تحقيق اختراق حاسم. ورغم التراجع العسكري السابق، إلا أن إعادة تنشيط هذا المحور تبقى ممكنة إذا ما تم توظيف الإسناد الناري النوعي والغطاء الجوي بشكل أكثر كثافة. قرب هذا المسار من المرافق الحساسة للميليشيا قد يجعل أي تقدم مفاجئ فيه كفيلًا بإرباك شبكاتهم الدفاعية والإعلامية. لكن المكشوفية الميدانية لهذا الطريق تستدعي استخدام تكتيكات التمويه والتحرك الليلي والإنزال المحدود لإرباك الدفاعات الحوثية وتحييد أنظمة الرصد والطائرات المسيَّرة.

الطريق الثالث، وهو طريق البيضاء – ريمة أو ذمار – جنوب صنعاء، يمثل المسار الأقل استهلاكًا عسكريًا لكنه يتمتع بأهمية تكتيكية بارزة. التحرك عبر البيضاء يتيح وصولًا إلى خاصرة جنوب صنعاء الحساسة، ويفتح باب المناورة عبر القبائل التي بدأت تظهر مؤشرات تململ من سيطرة الحوثيين. هذا الطريق لا يهاجم العاصمة مباشرة، بل يخترق أطرافها الضعيفة، مما يمنح الشرعية إمكانية تفكيك البنية القتالية للانقلاب من الداخل. عمليات الإنزال النوعية في ريمة قد تؤدي إلى انهيار تدريجي في صفوف القيادات الميدانية للميليشيا، خاصة إن تزامنت مع ضربات جوية دقيقة ومباغتة.

إقرأ أيضاً: محارباتٌ خارجُ الزمن: من الفالكيري إلى القسديات

الطريق الرابع وهو الطريق الذي أرى فيه إمكانيات جبارة عبر حجة – المحويت – غرب صنعاء، قد يبدو للبعض طريقًا وعرًا وغير تقليدي، لكنه يحمل فرصًا ذهبية للمباغتة الاستراتيجية. معظم خطوط الدفاع الحوثية متمركزة شرقيًا وشماليًا، ما يجعل الغرب خاصرة رخوة إذا تم اقتحامها بذكاء. هذا الطريق يحتاج إلى تأمين سريع لطرق الإمداد وخلق جسور دعم لوجستي من الساحل إلى الجبال، لكنه يفتح الباب أمام عزل صنعاء عن الحديدة، ويقطع شريانًا استراتيجيًا تستخدمه الميليشيا لنقل العتاد والمقاتلين.

الطريق الخامس والأحدث ضمن نطاق هذا التحليل هو الحديدة – الحيمة – بني مطر – صنعاء. هذا الطريق لم يُستغل حتى الآن كمحور هجومي مباشر نحو العاصمة، لكنه يحمل إمكانيات استراتيجية بالغة الأهمية. السيطرة على الحديدة لا تعني فقط خنق الميليشيا اقتصاديًا، بل تعني كذلك فتح جبهة جديدة من الغرب إلى العاصمة عبر مناطق ذات تباين قبلي واسع وغير موالٍ للحوثيين. التحرك من هذا الطريق سيقلب معادلة المعركة ويخلق ضغطًا مزدوجًا على الانقلابيين من جهتين متباعدتين: من الشرق عبر مأرب، ومن الغرب عبر الحديدة، مما يؤدي إلى تمزق خطوطهم الدفاعية وتشتت قدرتهم على الصمود في أكثر من محور في آن واحد. كما أن هذا الطريق يحمل بعدًا نفسيًا عميقًا: اختراق من البحر إلى الجبل، من الساحل إلى العاصمة، وهي صورة تُرعب الميليشيا وتُحبط قواعدها.

إقرأ أيضاً: السومريون… أول من حبس الحرية

إذا جمعنا هذه الطرق الخمس، نكتشف أن استراتيجية تحرير صنعاء لا يمكن أن تعتمد على محور واحد فقط، بل على تكامل عملياتي متزامن، يتحرك عبر عدة محاور لإرباك قيادة الحوثيين وشل قدرتهم على إعادة الانتشار. كل طريق يمتلك مزاياه، لكن الانتصار يكمن في القدرة على استخدام هذه الطرق بذكاء تكتيكي وبمفاجأة استراتيجية، حيث تُضرب العاصمة من حيث لا تتوقع، وتُخترق منظومتها الدفاعية من أكثر نقاطها أمانًا، فصنعاء لن تتحرر عبر معركة كلاسيكية تقليدية، بل عبر زحف ذكي ومتعدد الاتجاهات، يقوده عقل عسكري استثنائي يُدرك أن الحروب الكبرى لا تُحسم بالبندقية فقط، بل بالتفكير خارج خنادق العادة.