ياسمين كروم: عرف سكان الساحل السوري الملاحة البحرية منذ القدم حيث كان السفر عبر البحر مهنة للعديد من أبنائه الذين تعلموا أصولها وورثوها لأبنائهم إلا أنه ورغم المتعة التي يقدمها البحر لملاحيه من خلال إتاحة الفرصة لهم للسفر والتعرف على أرجاء مختلفة من العالم واكتساب خبرات ومهارات جديدة فإن مخاطر هذه المهنة توازي محاسنها رغم التطور الملحوظ الذي دخل في تقنياتها وأعرافها إضافة لوجود أكاديميات باتت تعلم أصول الملاحة البحرية بطريقة علمية حديثة ومتطورة.

ويروي لنا عبد الهادي زهوة وهو ملاح قديم سافر في البحر منذ عام 1930 تفاصيل الرحلات البحرية القديمة التي كانت مختلفة عن رحلات هذه الايام فالبواخر أو البوابير كما اعتاد البحارة القدماء تسميتها كانت مصنوعة من الخشب ويتم تحريكها بواسطة المجاديف والأشرعة الهوائية التي تفرد خارج المياه الإقليمية في البحر المفتوح أي على بعد 50 ميلا عن الشاطىء حيث كانت السفن تسير لمدد يمكن ان تطول أو تقصر حسب الظروف الطبيعية المحيطة كما يمكن أن تمر على الربان والطاقم البحري أوقات لا يستطيعون فيها تحديد مكانهم في عرض البحر بسبب عدم وجود اتصالات مع البر سوى بالإشارات الضوئية.

وقال الملاح زهوة إنه كان يصعب أيضا معرفة الوقت بدقة فالموج يمكن أن يغير اتجاه البوصلة إذا كان عاليا جدا وأحيانا تمر أوقات تضيع فيها السفينة وتنحرف عن مسارها وهنا كان الاعتماد الأول والأخير على الفلك لمعرفة تحديد موقع السفينة من خلال معرفة المجموعات النجمية وطرق انتظامها في السماء وتمييز النجوم الملاحية وهي الألمع غالبا إضافة إلى تحديد أوقات الرصد الصباحية والمسائية والمعروفة بفترات الشفق البحري أي أن الإلمام بطرق الحسابات والجداول الفلكية هو الطريقة الوحيدة لتسيير أمورنا في عرض البحر لكن في حال كانت السماء ملبدة وغير صافية ترتبك الأمور بشكل اكثر لعدم فاعلية الفلك في مثل هذه الظروف.

وأوضح أنه لاتوجد أي إجراءات سلامة متخذة للحفاظ على صحة البحارة فالبحار يعتمد على شكله الخارجي وقوة بدنه لقبوله في الطاقم المسافر وكان هناك خوف كبير من الإصابة بالأمراض لأن الملاحين يرسون في كل أنحاء العالم ويتعرفون على بشر من كل الأعراق والألوان وأي التقاط لمرض أو عدوى يمكن أن يصيب الطاقم بأكمله ويؤدي إلى كارثة حقيقية إضافة إلى رعبهم من خطر الموت غرقا لأن البحر غدار كما يقولون والرحلة يمكن أن تستمر لأكثر من ستة أشهر يكون فيها البحار بعيدا عن أهله ووطنه لكن ما كان يعزيه هو الخبرات التي يتعلمها ووصفه كرمز للشجاعة ومواجهة المخاطر إضافة للمكسب المادي الوفير الذي يعيده البحر عليه فالأجر لم يكن قليلا ولكل مهنة سلبياتها وإيجابياتها.

من جهته أكد المهندس رامي صباغ خريج الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا في اللاذقية اختصاص هندسة بحرية ويسافر على البواخر السورية أن الملاحة البحرية باتت أسهل في أيامنا الحالية وخاصة مع دخول التكنولوجيا الحديثة لهذه المهنة حيث بات من المستحيل أن تضيع السفينة بسبب وجود اتصالات بين السفن أو مع البر بواسطة موجات الراديو والاقمار الصناعية والهاتف ويمكن تحديد مكان السفينة بسهولة عند الغرق عن طريق صندوق أسود صغير يتعامل مع الاقمار الصناعية عبر إشارات معينة دون حدوث أي لبس أو لغط.

وأشار إلى أن البواخر السورية سواء المخصصة لنقل البضائع أو الركاب أصبحت مصنوعة من الحديد الصلب وتعمل بواسطة محركات الديزل وهي تقنية مقبولة وتؤمن السرعة للسفينة رغم وجود تقنيات أحدث في العالم كالعنفات البخارية العائدة بقوة إلى عالم السفن لكفاءتها الملحوظة إضافة لحركة التحول إلى الطاقة النووية السلمية في تسيير البواخر ونلاحظ في البواخر السورية حركة العودة لاستخدام الأشرعة في تسييرها كشكل من أشكال توفير الطاقة.

وقال صباغ هناك توجيهات حكومية لكل طاقم بعدم إحداث تلوث في البيئة البحرية فكما هو معروف أن السفن تستخدم وقودا ثقيلا لتسييرها وهذا أمر ضار لكن التعليمات تكون بعدم رمي الأوساخ المحظور دوليا في البحر المتوسط إضافة لتوجيهات بتجميع نفايات السفينة ضمن صناديق تصرف على المرفأ في شاحنات مأجورة ما يخفف بأكبر قدر ممكن من احتمال التلوث.

ولفت إلى أهمية التطور الحاصل في القوانين الناظمة للملاحة في سورية وخاصة مع القدرة حاليا على الاكتفاء برفع العلم السوري وحده على ظهر السفينة بعد أن كان من الضروري رفع علم أجنبي على السارية للتعريف بهوية السفينة الداخلة إلى الميناء وهذا يشكل بحد ذاته خطوة جيدة للاعتراف بالأسطول السوري على المستوى العالمي.

وبخصوص الإجراءات المتخذة لضمان السلامة فإنه يتم تحضير الباخرة للسفر بتجهيز أوراقها بالتعاون ما بين القبطان والوكيل الملاحي والمرفأ الذي ستنطلق منه السفينة إضافة إلى إجراءات فحص الدفة وغرف القيادة والاتصالات والتأكد من جاهزية الأدوات الاحتياطية وتكون إجراءات السلامة أعلى إذا كانت السفينة مخصصة للركاب والطاقم البحري.

وأشار الكابتن صباغ إلى إيجابيات الملاحة البحرية الحديثة المتمثلة بالرواتب العالية قياسا مع مهن البر إلا أن المخاطر تبقى كبيرة رغم كل التقنيات الحديثة لأن الملاح يتعامل مع البحر المزاجي الطبع والذي يمكن أن يكون يوما معك ويوما ضدك بعواصفه ومفاجآته الكثيرة إضافة للأمراض التي يمكن أن تصيب البحار عند السفر بسبب الأمواج المغناطيسية التي تعكسها السفينة لأنها مصنوعة من الصلب وتؤثر على المخ مستقبلاً ومن هنا على البحار ألا يسافر لفترة تفوق الستة أشهر خوفاً على سلامته البدنية.

يشار إلى أنه في عام 2006 ووفقا للقانون رقم 20 تم احداث غرفة الملاحة البحرية التي قامت بعد إصدارها لنظامها الداخلي بالاجتماع مع مالكي السفن في القطاعين العام والخاص للاطلاع على رأيهم وملاحظاتهم ووعدتهم أن يكون نظامها مثاليا قدر الأمكان ومرضيا لكل الأطراف.

وقال عبد القادر صبرة رئيس غرفة الملاحة البحرية إن الغرفة تعمل بشكل دائم على استصدار القوانين والأنظمة التي تزيد من فاعلية الأسطول السوري وتحفظ سلامة طاقمه باعتباره قطاعاً حيوياً وفاعلاً في الاقتصاد السوري والتي كان آخرها إصدار القانون 27 الذي ينظم عملية تشطيب وبناء السفن في سورية موضحا أن ذلك سيحدث قفزة نوعية في زيادة فاعلية الأسطول السوري للنقل البحري لأنه سيقدم الكثير من الخدمات ومنها أن السفن السورية لم تعد مضطرة لرفع علم آخر عليها وإنما الآن وبموجب هذا القانون تستطيع أن تجوب العالم رافعة العلم السوري.

وأضاف صبرة وبخصوص السلامة باتت هناك إجراءات مشددة للداخلين والخارجين على المرافىء السورية سواء من السفن المحلية او الأجنبية وخاصة مع موجة الأوبئة الدارجة في العالم والتي يعتبر أي إهمال في المراقبة سببا لحصول كوارث نحن في غنى عنها.

وكانت سورية أعادت إطلاق سفينة فينيقيا من جزيرة أرواد في العاشر من شهر آب الماضي في رحلة تستمر عاماً حول إفريقيا وبنفس وسائل الملاحة التي عرفها الفينيقيون سابقاً بهدف إحياء الحضارة الفينيقية وتوجيه رسالة سلام إلى العالم كما أنها ستقوم برحلة أخرى هذا الصيف لتعرض في المتحف البريطاني.

وتعد فينيقيا من أقدم سفن العالم والتي يعتبر إطلاقها من جديد رمزاً حقيقياً لكون سورية بحضارتها الفينيقية من البلدان القديمة التي عرفت البحر وسبرت أغواره.