لا مفر من الاعتراف بأن التغيير في السودان مختلف، نهجًا ومضمونًا، عن أي تغيير حصل في البلدان العربية التي شهدت ثورات وانتفاضات وتغييرات. فؤاد مطر يرصد المشهد السوداني بكتاب جديد يتمّ به ثلاثيته السودانية.

إيلاف: حفَّزت الإنتفاضة السودانية في صيغتها المبتكرة، حيث بدأت شعبية، واكتملت بوقفة عسكرية إلى جانب الطيف المدني المنتفض، حفّزت الكاتب والصحافي فؤاد مطر لتأليف كتاب عنها يكمل به ثلاثيته السودانية التي تحمل تسمية "حلو مر السودان.

تاريخ ما لن يهمله التاريخ عن العسكر والأحزاب"، بكتاب ثالث جديد عنوانه "الحاكم إذا إستبد.. والشعب إذا إنتفض - مشهدية السودان الخائر.. الثائر.. الحائر"، بعد كتابيه "المصالحة الوطنية في السودان إنتكسوها أم إنتكست" بتقديم من الصحافي السوداني الراحل محمد الحسن أحمد، و"سنوات نميري.. بحلوها ومرها" بتقديم من الكاتب السياسي الراحل ربيع حسنين.

22 مشهدًا سودانيًا
يتسم كتاب "الحاكم إذا إستبد.. والشعب إذا إنتفض" (462 صفحة، الدار العربية للعلوم ناشرون) بالتحليل الموضوعي للإنتفاضة السودانية وإرفاق التحليل بالمعلومة المؤجَّل نشرها، والمتوافرة في إضبارات أرشيفه الشخصي، وكذلك بالوثيقة التي تدعم التطورات.

توزعت صفحات الكتاب على 22 مشهدًا، والمشهد هنا بمعنى الفصل. كما إن الوثائق والصور بين حديثها وقديمها تتوزع على صفحات داخل هذه المشاهد. وهكذا، نرى السودان تحت المجهر من زمن المجلس العسكري وقائده الجنرال إبراهيم عبود، أي زمن "السودان الخائر" على نحو توصيف مطر. وبعده نرى المرحلة التالية "السودان الثائر" وصولًا إلى المرحلة الراهنة، مرحلة "السودان الحائر".

توضح حالة الحيرة عبارة "من الجهاد الميداني.. إلى الإجتهاد البرهاني"، أي اللقاء الصادم الذي تم في أوغندا بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو نتيجة حض من جانب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب على إتمام هذا اللقاء تمهيدًا، أو شرطًا، لرفع العقوبات الدولية عن السودان، وهو أمر ما عطَّلت الفوضى الناشئة عن "كورونا" تنفيذ الوعد أو التعهد فحسب، إنما حتى تلبية البرهان الدعوة إلى زيارة واشنطن والتحادث مع ترمب.

تميز انتفاضة السودان
يركز مطر في كتابه على تميز الانتفاضة السودانية دون سائر الانتفاضات العربية بالقول: "إنها أدخلت صيغة الإنقلاب الثنائي أو ثنائية الإنقلابات على حتمية التغيير. ولقد رأينا كيف أن التغيير من جانب الطيف المدني على درجة من الإستحالة ومن أجل ذلك لم يُكتب لكل من الجزائر وتونس ولبنان الفوز، وإن كان الصوت الإحتجاجي سُمع في أكثرية دول العالم، التي إما تعيش في ظل مناخ الحريات، وإما إنها تواقة إلى نسائم الديمقراطية تُخفف بعض الشيء من هجير السُلطة وسلاطينها".

يضيف: "أثمرت الإنتفاضة السودانية بعدما اقتربت أيادي بعض عساكر السودان من أيادي رموز الطيف المدني، وبدا هذا الإقتراب مثل تلاقي النيل الأبيض مع النيل الأزرق متحابين إلى آخر الزمن. في البداية كان الحذر سيد الموقف، ثم اقتنع هذا الطيف بمَن ينتسب إليه من أساتذة جامعات وطلاب وتجار وأطباء ومهندسين وكُتَّاب وصحافيين وصناعيين أنه باليد الواحدة لن يستطيع التصفيق، فنزل من عليائه الرافض إلى رحاب الموضوعية مرحبًا في البداية. وبعد قبول بمبدأ المحاصصة، ارتضى صيغة الكفتين المتوازيتين من ميزان الطبعة الجديدة للنظام في السودان. وهكذا، سطعت نجوم جنرالات مثقلة صدورهم بالأوسمة في فضاء الميادين المنتفضة، وتشكلت الصيغة الجديدة لمشروع التغيير. وهي صيغة لم تتحقق للانتفاضة في كل من مصر والجزائر ولبنان والعراق وتونس، وذلك لأن المؤسسة العسكرية، وكل منها لدواعي، إما الخشية من إنقسام الجيش جيوشًا كما حدث في السبعينات في لبنان، وإما لأن المؤسسة العسكرية إن هي نزلت طرفًا في الحَراك الشعبي فهذا تفسيره أنها تعاكس مبادئ المؤسسة القائمة على أن دورها حماية الوطن من العدو الخارجي، وليس الدخول طرفًا في حَراك سياسي وشعبي".

وضعت حدًا
ينتهي مطر إلى القول: "إن الحصافة لدى ثنائي الإنتفاضة ضد نظام البشير وعلى نحو ما ظهرت في مواقف جنرالات المجلس العسكري الإنتقالي وقوى الحرية والتغيير ليست فقط أسقطت نظامًا كان في صدد الجنوح نحو البقاء الطويل وإنتقال السُلطة في الطيف الواحد من قُطب إنقاذي إلى آخر، إنما وضعت قاعدة تغيير تحتاجها معظم دول العالم الثالث وتقي هذه الدول من مغامرات الإنقلابيين العسكريين، وهي الثنائية بمعنى المشاركة وليس بمعنى الإقتسام".

يتابع: "بهذه القاعدة لن يعود متيسرًا على أي مغامرين انقلابيين عسكريين إستلام السُلطة بمجرد تحريك دبابات تحاصر مبنى الإذاعة والتلفزيون ومقر البرلمان، ثم تبث بلاغًا أوليًا ثم سلسة بلاغات يغلُب على مفرداتها التنكيل المعنوي والشخصي بمَن كانوا في سدة السُلطة وإيداعهم السجن في الحد الإنتقامي، أو الإقامة الجبرية في فيلات مرفهة كتلك الأقفاص المذهبة التي يضع فيها بعض أباطرة الحُكم طيورهم وحيواناتهم النادرة، فيما هنالك جحافل من البشر إما تعمل لكن بالكاد يسمن العائد من جوع وإما بطالة وحالة عَوَز تودي في بعض الأحايين بأصحابها إلى تفضيل الإنتحار على العيش المُذل"

لم تذهب سدى
في التقديم للكتاب، يكتب الدبلوماسي السوداني جمال محمد إبراهيم الآتي: "في تقديري أن تجاربنا في مواجهة الطغيان وفي مكافحة تمكين الحُكم الديمقراطي مع ما فيها من آلام وإضطرابات لم تذهب سدى بل أورثتنا دروسًا غالية في إدارة التنوع تناولتُها في كتابي ’الهوية السودانية بين التسبيك والتفكيك‘ وأورثتنا دروسًا في ضرورة أقلمة النظام الديمقراطي ثقافيًا وإجتماعيًا".

يضيف: "الفترة الإنتقالية الحالية أشبه ما تكون بحقل تجارب تنشط جبهتان إسلاموية منكفئة وعلمانوية مستلبة لتخطف المصير الوطني وتحوم رؤى غالبًا وافدة لثورة مضادة أشبه بتلك التي أجهضت كثيرًا من ثورات الربيع العربي. التركيبة العسكرية السودانية بعيدة من هذا الدور ومن دون خوض في التفاصيل فهي غير مستعدة لمثل هذا الدور. والمعمعة السياسية السودانية في تقديري سوف تسفر عن تغلُّب نهج سياسي يكفل الحريات وحقوق الإنسان والمشاركة في الحُكم والعدل الإجتماعي ويلبي مطالب السلام العادل الشامل والتوازن في العلاقات الخارجية بلا محورية. هذا النهج ليس هلاميًا، بل مسلح بفكر واضح، وليس فوقيًا، بل مجدَّر بسند شعبي عتيق ومسنود بقوى شبابية ونسائية جديدة. هذا النهج يطرح ديمقراطية توافقية وفكر يوفِّق بين التأصيل والتحديث وينازل ويغلب التحديات الإسلاموية والعلمانوية والإنقلابية، ويمثَّل في قراءة التاريخ المضاد للثورة المضادة".