إيلاف من الرباط: رحلة الفنان الفرنسي أوجين دولاكوا إلى المغرب في 1832 أخرجته من عزلة فرضت عليه قصرا في مجتمع هيمن عليه الفنانون الكلاسكيون في باريس، كما أنها غيرت نظرته وإلى الأبد لمجتمعات الشرق.

كان دولاكروا يقرأ ويشاهد ما يرسمه ذوي النزعة الاستشراقية، لكن من رأى ليس كمن سمع، لذا حينما تم اقتراحه لمرافقة البعثة الفرنسية للمغرب، قبل بسرعة وكاد يرقص فرحا، فقد كان ذلك مثل هدية سيقت إليه من السماء، فهو المتشوق لمعرفة تلك الشعوب والخروج من دائرة المجتمع الباريسي المتبجح بمركزية العالم حوله والمليئ بدساس الساسة والفنانين.

قبل على التو رغم اشتراط وزارة الخارجية تكفله بمصاريف السفر واعتماده على نفقة جيبه، لأنه لم يكن معروفا لديها وماذا سيكون دور فنان في بعثة ديبلوماسية ذاهبة لتسوية مشاكل سياسية ظهرت على السطح بعد احتلال الجزائر وهبة سلطان المغرب لنصرة الإخوان الذين جاؤوا من الجزائر مبايعين وطالبين الغوث.

دولاكروا ينبعث من المغرب

ليس ادعاء القول إن كتاب "رحلة أوجين دولاكروا إلى المغرب" الصادر مؤخرا، والذي جمع نصوصه وقدم لها وترجمها المترجم المغربي المعروف عبد الكبير الشرقاوي وأصدرته مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء، في باب ترجمات هو كتاب مهم وفريد ليس فقط للمهتمين بالفن وعوالمه، بل لباقي جمهور قراء العربية الباحث عن المتعة والفائدة.

في هذا الكتاب يجد القارئ نفسه مبحرا مع دولاكروا في مغرب القرن التاسع عشر الذي خلده في لوحات كانت الفيصل مع مرحلة فنية كلاسيكية قتل فيها الجمود والتكرار روح الفن.

في لوحاته" المغربية" تلك أشرع دولاكروا الباب على مصراعيه للإبداع والتوثب أماما لمراحل جديدة سيتخلص فيها الفنانون من القيود الفنية التقليدية والايديولوجيا الدينية ومكر السياسة.

دولاكروا كان واعيا بذلك، فحين وطأت قدماه تربة المغرب وانبهر بضوئه وشمسه وشخوصه ومعماره ولباسه، كتب في مدوناته: "الرائع الجدير بالرسم يغزر هنا، عند كل خطوة توجد لوحات جاهزة تصنع ثروة ومجد عشرين جيلا من المصورين، تحسب نفسك في روما".

في هذا الكتاب نكتشف مغربا توارى عن عيوننا بفعل نوائب الدهر أو روايات المؤرخين المتضاربة، لمصلحة ما أو لنقص في المعلومة أو لجهل في قراءة ما وصل إلينا والوصول إلى نتائج. هنا نرى المغرب من خلال اللوحة ومن حلال القلم، فلم يكتف الفنان بالرسم بل إنه كان يصف ما تحتوي عليه لوحاته، كما أنه كان يدون يومياته، ويكتب رسائل إلى أصدقائه، لذا يكون من السهل أن نجمع كل هذا الكم الثمين لنرى صورة مغرب القرن التاسع عشر واضحة أمامنا.

في وصفه للوحته الشهيرة" مولاي عبد الرحمان سلطان المغرب، خارجا من قصره بمكناس محاطا بحرسه وأكبر معاونيه"، المزينة لوجه الكتاب، كان دولاكروا كتب وصفا لها في كتالوك 1845:" اللوحة تصور بدقة حفل استقبال حضره المؤلف حينما كان يرافق البعثة فوق العادة لملك فرنسا إلى المغرب، على يمين السلطان اثنان من وزرائه، الأقرب منه المختار(الجامعي)، صاحب الحظوة لديه، والآخر هو الأمين البياز، أمين الجمارك، والشخص الأكثر بروزا في الأمام هو القائد محمد بنعبو، أحد أهم القادة العسكريين، والذي ورد اسمه في الحرب الأخيرة وفي المفاوضات، السلطان، الخلاسي بشكل ملحوظ، يحمل سبحة من عرق اللؤلؤ حول ذراعه، ويمتطي فرسا مغربيا عظيم القامة، كما هي أفراس هذا الصنف، وعلى يساره وصيف مكلف بالترويح بقطعة قماش لطرد الحشرات، السلطان وحده هو الراكب، الجنود مصطفون بعضهم جنب بعض وأبدا واحدا وراء الآخر، وحينما يركبون خيولهم، فليس لهم من طريقة أخرى في السير أو القتال، أي في جبهة أو نصف دائرة، والرايات في الأمام".

لم يكن استشراقيا

دولاكروا لم يكتف بالريشة والتقاط ما يهمه كفنان بل تعدى ذلك إلى إبراز واقع مغرب القرن التاسع عشر من كل جوانبه حتى الجغرافي منها سواء في يومياته أو في رسائله لأصدقائه الذين يتحسر من أجلهم لأنهم ليسوا معه للتمتع بجمال هذا البلد.

يكتب "ها أنا، بعد عبور بالغ الطول والارهاق، في بلد جديد للغاية وطافح بالمدهش المثير، تلزم إقامة طويلة هنا من أجل نقل أفضل لجزء قليل مما تراه فيه من لافت وغريب، إن لهذا البلد اختلافات محسوسة مع البلدان الشرقية الأخرى"؟

يضيف في نقس الرسالة موجها الخطاب إلى أحد أصدقائه " بين وجوه المغاربة الطيبة هذه، آمل أن أجد منها اللائق بإطلاعك عليه، ربما سيكون من بينها ما ينسيك أسفك على أنك لم تر نفس الوجوه في مجموعتك وستجعل لها موضعا عندك".

والملاحظ أن دولاكروا لم يستعمل لفظة "الشرق" التي تواطئ على استعمالها المستشرقون مما جعلهم يقدمون هذه البلدان في صور غرائبية وعجائبية وهمجية، وبذلك فإنهم سعوا إلى تقديم صورا مفدلكة وبعيدة عن الواقع بالصورة والكتابة؟ يكتب المترجم عبد الكبير الشرقاوي منتبها لذلك في مقدمة الكتاب الرائعة "تقتصر لوحات دولاكروا المغربية، عكس صنيع الفن الاستشراقي المألوف، على تصوير المشاهدات والمعاينات المباشرة له أثناء الرحلة، بل إن الخيال، مثل ملاك حافظ، هو الذي يوجه ويلهم".

ويضيف عبد الكبير الشرقاوي في مقدمته العميقة "دولاكروا إذن رجل دون مسبقات ولم يأت إلى المغرب، مثل أي رحالة أوروبي، لينظر بهذه العين، إن مقصده وتوقه هو أن يرى بعين الفنان ويختزن أكثر ما يمكن من الصور". يكتب دولاكروا في إحدى رسائله:" لم آت إلى هنا لمتعة الحواس والحب الخالص للجمال يدفع إلى التغاضي عن كثير من الموانع" وكتب أيضا:" الجمال هنا يذرع الشوارع".

المصور-الشاعر والمصور- الكاتب

كتب بودلير عن تجربة سفر دولاكروا للمغرب: "إن سفرا للمغرب خلف في ذهنه، على ما يبدو، أثرا عميقا: هناك تمكن، على مهل، أن يدرس الرجل والمرأة في الطلاقة والأصالة الطبيعية لحركتها، وأن يفهم جمال العصر القديم بفضل مظهر جنس خالص من كل هجنة تزينه صحته والنمو الحر لعضلاته"، ويصفه صاحب "أزهار الشر "ب "المصور-الشاعر"، لا لأنه كتب شعرا، يلاحظ المترجم عبد الكبير الشرقاوي في مقدمته للكتاب، بل للخيال الفني التصويري المشترك بينهما.

ويذهب الشرقاوي أبعد من ذلك فيقول:" وما أجدره أن يسميه أيضا "الرسام-الكاتب"، إذ قد زاوج مدى حياته بين الرسم والتصوير والكتابة: "كتب مقالات ودراسات هامة حول الفن ومفهوم الجمال الفني وعرض بعمق لسير وأعمال بعض الفنانين العظام مثل ميكل أنجلو ورفائيل وبوسان وآخرين".

أيضا يضيف المترجم الشرقاوي في ذات المقدمة" وخلف رصيدا ضخما من الرسائل ذات أهمية حاسمة ليس فحسب لمعرفة سيرته وظروف إنجاز أعماله الفنية، بل أيضا في مجال أرائه في الفنون والآداب، وخلف أيضا يوميات من أهم ما خلفه فنان عن حياته وسيرته وأفكاره وتجاربه، وهي صورة عميقة النفاذ لعصره ومعاصريه، ويمكن اعتبارها من أهم الأعمال الأدبية النثرية الفرنسية في القرن التاسع عشر، ووثيقة عن نظرية الفن والجمال لا نظير لها فيما كتبه فنانون كبار عن فنهم ونظرياتهم الجمالية".

خلف أيضا دولاكروا مشروع مؤلف تحت عنوان "معجم الفنون الجميلة" لم يتسنى له إكماله لأن الموت لم يمهله، وقد ظل جانب من حياة الكاتب كما يشير عبد الكبير الشرقاوي خفيا إلى وقت قريب، فكتاباته النثرية احتفظ بالجانب الأعظم منها لنفسه، وبعد ظهور تلك الكتابات للجمهور ظهر أنه كاتب ممتاز ومفكر حر ودقيق، له اضطلاع واسع على مختلف الفنون في عصره من مسرح وموسيقى ومختلف أجناس الكتابة الأدبية وعلى رأسها جنس الرواية ورائدها بلزاك، كما ظهر من خلال تلك الكتابات بأنه دائم التفكير في أصول فنه وتقنياته ونظرياته، مجادل لخصومه ومنتقد لأوهام عصره.

لوحات تغير تاريخ الفن

حينما جاء دولاكروا في رحلته من باريس إلى المغرب ضمن البعثة الديبلوماسية من ملك فرنسا لويس فليب إلى سلطان المغرب مولاي عبد الرحمان بن هشام، لم ينس أن يحمل معه كراسات الرسم، فكان يرسم فيها كل حين ويدون فيها مشاهداته وملاحظاته مخافة أن تهرب منه دهشة اللحظة.

بالرغم من أنه لم يكن يملك حريته الكاملة لما للمغاربة من موقف من الصورة والرسم، وأيضا للحساسية نحو الفرنسيين "الكفار"، وبالرغم من كل ذلك فقد اجتهد في أن يرسم ويكتب، ويفهم ما يدور حوله من خلال مترجم البعثة ومترجمه اليهودي أبراهام بنشيمول الذي كان له فضل إدخاله إلى البيوت المغربية التي كانت تشكل له لغزا، بل إنه حضر معه عرسا يهوديا في طنجة خلده في لوحته الشهيرة "عرس يهودي في المغرب" حضره إلى جانب اليهود حتى المسلمون، ولم يفته أن يشير إلى ذلك في كتاباته، واللوحة تعد من بين التحف الفنية الموجودة في متحف اللوفر.

رسم دولاكروا لوحات خالدة وكان لها الدور الحاسم في تغيير أسلوب الفن ليس في فرنسا فقط وإنما في العالم، فإضافة إلى ما ذكرناه هناك:" فارسان طالعان من البحر في طنجة"، "مركب عيساوة في طنجة"، "صيد الأسود بالمغرب"،" لعبة البارود"، "عبور وادي سبو"، "ضيافة قايد مغربي"، "حلقة مغربية"، "فارس مغربي".

يكتب في إحدى كراساته:" في أوقات الشدة، يخرج الأطفال بألواحهم ويرفعونها باحتفال. هذه الألواح من خشب مدهونة بالصلصال. يكتبون بقلم القصب ونوع من السمق سهل المحو هذا الشعب عتيق". وفي الكراسة نفسها يكتب عن الناس الذين شاهدهم:" إنهم أقرب إلى الطبيعة بألف طريقة: ثيابهم، شكل أحذيتهم. وهكذا فالجمال مقترن بكل ما يفعلونه. فنحن في مشدّاتنا، وأحذيتنا الضيّقة، وقوالبنا المضحكة، نستثير الرّثاء. اللّطافة تأخذ ثأرها من علمنا".

سأله الشاعر والروائي الفرنسي المعروف فيكتور هيغو ذات يوم وهو يتأمل لوحة من لوحاته عن ماذا يمسك أحد شخوصه بيده فكان جوابه بأنه قصد رسم بريق السيف. وهكذا كان فهو نقل الحياة والحركة في المكان والزمان فخلد نفسه وقلب الطاولة على سدنة الفن الكلاسيكي في فرنسا والعالم وكان له الدور الحاسم على فن التصوير في المغرب وإخراجه من عنق الزجاجة. ولمعرفة تأثيره الكبير على عالم الفن والفنانين نقرأ ما كان يقوله الفنان الفرنسي سيزان: "إننا جميعا موجودون في دولاكروا"... فماذا لو لم يسافر دولاكروا إلى المغرب... لقد كانت حقا رحلته بركة من السماء عم أثرها الجميع مغاربة وفنانين.