بغداد: يدور الحديث هذه الأيامعن إعادة نصب الجندي المجهول في بغداد، لاسيما بعد لقاء أمين عام مجلس الوزراء بالرائد المعماري المعروف رفعت الجادرجي الذي صمم الجندي المجهول القديم، إذ تم فيه مناقشة المستلزمات الفنية والهندسية لإعادة إقامة هذا النصب.
و(الجندي المجهول) نصب تذكاري يرمز للجنود المجهولين الذي ذهبوا ضحية الحروب في العراق، صممه المهندس المعماري العراقي رفعت الجادرجي في ستينيات القرن الماضي. أزيل هذا النصب في فترة النظام السابق ووضع محله تمثال للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين الذي ldquo;أزيلrdquo; فيما بعد في الحرب الأخيرة عام 2003.
وذكر رئيس لجنة إزالة مخلفات نظام البعث والنظر في إقامة الجداريات والنصب الجديدة التابعة لمجلس الوزراء العراقي محمد طاهر التميمي أن اللجنة ldquo;قررت إعادة بناء نصب الجندي المجهول الذي صممه المهندس المعماري رفعت الجادرجي في مكانه السابق (ساحة الفردوس حاليا) وسط العاصمة بغداد كونه يمثل أحد الرموز الوطنية والحضارية ويحمل الكثير من المعاني السامية في نفوس العراقيين.rdquo;

نصب الجندي المجهول القديم الذي كان في ساحة الفردوس ببغداد

وعقب ما ورد من أنباء تتحدث عن إعادة النصب، فان ردود فعل عدة قد أثيرت حول هذا الموضوع أجمع قسم كبير منها على أهمية أن يعود النصب القديم كما هو ودون أي تغيير، سواء في مواد بنائه أو تركيبته أو حتى مكانه، بينما دعا ناقد فني عراقي إلى ضرورة إعادة النظر بالتشكيلة القديمة، كونها مأخوذة من نصب أوروبي تم انجازه قبل إقامة النصب في بغداد قبل عدة عقود.
الناقد التشكيلي د.جواد الزيدي قال لوكالة (أصوات العراق) أن ldquo;هناك لجنة شُكلت من قبل رئاسة مجلس الوزراء وكنت عضوا فيها، ناقشت خلفيات الموضوع وبعد اجتماعات مطولة توصلت أخيرا إلى إعادة نصب الجندي المجهول بهيئته القديمة.rdquo; مبينا انه ldquo;تم الاتصال بالمهندس رفعت الجادرجي وأبدى استعداده، وعلى خلفية ذلك تم استقدامه إلى بغداد للإشراف على النصب المذكور، وإعادة تأهيل ساحة الفردوس وهو المسمى الأساس لها ورفع الأعمدة التي نصبت فيما بعد وإرساء التصميم الأساسي الأولي للساحة وإشغالها من جديد بالنصب دون أدنى زياداتrdquo;.
ورأى الزيدي انهrdquo;ليس من الواجب إضافة ملامح جديدة إليه، لأن ذلك يخل بالعمل الفني ويصبح نصبا مغايرا لما هو معروف ومألوف ترتكن إليه الذاكرة العراقية الجمعية، وهذه هي احد الأسباب الواجبة لإعادة النصب التي راعتها اللجنة ،كونه معروف لدى الجميع في أحضان الوطن من شماله إلى جنوبه ،فضلا عن ذاكرة بغداد المجتمعية التي ترتبط مع هذا النصب بعلاقة حميمة تعود بطقوسها إلى بغداد السلام والهدوء والمحبة والثقافةrdquo;.


من جانبه، قال الناقد التشكيلي صلاح عباس لوكالة (أصوات العراق) أن ldquo;نصب الجندي المجهول الذي صممه الرائد المعماري رفعت الجادرجي مأخوذ عن نصب أوربي تم إنجازه في فترة تسبق فترة إنجازه في العراق.rdquo;


ويستند عباس في معلومته هذه على ما صرح به، بحسب عباس، كل من رئيس جمعية الفنانين التشكيليين الفنان التشكيلي نوري الراوي ورئيس اللجنة الوطنية للفن التشكيلي في العراق الفنان سعد الطائي، منوها الى انه ldquo;باعتبارهما رمزين مهمين في تاريخ الفن التشكيلي في العراق وهم الآن أحياء ولديهم ذاكرة فياضة،بالتالي يمكن الاعتماد على رأيهم.rdquo;
وأردف ldquo;وددت ذكر ماسبق كوني أتمنى أن يعاد نصب الجندي المجهول بعد إعادة النظر بالتشكيلية القديمة، بحيث لايكون النصب الجديد صدى لنُصب أخرى في العالم وأن يكون مبتكرا لايكرر النسخة الأوربية التي أثير حولها الكلام وقتها، وكما عهدناه عن المعماري رفعت الجادرجي بما لديه من استحقاق ثقافي وريادي وابداعي.rdquo;
وتابع ldquo;لذا فإن إعادة نصب الجندي المجهول مبادرة عظيمة ومباركة للثقافة العراقية ولتأريخ العراق المعاصر،لأنها ستمحو أثار ومخلفات الحرب، هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنها ستضفي طابعا جماليا على المنطقة الموجود فيها وهي ساحة الفردوس، وسيكون لتأريخ العراق مشاركة خلاقة من لدن احد أكبر المعماريين في العالم ألا وهو رفعت الجادرجي الذي قدم تصاميم مهمة وكبيرة قبل أكثر من نصف قرنrdquo;.


نصب الجندي المجهول الجديد
ورأى عباس ان ldquo;الإضافة الإبداعية أفضل من الحذف، فمنذ عام 2003 مرت الثقافة العراقية بمرحلة حذف، واليوم تعد أي إضافة خطوة متقدمة يستحقها العراق بل ويستحق أكثر منها، وهنا هذه المبادرة تدفعنا لأن ندعو كل الفنانين العراقيين داخل وخارج العراق أن يساهموا ضمن نطاق هذه الفعاليات لتقديم الأفضل والأجمل للعراق ولبغداد المتعطشة للجمال والحب والسلامrdquo;.
الفنان التشكيلي فهد الصكر ذكر لوكالة (اصوات العراق) ldquo;يحيلني نصب الجندي المجهول إلى تمرد الذات على ماديات الحياة وإسقاطات المخيلة رغم كل ماتحمل من قيم جمالية تصب في تاريخ الإنسان هي صورة المعادل الرائع لهذا الكائن.. فثمة قيم جمالية تركزت في الذاكرة الجمعية لمساحات وتاريخ بغداد المعاصر،لايمكن لها أن تبارح الذاكرة وان امتدت إليها معاول الفاشست ،لكنه سكن في اشتغالات الشاعر وهو يبني موسيقى قصيدته وضمنتها سرديات الروائيrdquo;.


وأوضح الصكر ldquo;أتذكر جيدا إن أحد الفنانين من الدول الاشتراكية حين رسم معالم بغداد، كان قد رسم الجندي المجهول، من خلال ما علق في ذاكرته من صورة له، وإذا كان لشريط الذكريات أن يمتد طويلا، فعند ساحة الجندي المجهول أكثر من ذكرى ستتقد حين ينتصب ثانية ونتمنى أن يكون هو ذاته بكل مايحمل من ملامح.rdquo;
أما الباحث في التراث البغدادي حيدر الحيدر فيتذكر تاريخين مهمين لهذا النصب ويقول لوكالة(أصوات العراق) ldquo;كنت من الشاهدين على يوم افتتاح نصب الجندي المجهول الذي افتتحه الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم وهذا أواخر الخمسينات ، وكنت شاهدا أيضا على هدم النصب من قبل نظام صدام بداية الثمانينات وكان هذا حدثا مؤلما لما يمثله النصب بالنسبة للعراقيين،الذين جرى فيما بعد تحدي إرادتهم بوضع تمثال للرئيس المخلوع مكان النصب المزال، وكانت الغاية هي إقامة نصب أخر يمجد لفترة حكم صدام وأيضا محو أي أثر لفترة عبدالكريم قاسم، كما حصل مع أشياء أخرى ومنها تغيير اسم مدينة الثورة الى مدينة صدامrdquo;.


وأضاف الحيدر ldquo;أتمنى على المعماري الكبير رفعت الجادرجي أن يعيد النصب بكل تفاصيله القديمة، حتى يبقى ماتحمله النفوس العراقية تجاه هذا الأثر البغدادي عبر أروع أيام الحكم الوطني في العراق في زمن الزعيم قاسم وثورته 14 تموز 1958.rdquo;
واردف ldquo;كما إنني أرى ان اعادة النصب الى المكان نفسه(ساحة الفردوس) ملائم جدا،لإننا نريد استعادة شيئا مهما من ذاكرتنا المهدمة والمخربة ،ولا نريد التفكير بأي عائق لايوصلنا الى مسعانا ألا وهو عودة النصب، فأي تغيير في المكان يعني تغيير في مفهوم النصب التأريخيrdquo;.
واعتقد الحيدرrdquo;ان اعادة النصب سيعطي جمالية تأريخية لبغداد شرط ان يعاد كما ذكرنا بنفس التشكيلة والهيئة السابقةrdquo;.
بينما أشارت المعمارية العراقية د.شذى عباس العامري الى الجانب الموقعي للنصب وتقول ان ldquo;على اللجان التي تنفذ العمل أن تهتم بطريق الوصول الى النصب فيما بعد والذي يجب أن يكون سهلا، لإن الساحة وسط زحام مروري وهناك خليط من حركة السيارات والسابلة،وهذا مايتطلب حلا سلسا، والمعمار المنفذ له سيضع الحسابات المرورية لتحديد المداخل.rdquo;
واضافت العامري وهي أستاذة في جامعة بغداد-كلية الهندسة لوكالة(أصوات العراق) ldquo;بالنسبة لإعادة تصميمه ndash;من الخارج-كمعلم ثقافي بارز فإنني أرى ان النصب يجب أن يبقى كما هو لإنه يتمتع بدلالات رمزية عالقة في الأذهان نريد الإحتفاظ بها ،أي كما هو بدون تغيير من ناحية المقياس(طول عرض ارتفاع حجم)،المادة البنائية واللون نفسه، فمثلا عندما تتغير المادة أو المقياس فإن الدلالات الرمزية تتغير ،وسيختلف عندها الشعور أو التفاعل مع النصب وتقبله،ولو بقى نفسه فإنه حتما سيعيدنا الى تلك الفترة وما فيها من احداث وذكريات.rdquo;


وتابعت ldquo;أما من الداخل كمتحف فلابد من ان يعاد تصميمه بما يتناسب ومقتضيات الحال والتغيرات، بحيث يجري التفكير فيما بعد اقامة النصب، بمعنى ان يكون مكانا للوفود والسياح أو مركز ثقافيا لحضور ندوات ومحاضرات، أو حتى سينما بسيطة تعرض أفلام وثائقية ،وليس مجرد متحف لمقنيات الجنود،بل يفتح الباب أمام المشاركات الثقافية والفنية،يحتوي على حاسبة ألكترونية ومكتبة.rdquo;
واكدت ldquo;أعتقد ان المعماري الرائد رفعت الجادرجي هو أدرى بعمارة بغداد بعد ان أغناها بمنجزه وأدرى أيضا بحالها الآن، لذا نحن مطمئنون لأن يكون مشرفا على هذا النصب، فهو واحد من المعماريين العراقيين الذين يعون التداخل مابين التراث والمعاصرة وله باع طويل وكتابات ومقالات كثيرة،الى جانب محمد مكية واحسان فتحي وخالد السلطاني،الذين تعلمنا منهم الكثير.rdquo;
الصحفي العراقي احسان عبد علي قال لوكالة (اصوات العراق) ldquo;بلمسة النصب الأولى نكون قد وثقنا ملامح البيئة والجمال والموقف لحظتها، وهذه وجهة نظري كمتذوق للحجر أو المعدن الذي يُبدعه مخيال النحات تمثالا أو نصبا يشير الى بارزة تاريخية في لحظتهاhellip;لحظة الابداع الذي يتجلى كشاهد على زمن ما، وأكاد اجزم ان اللحظة التي خلقت ndash;كون الابداع خلق-الجندي المجهول في بغداد،لايمكن تكرارها ذلك انها كانت قد وثقت شعورا وإحساسا لفنان كبير مثل الجادرجي، عاصر ذلك الجندي المعلوم الذي كان ينعم بالأمان ونشوة الانتصار في رأسهrdquo;.


واتفق عبد علي مع غيره من الآراء التي تريد الإبقاء على النصب القديم، وقال ldquo;أرى ان (الجندي المجهول) القديم كنصب على وضعه يعطيه بعدا نفسيا وتاريخيا عميقا، حتى لو انه كان قد تصدع في رؤوسنا،فأكثر الرموز(النُصب) التي تشدنا هي تلك التي أثرت وتأثرت بالتقلبات السياسية والاجتماعية وكأنها شاهد صريح على مجتمعات عاصرت حقب حلوة تارة ومرة تارة أخرى.rdquo;
المواطن سلمان الأسدي قال لوكالة (أصوات العراق):أفضل أن يعاد التصميم السابق بلا أي تغيير،فهذا النصب هو احد معالم بغداد القديمة وعملية إعادته تعيد لبغداد تراثها المعاصر الذي فقدناه رغما عنا، وهو دفعة أمل كبيرة تجعلنا نشعر إن الأيام الجميلة يمكن لها أن تعود في بغداد يوما ماrdquo;.


وأضاف الأسدي ldquo;نتمنى أن يتم الاهتمام بالنصب بعد افتتاحه وان يتم تنظيم كل مايخصه من زيارات وما الى ذلك من الأمور التي تجعل المكان ملائما لبغداد وموقعه فيها(ساحة الفردوس)rdquo;.
يذكر أن الجادرجي الذي صمم نصب الجندي المجهول في ستينيات القرن الماضي يعد من رواد الفن المعماري في العراق، ولد في بغداد عام 1926، وحصل على دبلوم في الهندسة المعمارية من مدرسة همرسمث للحرف والفنون البريطانية، بدأ حياته العملية بتأسيس المكتب الإستشاري العراقي في بغداد وعيّن رئيساً لقسم المباني في مديرية الأوقاف العامة العراقية ثم مديراً عاماً في وزارة التخطيط العراقية في أواخر الخمسينات. وكذلك عمل رئيسا لهيئة التخطيط في وزارة الإسكان.
وعمل ايضا في التدريس كأستاذ زائر في مدرسة الثقافة والفلسفة، بجامعة هارفارد 1984 ndash; 1986، ثم أستاذاً زائراً لدى خريجي مدرسة الثقافة، جامعة هارفارد 1987 ndash; 1992، وأستاذاً زائراً في قسم العمارة 1982 ndash; 1992 ثم أستاذاً زائراً في جامعة لندن 1986 ndash; 1992. وفي غضون ذلك، كان محاضراً في فلسفة الفن والعمارة، والأنثروبولجيا وعلم الاجتماع، أما عربياً، فقد حاضر في جامعات: العراق ولبنان والسودان وتونس والبحرين.
ومن أشهر اعماله اضافة الى نصب الجندي المجهول قاعدة نصب الحرية التي تحمل رائعة الفنان العراقي جواد سليم ومبنى وزارة الصناعة ومبنى نقابة العمال والبدالة الرئيسية في السنك والبرلمان العراقي واتحاد الصناعات والمجمع العلمي العراقي.
حصل الجادرجي على جائزة الآغا خان عام 1986، وجائزة الشيخ زايد عن كتابه (في جدلية وسببية العمارة) عام 2008.