في الجزء الثاني من حواره مع quot;إيلافquot;، يدافع محمود ياسين عن ابتعاده هو وأبناء جيله عن السينما، قائلاً إنها فن شاب وتعنى بمشاكلهموأفكارهم، وتقوم على أكتافهم. ويتهم ياسين الدولة المصرية بالتخلي عن صناعة السينما بحجة أنها صناعة غير استيراتيجية، مؤكدًا أنها أهم من صناعتي السلاح والبترول. ويلفت إلى أن ظهوره مع النجوم الشباب في أفلامهم، يأتي انطلاقًا من إيمانه بضرورة تدعيم الأجيال الجديدة، وإفساح المجال لها لتحصل على فرصتها كاملة.

ـ العديد من النجوم العالميين أمثال هاريسون فورد، ميل جبسون، روبرت دي نيرو، مايكل دوغلاس وميريل ستريب ما زالوا يتربّعون على عرش السينما في أميركا على الرغم من تقدمهم بالسن، بعكس النجوم المصريين والعرب، الذين أحالتهم السينما العربية على المعاش ما السبب برأيك؟
هناك حقيقة لا يمكن انكارها، ألا وهي أن السينما فن شاب، وصناعة تحتاج إلى الشباب، ولا تمشي وتنمو وتتطور إلا في ركاب الشباب، وبأفكار تناسبهم وتطرح مشاكلهم وقضاياهم. وأتحدى من يقول غير ذلك، والسينما منذ نشأتها في العالم أجمع تعتمد على الشباب، وليس في مصر أو العالم العربى فقط، هذا من ناحية السينما كصناعة، أما من ناحية السينما كسلعة أو منتج، فمن يقبل عليها هم الشباب أيضًا، ومن النادر أن نرى رجالاً أو نساء فى مرحلة عمرية غير الشباب يدخلون دور العرض. إلا إذا كانت سيدة أو رجلاً عجوزًا وعادة ما يكون برفقة أحفاده. وليس معنى أن فنانًا مثل أنطوني كوين قدم أفلامًا، وهو في سن الشيخوخة فإن تلك هي القاعدة الأساسية، فقد قدم فيلم quot;الرسالةquot; عندما كان عمره حوالى 67 سنة، وبعد 10 سنوات قدم فيلم quot;عمر المختارquot;، أي أنه لم يقدم فيلمًا كل عام مثلاً، بل قدم فيلمين خلال عشر سنوات. الشباب هم القادرون على تقديم فيلم واثنين وثلاثة سنويًا.
ومن الممكن أن يقدم الفنان غير الشاب فيلمًا كل أعوام متعددة، أو أن يقدم فيلمًا يتناول حياة شخصية تاريخية في مرحلة متأخرة من عمره مثلاً، كما قدم انطوني كوين فيلم quot;عمر المختارquot;، فمثلاً لو انتج فيلمًا عن طلعت حرب، فبالتأكيد الشخصية تحتاج إلى ممثل ذي خبرات خاصة، ويقاربه فى المرحلة العمرية التى أنجز فيها كل مشروعاته الوطنية.
ـ لكن هل معنى ذلك أن يؤدي الفنانون الكبار أدوراً ثانوية بجوار النجوم الشباب؟ ولا تتصدر صورهم الأفيشات؟
هذا زمان الشباب، هؤلاء لابد أن يحصلوا على فرصهم كاملة، ومن الخطأ محاولة البعض احتكار الفن، السينما خلقت للشباب كصناعة وابداع، ومن واجب الأجيال القديمة مثل جيلي أن يدعموا هؤلاء الشباب بقوة، كما وقف الفنانون الكبار والعظماء إلى جوارنا عندما كنا شبابًا، وأعتبر أن ظهور أي فنان كبير على أفيش فيلم ما إلى جوار نجم من النجوم الشباب ليس تقليلاً من شأنه، وفي هذا الصدد سأذكر مثالاً حدث معي أنا شخصيًا، حيث كنت أصور فيلم quot;أين عقليquot; وهو واحد من أفلامي الهامة، وحين انسبه لنفسي، فهذا عن عفو الخاطر، لأني مجرد فرد فيه، فالقصة لإحسان عبد القدوس، وكاتب السيناريو رأفت الميهي، وهو واحد من أنبغ وأبرع من كتبوا السيناريو في العالم وليس في مصر فقط، وكانت سعاد حسني البطلة، إضافة إلى رشدي أباظة، وكان في ذلك الوقت فنانًا كبيرًا وله اسم لامع، وكان التصوير في استديو الأهرام، واتذكر جيداً أني ذات يوم من أيام التصوير حضرت وبينما كنت quot;أركنquot; سيارتي، وبالمصادفة كان ذلك إلى جوار غرفة المكياج، سمعت الحوار التالي بين رشدي والمخرج الذي كان يحاول إقناعه بأن يضع اسمه وصورته على أفيش الفيلم قبل اسمي أنا وسعاد حسني، باعتباره الأكبر والأشهر، وإذ بهذا الفنان العظيم يرد عليه فى غضب quot; الإفيش يكتب عليه الأسماء بالشكل التالي، سعاد حسني، ثم محمود ياسين، و في نهاية الترتيب يأتي من تسمونه فنان كبير وجامد جدًا اللي اسمه رشدي أباظة، والكلام ده مش هيزعلنيquot;، وعندما سمعت هذا الحوار دخلت سريعًا، وقلت له: ما هذا الكلام الذي تقوله يا أستاذ رشدي؟، فرد سريعًا: إخرس أنت. فقلت: لن أخرس، من الأصول أن يوضع أسمك على الأفيش أولاً، ولكن بما أنك اخترت سعاد حسني لتكون في المقدمة، فلك ذلك، ولكن يتم وضع اسمك بعدها مباشرة أما أنا فيتم وضع إسمي في أي مكان.
ولم يستطع أحد أن يجبره على تغيير رأيه. هذه هي القيم التي تربينا عليها، هؤلاء الفنانون الكبار أمثال رشدي أباظة، محمود المليجي، عماد حمدي، دعمونا عندما كنا شبابًا، وأفسحوا لنا الطريق، وساندونا، ومن الواجب علينا أن نساند الشباب الحاليين، وهذه هي سنة الحياة، وكما قلت السينما فن شاب.
ـ في الماضي كان الفيلم الواحد يجمع بين أكثر من نجم أو فنان كبير معًا، لكن ذلك غير موجود حاليًّا، بعد أن انتشرت ظاهرة النجم الأوحد؟
هذه الظاهرة موجودة منذ زمن طويل، فأنا كنت أظهر كبطل وحدي في جميع أفلامي، وكذلك نور الشريف، حسين فهمي، فاروق الفيشاوي، محمود عبد العزيز، و أفلام قليلة جدًا التي كان يشترك فيها أكثر من نجم مثل quot;الإخوة كرامازوفquot; أو quot;الأخوة الأعداءquot;، الذي اشترك فيه نور الشريف، وحسين فهمي، يحيى شاهين، ميرفت أمين، نادية لطفي، وquot;العارquot; بطولة نور الشريف، محمود عبد العزيز، و حسين فهمي، وهذه الأفلام حالات خاصة، لا يمكن اعتبارها قاعدة عامة، ولا يمكن لهؤلاء الفنانين الكبار أن يحتلوا الساحة الفنية طول العمر، لا يمكن أن يصادروا على حركة الشباب، ويحرموا الأجيال الجديدة من الحصول على حقها فى العمل والتعبير عن مشاكلها وقضاياها، والفترة الحالية تزخر بمجموعة من النجوم الشباب اللامعين والموهوبين، إضافة إلى أنهم خريجو أكاديمية الفنون، مثل كريم عبد العزيز، أحمد السقا، أحمد عز، وهؤلاء قدموا مواضيع رائعة، وهذا ينفي القول بإن سينما الشباب لا تقدم سوى أفلام تافهة، وعلى الرغم من ذلك، فالسينما كانت وستظل تقدم أفلاماً رديئة، وفي الوقت نفسه، تقدم أفلامًا تتضمن ابداعًا حقيقيًا، يثير اعجاب الجمهور والنقاد، و تشارك في مهرجانات وتحصل على جوائز، فمثلاً عندما قدمت فيلم quot;على من نطلق الرصاصquot;، الذي كتبه رأفت الميهي، وكان في زهرة شبابه، وأخرجه كمال الشيخ، كان فيلمًا شديد الرقي، أشاد به الجمهور والنقاد، وحاز على العديد من الجوائز المهمة، وكان هو الفيلم الوحيد الجيد وسط مجموعة من الأفلام غير الجيدة التي انتجت في العام نفسه.
ـ وأين أنت من السينما، ولماذا ابتعدت عنها منذ نحو 20 عامًا مضت؟
لم اتوقف عن المشاركة في السينما إلا عندما توقفت كصناعة، ورفعت الدولة يدها عنها في العام 1989، حيث رفعت الدولة شعار الإقتصاد الحر، و بعد أن كانت ثورة يوليو تتبنى هذه الصناعة، قالت الدولة إنها لن تدعم أو تدير أو تشرف على أية صناعة بإستثناء الصناعات الإستيراتجية، وتخلت عن السينما بإعتبارها صناعة غير استيراتجية من وجهة نظرهم، وتساءلنا: ما هي الصناعات الإستيراتيجية؟ قالوا إنها صناعة السلاح والبترول!، وهل يستطيع أي مثقف أن يقبل القول بإن السينما صناعة غير استيراتيجية؟! بالطبع: لا، لأن السينما من أخطر الصناعات الإستيراتيجية، هي أهم من صناعة السلاح أو البترول، وكان الرئيس جمال عبد الناصر يؤمن بهذا المبدأ، ولذلك جعل أهم وأعرق وأكبر شركتين مختصتين بصناعة السينما تحت إدارة الدولة، وهما شركة مصر للاستديوهات والمعامل، وشركة مصر لدور العرض والتوزيع الخارجي، وبدونهما لا تقوم الصناعة، والدليل أنه في عهد هاتين الشركتين عندما كنت أنا ومحمود عبد العزيز، حسن فهمي، نور الشريف، عزت العلايلي نجوم الشباب، كان حجم الإنتاج يتراوح ما بين 70 و120 فيلمًا سنويًا، خلال الفترة من بداية ثورة يوليو و حتى العام 1987.
ـ وما الذي حدث وأدى إلى تراجع الصناعة، وعزوفك عن المشاركة فيها؟
في هذا العام بدأ الحديث عن الإقتصاد الحر، والتخلي عن النظام الإشتراكي، وفي شهر يوليو من العام 1991 صدر القانون رقم 203، الذي تحولت مصر بموجبه من دولة تتبنى الإقتصاد الاشتراكي إلى دولة تبنى الإقتصاد الحر، وكان ذلك في عهد الراحل الدكتور عاطف صدقي رئيس الحكومة، وتم إنشاء وزارة قطاع الأعمال التي تولاها الدكتور عاطف عبيد، و أخذ يعرض الشركات العامة للبيع واحدة تلو الأخرى، وتم عرض هاتين الشركتين للبيع، ولكن لم يجدوا من يشتريهما، وكان القائمين على عملية البيع يعتقدون أنهم سوف يحصولون على عمولات ضخمة من بيعهما، لكنهم فوجئوا بأن السينمائيين أشد لؤمًا منهم، خصوصًا من يعملون في التوزيع الخارجي، لأنهم تجار فى الأساس، ويعلمون أن الشركتين ليس لهما قيمة سوقية عالية، لأن المعدات الموجودة بهما قديمة ومستهلكة، لكنهم يعلمون جيدًا أن لهما قيمة تاريخية لا تقدر بمال، ولذلك لم يتقدم أحد لشرائهما، فعرضتهما الحكومة للتأجير، فلم يتقدم أحد أيضًا. وتوقفت الصناعة، حيث لم يتم انتاج سوى 40 فيلمًا في ذلك العام، وانخفض العدد إلى 20 في 1994، ثم 15 في 1996، ولم يتم انتاج أية أفلام في العام 1999، وهذه كارثة خطرة، مصر ذات التاريخ العريق في مجال السينما، لم تقدم فيلمًا واحدًا في أحد الأعوام! المهم بقيت الشركتان quot;زي البيت الوقفquot; كما يقول المثل الشعبي.
ـ و كيف تم التعامل مع هاتين الشركتين بعد الفشل في بيعهما أو تأجيرهما؟
عندما انشئت مدينة الإنتاج الإعلامي ذلك الصرح الفني الضخم، يبدو أن الحكومة نسيت إنشاء معامل بها، فطلب صفوت الشريف وزير الإعلام آنذاك الحصول على معمل إستديو الأهرام، ومعمل إستديو مصر، وهذه المعامل تضم تاريخ السينما المصرية منذ أن أنشأها طلعت باشا حرب، فضلاً على أستديو الأهرام، وأستديو النحاس، بلاتوه من استديو مصر، بنظام الإيجار، وتم ضم هذه المعامل والاستديوهات إلى مدينة الانتاج الإعلامي، ومن هنا بدأت عجلة الإنتاج تدور من جديد ففي العام 2000 تم انتاج فيلم واحد، وظل العدد يزيد أن إلى بلغ 48 فيلمًا في العام 2008. المشكلة ليست في محمود ياسين أو أبناء جيله، فقد شبعوا من السينما، الأزمة الحقيقة أن جيلاً كاملاً من الفنانين نشأ من دون سينما، وهو جيل شريف منير، ولذلك فهو ينافس حاليًا في السينما نجومًا ليسوا من جيله مثل أحمد السقا، وكريم عبد العزيز، وما جعله يستمر حتى الآن أنه كان عازف درامز رائع، وكان يقيم حفلات ناجحة، وبذلك استطاع توفير نفقاته الخاصة، والاستمرار بالتمثيل، هذا الجيل أهدر حقه في العمل بالسينما.
يتبع