الهجرة السرية.. مسلسل من الفواجع عجز المغاربيون والأوروبيين عن إيقافه

رشيد خشانة من تونس: ما أن هدأت قليلا الرجّـة التي أحدثها غرق 26 شابّـا تونسيا في ساحل ضاحية المرسى القريبة من العاصمة لدى محاولتهم عبور البحر إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، حتى هزّت الرأي العام في تونس فاجعة جديدة بعد جنوح مركب كان يقِـلّ نحو 100 مهاجر غير شرعي من جنسيات إفريقية مختلفة، بينهم أطفال وفتيات ونساء، انطلقوا من أحد الشواطئ الليبية في رحلة بحرية في اتِّـجاه السواحل الجنوبية لإيطاليا..


.. غير أن الرّحلة استمرّت أربعة أيام، لأن قارِبَـهم تعطَّـل في عرْض البحر قبل أن يغرق يوم 19 مارس الجاري داخل المياه الإقليمية التونسية، قبالة شواطئ مدينة صفاقس الجنوبية. ولقي 17 مهاجرا منهم حتفهم غرقا وأنقذت قوات الجيش التونسي والحماية المدنية 33 آخرين، فيما اعتُـبر 50 شخصا آخرون في عِـداد المفقودين.

وبعدما كانت كارثة المرسى تُعتبَـر الفاجعة البحرية الأكثر مأساوية في العام الجاري، أتت الكارثة الجديدة لتتجاوزها، وإن لم يوجد تونسيون بين الضحايا. قبل ذلك بفترة قصيرة، عُثِـر على جُثَّـتي شابَّـين تونسيين في سفينة شحْـن في السويد، كانا استقلاها خِـلسة قبل أن تغادر ميناء رادس.

الظاهر أن جميع الأسوار القانونية والأمنية التي أقامتها البلدان الأوروبية القريبة من سواحل شمال إفريقيا لصدّ موْجات المهاجرين غير الشرعيين، لم تُجدِ نفعا. فلا الاتفاقات القضائية التي عقدتها كل من تونس وليبيا مع إيطاليا والمغرب وموريتانيا مع إسبانيا خفّـفت من عدد المهاجرين السريين ولا التّـجهيزات المتطوِّرة، التي حصلت عليها البلدان المغاربية ساعدت على مراقبة السواحل واحتواء المراكب، التي تشُـق عِـباب الليل نحو الضِّـفاف المقابلة.

وظلّـت سواحل إيطاليا وإسبانيا، وبدرجة أقل مالطا، تُمارس فعلا سحريا في عُـقول مئات الآلاف من الشباب في المغرب العربي وفي البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء، الذين يتَّـخذون من ليبيا منصّـة quot;للقفزquot; إلى quot;الجنة الموعودةquot; أوروبا.

وأفادت الإحصاءات الأممية أن نسبة المهاجرين السريين الذين يتِـم ضبطهم، لا تتجاوز 10% من الحجم الإجمالي، وتصل النسبة إلى 30%، عندما تُحكم خافرات السواحل الرّقابة على البحار، إلا أن الإحكام لا يُـمكن أن يستمر طويلا فتنخفض اليقظة مُجدّدا، فاسحة المجال أمام تسرّب عشرات المراكب خِـلسة بين ثقاب الشباك، إذ تتكثّـف quot;الرحلاتquot;، التي يُنظمها عادةً مُنظِّـمون مُحترفون، على رغم القوانين الصارمة التي صدرت في السنوات الأخيرة لمعاقبتهم.

وغاية هؤلاء المهاجرين، هي الوصول إلى التراب الأوروبي، لأنهم يشعرون عندها بنوْع من الحَـصانة تسمح لهم بانتظار اليوم الذي تتِـمّ فيه تسوية أوضاعهم. وطِـبقا للقانون الدولي، لا يحق للدولة quot;المستقبلةquot; أن تُرحِّـل مهاجرا وصل إليها عبر البحر، وإن بطريقة غير شرعية.

وما شحذ المُهج لشدّ الرحال إلى أوروبا وركوب مخاطِـر البحر حتى في فصل الشتاء، قلّـة رضا فئات الشباب على وضعها. فليس العاطلون هم وحدهم الذين يحلمون بالهجرة، فالظاهرة اللافتة في الفترة الأخيرة، هي أن موظفين وشبابا من فئات متوسِّـطة، وحتى ميسورة، يُغامرون بامتطاء سُـفن صيْـد عتيقة، كثيرا ما تنقل راكبيها إلى العالم الآخر بدل جنّـات الأحلام في أوروبا.

وفوجئ المحقِّـقون في حادثة غرق زوْرق الصيد في ساحل المرسى، شمال تونس الشهر الماضي، بأن أحد المفقودين كان شابا من وسط ميسور، فأخته طبيبة وهو كان يعمل وأراد تغيير الوظيفة، إلا أنه قفز في مركب quot;الحارقينquot;، مثلما يُسمّـون في تونس، في اللّـحظة الأخيرة، أملا بتحسين وضعه، فسافر ولن يعود.

انسداد القنوات الشرعية والإفتقار إلى البدائل
ويدلّ تزايد أعداد مَـن لديهم شُـغل بين المهاجرين السرّيين، على أن قنوات الهجرة الشرعية باتت ضيِّـقة إلى أبعد الحدود. فالإيطاليون أعلنوا في السنوات 2003 - 2004 أنهم فسَـحوا المجال لانتداب ثلاثة آلاف عامِـل متخصِّـص من تونس، بين ممرِّضين وعمَّـال كهرباء وصِـيانة، بعد تلقيهم تكوينا في اللغة الإيطالية، لكن هذه الحصّـة لم تُحترم قبل أن تختفي تماما.

كذلك، أبرمت السلطات الفرنسية في 28 أبريل 2008 اتفاقا مع الحكومة التونسية، خصّـصت بمُـوجبه حصَّـة تصل إلى ألفي فرصة عمل للتونسيين الراغبين في الهجرة بطُـرق قانونية، وشمل الاتفاق 77 تخصّـصا مهنيا، غير أن ما لوحظ هو مزيد من التشدّد في منح التأشيرات، خصوصا بعد توحيد السياسة الأوروبية الرّامية لمكافحة الهجرة غير الشرعية، باعتماد المقاييس الحيوية quot;Biomeacute;triequot;.

مع ذلك، أكّـد حبيب قعيدة، أمين عام غرفة الصناعة التونسية الفرنسية، أن فرنسا تحتاج إلى ألفي عامل تونسي سنويا في تخصّـصات مختلفة، ورأى في لقاء نظَّـمته الغرفة مؤخَّـرا، أن خرِّيجي الجامعات يتمتَّـعون بفرص أكبر لإيجاد وظائف في فرنسا، مؤكدا أن عددهم سيصل إلى 100 ألف خرِّيج في سنة 2016، واعتبر أن الصيغة المُـثلى لمجابهة هذا الاستحقاق، هو إخضاع شُعَـب الدِّراسة لمتطلَّـبات سوق العمل.

وفي الإطار نفسه، اعترف مدير عام الأجانب والحدود في البرتغال مانوال بالوس، بمحدودية صيغة الهجرة الدائمة التي تعتمد على العقود المُـسبقة، لكنه اقترح العمل على تكثيف الهجرة الدائرية، أي أن ينطلق المهاجر إلى الوجهة الأوروبية التي يجِـد فيها عملا، كي يعود بعد فترة إلى بلده الأصلي، ثم يهاجر غيره بالطريقة نفسها، وهكذا.

وأفاد في تصريح لسويس أنفو، على هامش ندوة عن الهجرة عُقدت في وقت سابق من الشهر الجاري في تونس، في إطار مجموعة 5 زائد 5، أن الندوة خُصصت لتعميق مفهوم الهجرة الدائرية ومنحها المِـصداقية اللازمة، كي تكون متكاملة مع الهجرة الدائمة وتلعب دورا داعِـما في تعديل التفاوُت بين العرض والطلب في أسواق العمل المغاربية.

ورأى فرج السويسي، مدير ديوان التونسيين بالخارج، الذي يهتم بقضايا الهجرة، أن إكساب هذه الصيغة المصداقية، يحتاج إلى تأمين عدد من الضمانات والحقوق الأساسية، وفي مقدمتها المُـرونة في التنقل وحماية المكاسب الاجتماعية وتطوير التشريعات. وأقر بالوس بأن الهجرة الدائرية قديمة، مؤكِّـدا أن الإتحاد الأوروبي رأى ضرورة إحيائها في إطار تنشيط قنوات الهجرة الشرعية.

ولدى سؤاله عن المضمون العملي للإحياء، أوضح أن ندوة تونس، التي أتَـت تنفيذا للاجتماع السادس للوزراء المعنِـيين بالهجرة في مجموعة 5 زائد 5 في البرتغال في مايو 2008، خُصِّـصت لإنشاء قاعدة بيانات عن سوق العمل في بلدان الإستقبال، وقاعدة مماثلة عن المهارات المتوافرة في البلدان المُصدِّرة للمهاجرين.

غير أن هذه المساعي لم تمنَـع ظاهرة الهجرة السرية من تسجيل ارتفاع ملحوظ في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بحسب التقرير السنوي الذي أصدرته في 31 ديسمبر الماضي منظمة quot;كاريتاسquot;، وهي أهم منظمة عالمية تُـعنى بالهجرة غير الشرعية. وكشف التقرير أن أعداد المهاجرين سِـرّا، ازدادت في منطقة لامبيدوزا وحدها بنحو 45% سنة 2008، مقارنة بسنة 2007.

وقال الدكتور مهدي مبروك، الباحث التونسي المتخصّـص في الهجرة لسويس أنفو، إن الإحصاءات المُـنجزة مؤخرا، أظهرت زيادة عدد التونسيين الذين يقصِـدون ليبيا للهجرة من هناك، مُـشيرا إلى إيقاف السلطات الليبية 6 فتيات تونسيات كُـنَّ يحاولن الهجرة خِـلسة إلى السواحل الأوروبية سنة 2008، وهو ما يؤكِّـد أننا بِـتنا أمام ظاهرة جديدة، يمكن تسميتها بـ quot;تأنيث الهجرة غير الشرعيةquot;.

قُصارى القول، أن موجات المهاجرين غير الشرعيين ما زالت تتدفّـق على أسوار أوروبا وترتطِـم على بوّاباتها. ففي عام 2008، قضى 1502 مهاجرا أمام تلك الأسوار، لكن هذا العدد سجَّـل تراجُـعا بنسبة 23%، قياسا على العام السابق. غير أن عدد الحالِـمين بصقلية والذين غرقوا قبل أن يدُركوا سواحلها، زاد في الفترة نفسها، إذ ارتفع عددهم من 556 غريقا في 2007 إلى 642 في السنة الماضية، أما عدد الواصلين إلى صقلية، فزاد بنسبة 80% في سنة 2008، مقارنة بالسنة السابقة.

واستخلص الدكتور مبروك في تعليقه على تلك الإحصاءات، أن الأسلوب الأمني لم يُؤدِّ إلى النتائج التي كانت مأمولة منه، مُستدلاًّ بأن عدد القتلى بين المهاجرين غير الشرعيين عبر مضيق جبل طارق، ارتفع إلى أكثر من 4000 غريق في السنوات الخمس الأخيرة، وهذا يعني أن الغرقى في السنة الواحدة وفي أحد المضيَـقيْـن فقط (صقلية وجبل طارق)، كانوا أكثر من الضحايا الذين سقطوا في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزّة، ومع ذلك، يتكاسل الإعلام العربي والدولي عن الاهتمام بهذه الحرب المُدمِّـرة.

من الاحتجاز إلى الترحيل
أكثر من ذلك، شكّـل القرار الإيطالي بتحويل مركز الاحتجاز في لامبيدوزا إلى مركز للحجز، والفرز في آن معا، انعطافا في أسلوب التعاطي مع الهجرة غير الشرعية، إذ تستعدّ الحكومة الإيطالية للإنطلاق في عمليات ترحيل المهاجرين غير المرغوب فيهم مباشرة من الجزيرة التي تتوسط الطريق بين تونس وإيطاليا إلى بُـلدانهم، وخاصة إلى تونس وليبيا، بعدما وقَّـع وزير الداخلية الإيطالي روبرتو ماروني على اتِّـفاقيْـن في هذا المعنى مع السلطات في البلدين.

كما يُتيح الأسلوب الجديد الاحتفاظ بالمُـهاجرين غير الشرعِـيين في المركز مُدَدا تصِـل إلى 18 شهرا، تنفيذا للقرار الذي اتَّـخذه الإتحاد الأوروبي في شأن إعادة ذلك الصِّـنف من المهاجرين إلى بلدانهم، غير أن تلك الخطوات أثارت ردود فعلٍ عنيفة لدى المنظمات الإيطالية التي يقودها اليسار، وكذلك لدى منظمات الدفاع عن المهاجرين في كلٍّ من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، والتي يُسيطر عليها نشطاء ينحدرون من شمال إفريقيا.

لكن اللافت، أن سكان لامبيدوزا أنفسهم ثاروا ضدّ تلك التَّـدابير الجديدة، بعدما انتفض المهاجرون المحاصرون في مركز الاحتجاز وكسروا الأسيجة لينطلقوا في مسيرات عبْـر الجزيرة الصغيرة، قبل أن تُعيدهم قوات مكافحة الشَّـغب إلى المركز وتنقل بعضهم إلى سُـجون جنوب إيطاليا.

ولا يتجاوز عدد سكان الجزيرة الصغيرة الستة آلاف، فيما يفوق عدد الشرطة والدّرك ألف عنصر. وما حيِّـر المراقبين، أن شريان المراكب المُحملة بالمغامرين، لم ينقطع بعد تلك الأحداث المأسوية التي شملت ألف مُحتجز في مركز لا مبيدوزا، بينهم نحو ألف تونسي. ورأى الدكتور مبروك أن هذا الانعطاف في موقف السلطات الإيطالية من المهاجرين غير الشرعيين، يعكس رغبة حكومة برلوسكوني بـ quot;تصديرquot; المشكل إلى الخارج، بعدما عجزت عن حلِّـه في الداخل.

وأكَّـد دبلوماسي في السفارة الإيطالية في تونس، أن روما رحَّـلت خلال شهري يناير وفبراير الماضيين 3000 مهاجر إفريقي، قال إنهم وصلوا بطُـرق غير شرعية، إلا أن الباحث مبروك اعتبر أن الإيطاليين يسعَـوْن لإعطاء وكالة للحكومات المغاربية، كي تتولَّـى هي صدّ موجات الهجرة في إطار نوع من quot;المناولةquot;، وأكد أن السلطات الليبية هي أول من قبل القيام بدور الوكيل في التعاطي مع تنامي ظاهرة الهجرة السرية، في مقابل الحصول على ست خافرات متخصصة بمراقبة السواحل، ستقوم بدوريات مشتركة على طول السواحل الليبية، وحث الباحث التونسي المغاربيين على الامتناع عن القيام بهذا الدور.

وكشف الدبلوماسي الإيطالي، الذي رفض الكشف عن هويته لسويس انفو، أن وزارة الداخلية الإيطالية تُقدر عدد الأفارقة الذين يتأهّـبون حاليا للسفر خِـلسة إلى إيطاليا بمليوني شخص. وعلى رغم المبالغة التي يمكن أن تتَّـسم بها هذه التوقعات، فإن التزايد المؤكد للعاطلين في العالم سيجعل من الوصول إلى أحد البلدان الصناعية الأوروبية، حُلما لكل شاب عاطل، خصوصا إذا كان حاملا شهادات جامعية.

وفي هذا السياق، تتوقع منظمة العمل الدولية أن يرتفع عدد العاطلين في العالم إلى 210 ملايين عاطل في مقابل 190 مليون عاطل في سنة 2007، وما دام هذا الإحصاء يعتمد على الأرقام الرسمية التي تُقدمها الحكومات، فهذا يعني أن الحجم الحقيقي قد يكون أعلى من ذلك، لكن محمد الكشو، مدير المركز العربي لإدارة العمل والتشغيل (مقره تونس)، يعتقد أن استِـبقاء هؤلاء في بلدانهم مُـمكن، وفي هذا الإطار، عقد المركز ندوة مؤخرا في مقرِّه بمشاركة خمسين خبيرا من البلدان العربية، ركَّـزوها على البحث في البرامج الرامية إلى التشجيع على بعث المشاريع وتذليل الصعوبات التي تعترض الخرِّيجين المُقبلين على سوق العمل، إلا أن التدابير المقترحة قد لا تكون ناجعة، لأن أكثريتها تبقى نظرية.

كيف يمكن النظر إذن إلى مستقبل الظاهرة؟ ما من شكّ في كونها مرشّـحة إلى التفاقم مع الانعكاسات المتوقّـعة للأزمة الاقتصادية، ومن المؤشرات على ذلك، أن وحدة البحث الجامعي التي يقودها الدكتور مهدي مبروك توصّـلت إلى استنتاج، مفادُه أن نسبة الجامعيين، أي الذين لهم مستوى تعليمي، يبدأ من الثانوية العامة فما فوق، يشكِّـلون خُمُس المهاجرين السريين (20%)، وهي نسبة تُغْـني عن أي تعليق...