إيلاف من الرياض: تنتمي رواية (القبيلة التي تضحك ليلًا) إلى سياق (روايات الليلة الواحدة) كرواية إريك ماريا ريمارك (ليلة لشبونة) ورواية فرجينيا وولف (السيدة دلوي) ورواية جيمس جويس (يوليسيس) ورواية هاروكي موراكامي (بعد حلول الظلام) ورواية كويستوفر إيشروود (رجل أعزب) وغيرها من الروايات. حيث تكون الرواية لوحة إنسانية واسعة ترصد مساحات شاسعة من الزمن والتجارب والشخصيات والذكريات انطلاقًا من مركزية الذات التي تنفجر في شريط لغوي بامتداد زمني استرسالي مقداره ليلة واحدة. وذلك بمقتضى ما يُعرف في الرواية الحديثة بمحكي الذات. أو ما يسميه جان بويون "الرؤية من الوراء". وهذا هو جوهر رواية سالم الصقور، الصادرة حديثًا عن دار مسكيلياني.
تتمحور الرواية حول حدث مركزي يتمثل في لحظة ميلاد غير مكتمل لابنة بطل الرواية (علي بن مانع / علي بن سعدى) بعد خمسة عشر عامًا من المحاولات الفاشلة لإنجاب طفل في مجتمع قبلي لا يقر برجولة الرجل إلا بقدرته على الإنجاب.
إن قراءة رواية جيدة "تشبه إجراء محادثة مع صديق ذكي" حسب دوروثي سايرز. وهذا المنحى الجمالي من التلقي ينطبق على رواية (القبيلة التي تضحك ليلًا) التي تتحدث عن ليلة طويلة من التوتر الدرامي معبأة في بنية سردية مضغوطة، يحاول فيها علي بن مانع انقاذ مولودته (حنّا) التي لم تعش سوى ساعات. وهذا هو منطق الحياة التي "يحدث أن تمنحنا صفعة وقبلة معًا" حسب قوله، عندما يهدهد نفسه بواقعية ذاتية وهو "يطوف بكعبة الذكريات". حيث الحرمان بتصوره "إحدى فواكه الغيب المتساقطة في هذه الحياة". وكأنه يلوك حسرته المزمنة فيما كانت زوجته أروى بنت صالح تعاني من انفصال مولودتها عنها، وهو يتلقى سيل المكالمات الهاتفية للاطمئنان على صحة مولودته. في الوقت الذي كانت فيه الذكريات تتفجر في رأسه وتنجدل سرديًا على شكل استعادات متشابكة تصب كلها في نقطة انسداد حياته المتمثلة في انتفاء وجود الأولاد، الذين يشكلون من وجهة نظره في حالة الزواج "صمغ هذه العلاقة".
هكذا تحولت الأبوة بالنسبة لعلي بن مانع إلى "مرض عاطفي". حيث يعبر عن ذلك المأزق الوجودي من خلال افتتاحية ذاتية موجعة، تورط القارىء بشكل مباشر في واقع معاناة البطل والحالة الصراعية التي تضغط على مسار حياته، حيث يقول: "في كل شهر قمري يموت واحد من أبنائي، فينتصب سرادق العزاء في صدري، ولا أحد يشاركني تلك المآتم السرية".
ولكن هذا العزف المنفرد على وتر الحرمان، الذي يشبهه "بنزول الجبل بساق واحدة" لا يصمد أمام فضول القبيلة التي بمقدورها أن تجعل من أي أمر شخصي شأنًا عامًا، وذلك بادعاء دراما الحزن من أجله، سواء من خلال مطاردته بالسؤال الدائم عن تأخر حمل زوجته، أو بمضايقته عبر تهكمات مستفزة لرجولته، أو بتحريضه على الزواج من امرأة أخرى. وأحيانًا بقدرة القبيلة على التكاتف ومد يد العون مقابل مسخ شخصيته كفرد، فهي - أي القبيلة "بنك اجتماعي تمول أفرادها بما يفيض عن حاجتهم لتأخذ في المقابل كل ما يحتاجون إليه من حرية واستقلالية".
حتى محاولته للإنجاب عن طريق عملية الحقن المجهري لم تنجح. فقد جربها وهو يعلم بأن القبيلة في أعماقها لا تعترف بأطفال الأنابيب "فالحمل بهذه الطريقة منقصة في رجولة الرجل وأنوثة المرأة". أما طفل الأنابيب فهو إبن العيادة والمختبرات "ولم ينحدر من قبيلة بطنًا على ظهر…… وأبناء المختبرات أنصاف سفاح". هذا هو منطق "القبيلة التي تضحك ليلًا" كما حكاها له والده مرارًا بصورة رمزية لكي لا يجرح مشاعره بشأن تأخر عدم إنجابه. وذلك بالحديث عن قبيلتين نشبت بينهما حرب طويلة ومنهكة. وفي هدأة الليل عندما يستريح المحاربون كانت تأتي أصوات ضحكات عذبة من إحدى القبيلتين، فتثير الحيرة واليأس في القبيلة الأخرى. وعندما انتهت الحرب تبين أن ضحكات الفرح والأنس مصدرها الأطفال. أما القبيلة المهزومة فلا أطفال لها. وهذا الطرق المكثف على فكرة الإنجاب إنما يُنظر إليه في مفهوم الوظيفة السردية، حسب فلاديمير بروب، كمنطلق لتشييد عمل قصصي بنظام بنائي مغلق.
والحديث عن القبيلة يحيل بالضرورة للحديث عن المكان (نجران) كجغرافيا وتاريخ وطقوس حيث يتشظى السرد عبر لوحات فنية فاتنة. وذلك من منطلق التشديد على حضور المرجعي الاجتماعي في الرواية، واستهداف المرجع الحي الذي تشكلت فيه شخصية علي بن مانع. حيث ليلة عرسه على إيقاع طلقات رشاشات الكلاشنكوف، وخفقان نصال الجنابي اللامعة في أكف الرجال. وحيث مشهد جنازة جده المحمول على أكتاف الرجال "وسط ابتهالات مهيبة يرددونها بتقاطيع عروضية متناغمة، مع وقع الأقدام الثقيلة على الأرض". وهذه هي إحدى ميزات رواية الليلة الواحدة التي تنهض على الاستذكار العاطفي المتأجج، وخلق شعور التشويق، وتضخيم الصراع الداخلي للشخصيات.إذ يلجأ سالم الصقور هنا إلى استرجاعات خارجية لملء فراغات زمنية تساعد على فهم مسار الأحداث، واسترجاعات داخلية لترتيب القص في الرواية وضبط الأحداث المتزامنة. مع تخفيف السرد من أقمطة الحبكة وضرورات البناء الشكلي للرواية.
إنها محاولة لتشييد خطاب روائي يهجس بالعلاقة مع الحكاية الخاصة. حكاية (الأنا) المرتبطة من الوجهة الروائية الفنية بالشرط الاجتماعي التاريخي. وهذا هو ما تبدو عليه شخصية علي بن مانع. فهو يعاني من شعور عاطفي ضاغط. ولذلك يرتد بشكل عمودي للمراحل المحورية في حياته. كما يشدد على نقاط التحول التي دفعته للإنهيار وإعلان خيبة أمله. حيث يعبر عن ذلك بقوله "أعرف تمامًا طعم الفشل المعدني الذي يملأ حنجرتي". وكأنه هنا يتقاطع مع موضوعات المصير، والإعلان عن لحظة فقدان البراءة وانقطاع خيط الأمل الضئيل الذي يربطه بالعالم المتمثل في مولودته الملوحة له بالموت. كما يعيد قراءة وتشكيل الشخصيات من حوله وذلك من خلال استدعاء حواراته مع والدته ووالده وأصدقائه وخصومه وكل الحيوات التي عبرت حياته يومًا كشخصية عبدالناصر مثلًا، وذلك لتكثيف تجربة السرد التي تحتم بالضرورة تكثيف الشخصيات عبر مقولات تكشف أبعاد الشخصية ومراحل تحولها. وذلك من خلال سرد قصصي مركز.
لقد كان التحدي الأهم بالنسبة لسالم الصقور يتمثل في القدرة على الغوص في أعماق المشاعر وتعقيدات الوجود الاجتماعي والتجارب الإنسانية في إطار زمني محدود. مع التأكيد على حس التكثيف والفورية. وكأن تجربة ميلاد وموت حنّا تحدث الآن بنفس إيقاع وسرعة الشريط اللغوي. أو ما يسميه جيرار جينيت في حقل الزمن الروائي "سرعة النص" حيث تكون السرعة هي النسبة ما بين طول النص وزمن الحدث. وهذا التخليق الواعي للإطار الزمني الذي يعادل من الوجهة الفنية الزمن النفسي يحتم ضغطه داخل إحساس يكفل للهيكل السردي قيم التوتر الدرامي والتشويق. كما يكشف طبيعة العلاقات والروابط المعقدة التي تولدت على حواف الحب والرغبة واليأس والطبيعة العابرة للاتصال الإنساني. حيث الصدفة والظروف الاستثنائية التي تدفع شخصية علي بن مانع للتأمل الذاتي ومواجهة رغباته ومخاوفه وإحباطاته. كما تجبره على النبش في ماضيه واستعراض خياراته الممكنة مستقبلًا. إذ تتجلى هنا جماليات اللحظات الصغيرة العابرة، التي يمكن عبرها التقاط حركية الزمان والمكان، باعتبارهما جوهر الرواية.
التعليقات