ما الذي يجعلني اقفز من أتون الواقع العراقي، الآخذ بالعقول والألباب منذ حين، الى الذهاب بعيدا الى الجنوب الغربي من هذه المنطقة، حيث السودان؟ ما الذي يدفعني للغوص بعيدا الى كتاب يحتل مئات الصفحات ذكرني حجمه وصعوبة حمله بكتاب جواهر الادب الذي كنا نقرأه في ميعة الصبا وشرخ الشباب؟

هل هو الموضوع، أم صاحب الموضوع، أم الهرب من ملهاة عراقية الى ملهاة سودانية؟

اما الموضوع، فلا مراء ان السودان يشكل حالة عويصة على الفهم لمن يسعى الى حبه والاهتمام به. فهو رمال تلتهم كل بحار تفكيرك وانت تبحث عن الاسئلة المعلقة والاجوبة المغلقة، والحالات المطلقة من عقالها، ومن ذواتها الى ذوات أوسع. ان معايشة السودانيين شيء، والولوج الى ايوان السودان شيء آخر. السوداني الانسان اكثر ما يكون الوضوح والنقاء، السماحة وحسن السمت العاطفي والعقلي، ان عايشت سودانيا في حياتك، فانك ستظل تعايش آخر حتى تذهب الى ملكوت الموت. لقد كنا ابناء الجزيرة، بحكم الجوار والترابط الجغرافي، اكثر الناس احتكاكا بالسودان. نراه لاعب كرة، ومدربا لها، وايديولوجيا مترهبا، سواء في محراب اليسار او اليمين، ينقل داخل عمامته منجل الماركسية، او سيف الترابي... وتعصبه الذي اغترفه منا فسودنه، أو تحولات الصوفية وشطحاتها. تراه عاملا في البيت، ومعلما في المدرسة، ومحاسبا في البنك، ومترجما في الشركة، وصحافيا في الجريدة، أو محتالا تتلذذ حتى لاحتياله! هذا هو السودان. مغارة علي بابا، مملوءة بكل شيء، افتح مغاليقها تنهال عليك الأعاجيب، لكن ما يجمع السمات تلك، عصافير البساطة واغاريد المحبة، وحقول الصفاء. السوداني سفر مفتوح، سهل التمعن والقراءة، خصوصا لمن هم مثلي، يهربون من التعقيد والتدقيق واستظهار ما لا يريد الظهور. السودان هو السراب بعينه، وأنت تريد ان تمسك بحبات سبحته السياسية، او تعالج رماله المتحركة أو تقرأ فناجيله البيضاء وتشرب قهوته الطيبة، فأنى لك هذا.

ما أزال اعبر هذه الفراسخ السودانية منذ سنوات الحرم المدني، حيث كنا نلقى هذه الفيالق والوجوه الطيبة السمراء، نتعلم منها ونتعلم على اياديها، حتى تشاركنا الخبز والملح والفول المدمس وغير المدمس. تخاوينا على رحلة هذه الحياة القصيرة ، وكنت على الدوام أترصد، كما اللص، الاجابات المحكمة الاغلاق: لماذا السودان يمر ولا يقر، ولماذا يكر ويفر؟ ومتى يقدم لنا النموذج الأسمى في النمو والاستقرار وهو الذي يملك ما يملك من المواهب والعقول والاذهان، يملك منها ما يغطي مساحة قارة كاملة؟

والحق انني لم اجد الجواب. لكن كتاب الاستاذ المبدع منصور خالد يحاول الاجابة عن اسئلة هامت فضاء، وعامت ابحارا، وبقيت من دون اجابات مريحة للنفس.

الكتاب على تعدد صفحاته ينقلك من دون ان تدري الى مساحات متسعة بالضوء، لا تكل ولا تمل من القراءة واللهاث خلف الكاتب والكتاب. لقد وظف الكاتب عطاء الله له من ثقافة عربية اسلامية مدججة بغربية مثيرة للاعجاب ليقدم للقارئ سيرة. هكذا اراد للسودان ان يكون بلدين. وانا معه منذ زمن بعيد، فلم يؤخر مسيرة هذه الامم الاوسطية الا الرغبة الدفينة في الاستلاب والاستئصال وقضم الآخر، والاستيلاء على كل شيء.

لن اتحدث عن ثقافة المؤلف، ومقدرته التحليلية، وسعة اطلاعه، فتلك مسألة لا يمكن اغناؤها الا بقراءة الكتاب ليكتشف القراء ـ وبعض المثقفين ـ مقدار الظلم الذي يلاقيه كتّاب ومثقفو الأطراف من اهمال، اذ ان الاضواء تتركز على كتّاب المحيط بصرف النظر عن قدراتهم وامكانياتهم! ان ما يميز منصور خالد في هذا الكتاب، كما هي الحال في مواقفه الفكرية والسياسية، الشجاعة التي يتحلى بها، وتلك لعمري نفتقدها من الكثيرين في الشعوب الساكنة في هذه المنطقة، خاصة الشعوب العربية. لقد تحدث الكاتب بصراحة عن اخطاء الاغلبية، بل وخطاياها، وهي تريد الغاء الاقلية او استئصالها من خلال مواقف الاخوة في الشمال من قضية الجنوب. أشعر، او يخيل الي، ان الكاتب لا يقصد في هذه النقطة السودان فقط، او الجنوب السوداني. بل اياك أعني يا جارة، والجارة مرة في المغرب حيث الامازيغ، وتارة في المشرق العربي حيث الاكراد، فضلا عن التموجات الدينية والمذهبية التي تسعى الاغلبية لتذويبها. اما بالتطهير الديني او العرقي. ان الاغلبية، اي اغلبية، في أمسّ الحاجة الى من يخرج على عرفها، وعن صفها، لينطق بكلمة الحق ويتصدى للتمييز والتفريق ، وينتصر للاقلية التي يجب النظر الى وجودها، ايا كان، باعتباره اضافة ايجابية للنسيج العام للمجتمع، وركيزة من ركائز تطوره.

وعليّ الاعتراف انني ظللت طويلا افتش عن الجنوب السوداني، وعن شخصية زعيمه جون قرنق، فوجدتها مبسطة واضحة المعالم في كتاب منصور خالد. وكما ان من البيان لسحر، فان قراءة هذا الكتاب تجعلك تراجع نفسك أو تنظف ملوثات دأب الاعلام العربي والقوميون العرب على زرعها في ادمغتنا، كراهية للآخر، ورفضا لحقوق الاقليات.

لقد سعدت بلقاء ضمنا في لندن، وبعد قراءة الكتاب الضخم، حين دعاني الاستاذ منصور خالد الى عشاء ضم السيد قرنق وعقيلته، والكاتب الكبير الطيب صالح، ومجموعة من الوجوه الشمالية والجنوبية. وكان الحوار شهيا كالمائدة. ومع انني كنت الضيف الوحيد اللاسوداني، غير ان دفء السودان واهل السودان حولني الى جزء من الكل، لأمضي متدخلا جريئا في تضاعيفه وأموره. أما الطيب صالح فقد ملأ الحوار أريجا، وهو يخفف من تمايز اهل الجنوب حين ألقى على مسامعنا، وبالذات السيد قرنق وعقيلته، ان قبيلة الدنكة ـ القبيلة التي ينتمي اليها الزعيم السوداني ـ هي في الاصل من قلب الجزيرة. عندها ضحك السيد قرنق مبديا دهشته، ثم اضاف انه وجد الحل الذي يعاني في البحث عنه سكان مناطقنا، البحث الدائب عن تساؤلات تدهمنا جميعا، تساؤلات الهوية من انشداد وابتعاد، لكنه اضاف مازحا: سيكون على صديقنا السعودي ان يتقبل مطالبنا في البترول. ورددت عليه: متفقون بشرط ان يكون لنا نفس النصيب في نفط السودان.

على هذا النسيج كان الحوار عميقا ومعمقا، تتداخل فيه روح الجاذبية الطرائفية. وأعترف انني خرجت من ذاك اللقاء في عملية مقارنة بين من رأيت من زعامات السودان الشمالية وبين السيد قرنق. فمعظمهم من التقيت فاقد البوصلة، مشتت الرؤى، بالكاد يكاد يقنعك بمشروعه، بينما يطل عليك السيد قرنق من نافذة مفتوحة واسعة، يرى ما ترى، ويعرف ما يريد، لا تخطئه الرؤية، ولم يتلوث بتلك الاوهام التي نعتبرها حقا خالصا لكثير من زعمائنا ومنظرينا. سألته عن اكثر الوجوه قبحا التي يريد ان يزيلها عن وجه السودان. واجاب. ثم توالت الاسئلة عن اول قرار يتخذه لو دخل الخرطوم. وسألته عن العملة المنفردة، وعن البنكين المركزيين في الجنوب والشمال. فأجاب. وذكرت له، في معرض الحديث عن الحساسية، حساسية الاكثرية من حكم الاقلية، وكيف ان تاريخ الامم العربية مملوء بأقلية تحكم الأكثرية، من الايوبيين الى السلاجقة الى البويهيين، حتى من اديان مختلفة، فقط في هذا العصر حين ترسخت فينا الشوفينية واستوردنا الفاشية باطارها المحدث، صرنا نتوقف عند هذه الامور.

بيد ان الطيب صالح، مع انفتاحه وسلوكياته الرفيعه، لم يرد الا يكون شماليا صميما، فلم يتنازل عن حقه في رئاسة الجمهورية، وقال ـ ولو بخفوت ـ موقعك (يعني قرنق) نائب لرئيس الجمهورية. قالها وكأنه يعرض عليه ما يمكن ان يقبله الشماليون. ولم يعلق الثائر الجنوبي.

كانت ليلة طيبة أطللت فيها على الجنوب من خلال زعيمه، وهي المرة الاولى التي ارى فيها جنوبيا من السودان كما اتابع اللقاءات الحميمية بين ابناء الوطن الواحد، تلك اللقاءات التى دمرتها دعاوى التشدد والعرقية والتطرف، فتأتي هذه الامسيات الطيبة لتزرع روحا جديدة هي الأبقى والأقوى... والأجدى.

ويبقى انني على يقين من ان الذين لم يلتقوا السيد قرنق، سيجدون في هذا الكتاب الغني بالملامح والتعابير ما يشفي غليلهم عنه، وعن الجنوب، وعن اعقد المشاكل التي تمر بالسودان. نعم، هناك الكثير مما يمكن الاعتراض عليه أو الاختلاف معه، لكن متعة القراءة، وأفق الرؤية، وسعة الكلمة، تجعل الأخذ والرد والحوار أسلحتنا في مواجهة اليوم والاستعداد للغد.