بيروت: قد أتفهم صمت الصحافة في لبنان إزاء الحقائق التي تكشفت دفعة واحدة فتركتنا جميعًا مشدوهين في حالة صدمة ... بإستثناء مقالات معدودة في بعض المجلات وأحاديث إذاعية هنا وهناك، الكل ساكتون كأن على رؤوسهم الطير! أعترف هنا أني قد ترددت كثيرًا قبل الخوض في الموضوع، مزقت صفحات كثيرة و كدت أتخذ قرارًا بالسكوت مع الساكتين، فما عساي أقول و فيروز قد إحتلت في ضمائرنا منزلة القديسين؟
أأهاجم منصور الرحباني وهو حواريها العتيد أم ألوم أبناءه ... هل تحتاج فيروز أصلاً الى دفاعي عنها؟ كلا، بالتأكيد، ولذلك فإني سأحاول تناول الموضوع بعيدًا من العاطفة، سأناقش المبدأ وأتحدث بلغة العقل، أو على الأقل، سأحاول ...
quot;فيروز خالتي وست الكلquot; ... أسترجعت كلمات سائق التاكسي الذي أقلني الى لقاء فيروز في عمان، تذكرته وتذكرت شعب فيروز من البسطاء، كثرة منهم ما كانت تملك شراء تذاكر العرض، غير أن غناء فيروز في مدينتهم كان يعني أن الدنيا لا تزال بألف خير ... تذكرت مشهد الحافلات التي أقلت الاف الفلسطينيين بعد أن أمضوا الساعات الطوال على المعابر ليشاهدوا السيدة على المسرح في غفلة من واقع البؤس الذي كانوا و لا زالوا يعيشون.
طفلة الأعوام التسع التي جلست خلفي لم تنبس بكلمة منذ أن أنحسرت الستارة عن فيروز وهي تحمل مظلتها، وحتى جن الحضور تصفيقا و صراخا في ختام العرض وهي تشدو لهم quot;رميت السعادة للناس ... زهرت بأيديquot; صدقا أقول: quot;صح النومquot; التي ألفها و لحنها الأخوين قبل قرابة العقود الثلاث لم تكن غايتنا أبدًا، كنا سنذهب لملاقاة السيدة حتى لو أطلت علينا صامتة بلا غناء ... الآلاف ليلتها، و أنا أحدهم، جاءوا فقط ليعيشوا أسطورة اللقاء مع فيروز.
طالما تساءلت مع نفسي ماذا تراه يكون سر فيروز؟ حاولت مرارًا أن أفك شفرة محبتنا لها ... هل سحر فيروز في صوتها أم في روعة أغانيها؟ لا شك أن صوت فيروز أستثنائي، صوت قوي في همسه لا في صراخه، و لذلك فهو لا يشيخ كما تشيخ و تضعف باقي الأصوات، ولكنه يزداد عمقًا مع الزمن، ظهر ذلك جليًّا في تراتيل الفصح الأخيرة التي أهدتها فيروز الى محطات التلفزة في لبنان، الكل أجمع على أن صوت السيدة جاء غامرًا و مؤثرًا على نحو فريد ... ولكن فيروز ليست الصوت فقط.
كلمات وألحان الأخوين من جهة أخرى كانت عبقرية و قد أعطت فيروز جزءًا كبيرًا من مجدها، لا أحد يستطيع أن ينكر ذلك... غير أن الكلمات والألحان والرؤية الفنية عجزت عن الأتيان بفيروز أخرى، فيروز بديلة! كل المحاولات اللاحقة لأستنساخ السيدة وتجاوزها باءت بالفشل، على الرغم من قوة الأصوات وكثرة الأوكتافات وبذخ العروض ...
سر فيروز وسحرها برأيي يكمن في صدقها مع نفسها أولاً، وفي تصديقنا لها ثانياً، هو أمر تراكمي وليس وليد اللحظة، جربناها كثيرًا وجربتنا فلم تخذلنا ولم نخذلها... نحب في فيروز أنها بوجه واحد في زمن منافق.
في غنائها وفي صمتها، في صلاتها وفي نظراتها الغائبة على خشبة المسرح، في مواقفها من الساسة والحروب وفي ترفعها عن الصغائر، في عشقها للبنان و تمسكها بالعيش فيه على الرغم من كثرة المغريات ومرارة الواقع ... ليست لفيروز حياة سرية، هي نسيج وحدها.
سؤال يطرح نفسه هذه الأيام ... فيروز والأخوان رحباني، أيهما مدين للاخر، أيهما صنع هالة الاخر و أسطورته؟ سؤال صعب بالتأكيد ... لقاء السيدة بالأخوين كان قدرًا غيّر مسار الثلاثة وأسفر عن أرشيفهم الثري. فيروز، من ناحيتها، أعطت الحياة لكلمات الأخوين وألحانهم، كانت قيثارتهم الطيعة التي عزفوا على أوتارها موسيقاهم الفريدة ... كان متوقعًا لذلك أن ينطفئ وهج فيروز بعد أنفصالها عن الأخوين بعد أكثر من ثلاثة عقود، كان متوقعًا كذلك أن يمضي الأخوان ليصنعوا تأريخا اخر مع صوت اخر، لكن لا هذا حدث و لا ذاك!
أصوات عديدة مرت من تحت أصابعهم ... كلها جميلة، كلها قوية، لكن أيا منها لم يتجاوز فيروز، شي ما كان دائما مفتقداً، لعله عشق عاصي لملهمته الأولى ... الناس ظلت تصدق الأخوين أكثر مع فيروز، وبعد مرض ووفاة عاصي، الأخ الأكبر وعراب التجربة، مضى منصور الرحباني و أبناؤه في أنتاج مسرحيات أضخم ... تغيرت معالم المسرح الرحباني على أيديهم، غادرته البساطة العذبة، أجتاحته الشعارات و الأصوات العالية، مؤثرات و ألوان و أبهار و رقصات على مستوى عال من الأتقان، التطور كان حتميًا بلا شك، لكن فيروز كانت دائمًا هناك ... حاضرة غائبة.
على الجانب الاخر، السيدة لم تتنكر لتأريخها، دائما كانت تذكر رفاق الدرب، في كل تكريم و في كل حفل هناك أعمال الأخوين، في أحاديثها النادرة للأعلام تدين لمعلمها عاصي الرحباني بالفضل الأول، كما أن أحياءها تراث الأخوين بتوزيعات زياد الرحباني المميزة جعل الشباب يعيدون أكتشافها من جديد ... فيروز كانت أوفر حظًا من الأخوين بلا شك، ولعل ذلك يعود الى أنها أكملت من حيث أنقطع الخيط و لم تكن مهمومة بالتحدي و أثبات الذات، أختارت بشجاعة مذهلة أن تسلك طريقا كان يعد بكل المقاييس مخاطرة كبيرة، الجاز الشرقي كان رهانا خاسرا بنظر الكثيرين،بالذات لأسم بحجم فيروز، و لكنها و بجرأة تحسب لها مضت فيه، تحملت في البداية ثورة جمهورها العتيد، لكن الخطوة لم تلبث أن تأتي بثمارها، صار لفيروز جمهور جديد من الشباب، سعدت شخصيًا بلقاء بعضا منهم و ذهلت لمدى عشقهم للسيدة و ولائهم لها، هم يحفظون أغانيها و سطور مسرحياتها التي أدتها قبل أن يولدوا حتى عن ظهر قلب، مجموعات محبي فيروز على الفايس بوك مثلا، تفوق بعدد أعضائها كل المجموعات الموسيقية الأخرى ... أقول هذا، و قد صار حتما على الأخوة غدي و أسامة و مروان الرحباني مواجهة غضب الفيروزيين العارم عليهم بعد كل ما نشر على صفحات جريدة الحياة أخيرًا عن ملفات حربهم السرية ضد السيدة.
الراحل منصور الرحباني، كما يبدو، كان قد راهن على صمت فيروز حتى النهاية ... لم يكن واردًا في حساباته أن تتحدث السيدة بعد صمت السنين عن ما تعرضت و تتعرض له من ضغوطات، المواجهة العلنية لم تكن متوقعة، خصوصًا أن قرارًا قد إتخذ على ما يبدو بأن يستثمر الجيل الثاني و الثالث من الرحابنة في المسرح الغنائي ضمن الأطار ذاته الذي رسمه الأخوان قبل أكثر من نصف قرن من الان ... كان منصور يهدي دواوينه لفيروز في ذات الوقت الذي كان يسعى فيه لحرمانها من حق تأدية أغانيها على المسرح، كان يظهر على شاشات التلفزة مدافعًا عن حقها في الغناء في دمشق بعد أن سعى لأفشال تلك الزيارة بكل الوسائل المتاحة ... منصور الرحباني كان ذكيًا بلا شك في محاولته تجنب إثارة الرأي العام المنحاز تاريخيًا لفيروز، غير أن ظهور الوثائق للعلن قلب الطاولة رأسًا على عقب!
كان الأحرى بالرحابنة وقد قرّروا التعاطي مع الشأن الفني والأستثمار فيه أن يساندوا فيروز عوضًا عن وضع العصي في دواليب عربتها المندفعة أمامها بسرعة مذهلة، فكل نجاح لفيروز هو في حقيقته ترسيخ لمدرسة الأخوين و أسمهم، و لكنهم للأسف أختاروا الربح الآني وأغفلوا عن حساب عواقب المغامرة، وهي عواقب وخيمة قد تهوي بتجربتهم الفتية وتجهز عليها تمامًا... أيستكثرون على ملايين البسطاء أن تهديهم فيروز باقة جديدة من أغانيها تعينهم على واقعهم المرير؟ أيريدون أن يحرموا شعبها نشوة لقائها على المسرح؟ أحقًا يظنون أنهم يستطيعون؟ لو خسر الرحابنة الجدد جمهور السيدة فأي جمهور يتبقى لهم؟
علي شاكر
مهندس معماري و فنان تشكيلي
التعليقات