الرسمي منه يخرّج جيوشًا من أشباه المتعلمين
التعليم في لبنان بات متاحًا لأبناء الفئات الميسورة

ركان الفقيه من بيروت: ترتفع صرخة الاغلبية الساحقة من العائلات اللبنانية مع بداية العام الدراسي الحالي الذي ينطلق متثاقلا ومحملا بالكثير من الأعباء الاضافية التي يرتبها على كاهل ارباب تلك العائلات إثر الزيادة التي من المتوقع ان تطاول الرسوم المدرسية وبدل النقل واسعار الكتب والقرطاسية، ناهيك عن اللباس وغيره من الحاجات الاخرى. ويأتي كلّ ذلك في إطار الارتفاع الجنونيّ في أسعار السلع الضروريَّة والمحروقات والأدوية، والتي تجاوز سعر بعضها قيمة السعر الاصلي اضعافا عدة. وتجري هذه العمليَّة من دون أيَّ ضوابط من قبل أجهزة الرقابة الحكوميَّة ومصلحة حماية المستهلك، إذ يكاد دور تلك الاجهزة والمصلحة المذكورة ان يكون معدومًا ما يجعل إعصار الغلاء الذي يجتاح الأسواق اللبنانية محكومًا بجشع التجار ونهمهم لجمع الثروات الطائلة دون حسيب أو رقيب.

ويجد الاهالي انفسهم مجبرين على القبول بالزيادة على رسوم التسجيل التي بات من المؤكد ان تقرها المدارس الخاصة والخاصة المجانية في ظل انعدام الثقة بالمدرسة الرسمية، خصوصا في مرحلتي الروضة والتعليم الاساسي اللتين لم تعرهما الحكومات اللبنانية المتعاقبة الحد الادنى من الاهتمام المطلوب في ظل محاصصة طائفية ومذهبية جعلت لكل مذهب وطائفة مدارسها التي تستوعب ابناء الفئات الميسورة داخل كل طائفة، وتحويل المدرسة الرسمية اشبه بمأوى لأطفال الفقراء من جميع الطوائف، حيث تنخفض انتاجية تلك المدارس الى درجة متدنية جدا، بسبب عدم توفير الحد الأدنى من مستلزمات العملية التعليمية، وحقوق المعلمين الذين يؤمنون استمرارية عمل تلك المدارس.

يقول أبو حسن (صاحب فرن للمناقيش) ان دخله السنوي لا يتجاوز العشرة ملايين ليرة لبنانية، والتي يدفع منها ما يقارب الخمسة ملايين ليرة لبنانبة لتسجيل أبنائه الأربعة في احدى المدارس الخاصة، على الرغم من إعفاء أحدهم بسبب تفوّقه. ويؤكّد أبو حسن إلتزامه خطّة تقشف قاسية جدًا بالنسبة إلى الطعام والكثير من الضرورات الحياتية الأخرى كي يتمكن من توفير التعليم الجيد لاطفاله، معتبرًا ذلك رأس المال الأفضل الذي يقدمه لهم لمواجهة الحياة.

ويضع ابو حسن يده على قلبه قبل انطلاقة العام العام الدراسي قائلا: quot;لا ادري كم ستكون نسبة الزيادة على الاقساط وثمن الكتب وبدل النقل هذا العامquot; ويلفت ابو حسن الى انه بدأ يستعد لاتخاذ القرار الاصعب في حياته وهو نقل اطفاله الى المدرسة الرسمية بعد ان بات عاجزا عن تحمل اي زيادة على كلفة بقائهم في المدرسة الخاصة.

ويتوقف محفوظ محفوظ (موظف اداري في احد المستشفيات) عند التحول الذي اصاب قطاع التعليم في لبنان وحوّله إلى صورة على شاكلة زعمائه السياسين، حيث بات هناك تعليم باب اول وثان وثالث... فمن اراد ان يؤمن لابنائه تعليما جيدا لن يجد ضالته سوى في التعليم الخاص (باب اول) الذي بات حكرًا على الأقلية الميسورة، والتي يتقلص عددها باستمرار إلى حدود مرعبة مع الانهيار المتواصل للطبقة الوسطى التي شكلت الاغلبية الساحقة من اللبنانيين تاريخا والتي تكاد تزول مع تراجع الأوضاع الاقتصاديَّة المستمرّ والناجم عن الازمات السياسية والاحداث الامنية وإفلاس الكثير من المؤسسات الصناعية والتجارية جراء ذلك.

ويشير محفوظ الى انه وبفعل علاقة الصداقة التي تربطه بمدير احدى المدارس الخاصة المجانية (باب ثاني) استطاع حتى الآن ابقاء اطفاله الثلاثة في هذه المدرسة التابعة لقطاع التعليم الخاص المجاني والذي تغطي قسمًا من نفقاته وزارة التربية الوطنية من خلال تأمين منح مالية تقدمها الوزارة لهذه المدارس مقابل كل تلميذ وبما يوازي الحد الادنى للاجور تقريبا، إضافة إلى تقاضي المدارس المعنية رسوم تسجيل من الاهالي تصل الى حوالى الخمسمائة الف ليرة، والمرشحة للزيادة ايضا هذا العام، الى جانب المنحة التي تتلقاها من وزارة التربية، وتتراوح بين الخمسمائة والستمائة الف ليرة لبنانية عن كل تلميذ.

تنفرج أسارير محمد منصور (عامل البناء) ورب عائلة تتألف من ستة اطفال يتوزعون بين مرحلتي الروضة والتعليم الاساسي الرسمي (باب ثالث)، لدى سماعه نبأ الهبة التي قدمتها المملكة العربية السعودية بقيمة اربعة واربعين مليون دولار اميركي للحكومة اللبنانية كبدل لتسجيل التلامذة في المدارس الرسمية وثمن الكتب المطلوبة منهم، حيث تبدو سعادة محمد مبررة تماما، وهو الذي بالكاد يستطيع ان يوفر لعائلته بدل الطعام وبعض الضرورات الحياتية الاخرى ، ويشير محمد الى ان تلك الهبة قد انقذت اطفاله من البقاء في الشارع خلال السنة الدراسية الحالية، لانه بات عاجزا عن تحمل حتى كلفة تسجيلهم في المدرسة الرسمية، التي يبلغ قسط التلميذ المنتسب اليها ما يقارب السبعين الف ليرة لبنانية فقط، لكن محمدا يبدي ألمه الشديد من جهة اخرى، لما آلت اليه الاوضاع المعيشية للبنانيين، وتحولهم اشبه بالمتسولين الذين ينتظرون الهبات والمساعدات والصدقات وصناديق الاعاشة في كل ما يتعلق بضرورات حياتهم من غذاء وتعليم وطبابة، وهي الحال المهينة والمزرية التي اوصلهم اليها زعماؤهم السياسيون، وكأن هناك سياسة مقصودة في إفقار اللبنانيين واذلالهم من قبل اولئك الزعماء، كي يتحولوا الى مجرد أتباع مسلوبي الارادة، وادوات لدى هذا الزعيم الطائفي او ذاك . ويختم محمد بأنه مدرك تماماً ان الانتساب الى المدرسة الرسمية هو مجازفة بالمستقبل التعليمي لأطفاله ولكن quot; الكحل احلى من العمىquot; وفقاً للمثل الشعبي اللبناني المتداول.

ويلخص المسؤول النقابي في التعليم الرسمي حنا حنا مشكلة التعليم في لبنان مؤكدا أنها تتراوح بين المفهوم التجاري السائد لدى اصحاب المدارس الخاصة والذي يدفعهم الى إقرار الزيادات الخيالية على رسوم التسجيل من جهة والاهمال شبه المطلق للتعليم الرسمي من قبل الطبقة السياسة الحاكمة في البلاد من جهة اخرى، على مدى عقود من الزمن ويتابع حنا قائلاً: quot;ان عدد المدارس الرسمية لمرحلتي الروضة والتعليم الاساسي في لبنان يقارب الالفي مدرسة، باتت تضيق بعشرات الآلاف من التلامذة الوافدين اليها، خصوصاً في السنوات الأخيرة بسبب الانهيار الاقتصادي والافقار المتزايد لفئات وشرائح اجتماعية جديدة داخل المجتمع اللبناني، دون ان يترافق ذلك مع الحد الادنى من اهتمام الحكومات المتعاقبة، حيث الكثير من الابنية المدرسية متصدعة وقديمة، ودون ان يتم رفد الجسم التعليمي بدماء جديدة، الامر الذي تتم الاستعاضة عنه بالتعاقد الموقت وببدل للساعة الواحدة يتراوح بين 6000 و 8000 ليرة لبنانية، ما جعل عدد المدرسين المتعاقدين يصل الى ما يقارب الثلاثة عشر ألف مدرس، وبات يوازي نصف عدد مدرسي هذه المرحلة، بالإضافة إلى الغياب الكامل للمختبرات وإلغاء تدريس مادتي الرياضة والفنون.

ويتوقع زيادة في نسبة اقساط المدارس الخاصة تتراوح بين عشرين وثلاثين بالمئة، ويختم حنا بالاشارة الى ان الخلل الآخر الذي يحول دون النهوض بالمدرسة الرسمية، يكمن اساساً في الشلل الذي يصيب الحركة النقابية للمعلمين عموماً وفي قطاع التعليم الاساسي الرسمي على وجه الخصوص، الذي تحولت روابطه النقابية الى اداة طيعة بأيدي السياسيين، ما يشل قدرته بشكل كامل على القيام بأي تحرك مطلبي لتأمين حقوق المعلمين والنهوض بالقطاع الأكثر اهمية وحيوية بالنسبة إلى التعليم في لبنان، بعد ان بات دوره يقتصر على تخريج جيوش من الأميين، او اشباه المتعلمين باستثناء عدد ضئيل من الاطفال الذين يتلقون رعاية خاصة من اولياء امورهم خلال هذه المرحلة من حياتهم التعليمية.