لا أعتقد بأن هناك صعود غريب وعشوائي للقوى الدينية والاجتماعية كالذي حدث ويحدث في العراق منذ 2003، ومنشأ الحكم بالغرابة والعشوائية ناتج من وجود مفارقة في عملية الصعود هذه، ذلك أن هذه القوى (دينية أو اجتماعية) ذات بنية وأهداف تتقاطع مع ضرورات بناء دولة مدنية حديثة، وهي مع ذلك تجد لها أنصاراً وحلفاء بين أهم الأحزاب المسؤولة عن رعاية عملية بناء دولتنا المدنية!! وهناك اتجاهان يساعدان في عملية الصعود العشوائية هذه:
الاتجاه الأول يمثله التحالف المعقود بين بعض الكيانات السياسية وبين العشائر، والمخيف في هذه التحالف أنه يعمل على تخصيص مكانة فخمة للعشائر ليس في جسد الدولة العراقية وحسب، بل وفي أهم مؤسساتها الأمنية والخدمية، وهو أمر لا يقدر خطره معظم السياسيين العراقيين. صحيح أن الخط البياني لصعود حظوظ العشائر فيما بعد 2003 بدأ مع بريمر إلا أن ما حدث بعد خطة فرض القانون التي قامت بها حكومة المالكي جعل هذا الخط يحقق قفزات كبيرة من الصعود وبوتيرة مخيفة، فبعد إشراك عشائر الأنبار في عمليات ملاحقة فلول القاعدة وما نتج عن ذلك من استحقاقات سياسية لصالح تلك العشائر، اندفعت حكومة المالكي بشكل لافت اتجاه منح باقي عشائر العراق نفس امتيازات عشائر الأنبار السياسية دون مبررات حقيقية، حدث ذلك في إطار ما سمي بمجالس الإسناد. حملة مجالس الإسناد هذه كانت ذات أبعاد دعائية الغرض منها دفع عشائر الوسط والجنوب اتجاه دعم حزب الدعوة الحاكم، في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة. لكن نتائج الحملة لم تقف عند الأغراض الدعائية بل رشح عنها الكثير من الاستحقاقات التي صعّدت من حظوظ هذه العشائر في العملية السياسية، ما يهدد بإحداث شرخ كبير في عملية بناء الدولة العراقية الحديثة، وهو أمر تقع مسؤوليته على حزب الدعوة، باعتبار أنه الحزب الذي تولى لوحده رعاية حملة مجالس الإسناد.

الاتجاه الثاني: هو تواطؤ السياسيين جميعاً على إشراك المؤسسة الدينية في النجف بحل أي عقدة تحدث في العملية السياسية، ومن الطبيعي أن تعمل الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية على دعم هذه المؤسسة أو الحصول على مباركتها، لما بين الطرفين من تحالف ستراتيجي ومصالح مشتركة لا تخفى على أحد، لكن من غير الطبيعي أن تنساق الأحزاب العلمانية والشخصيات ذات التوجهات اللبرالية إلى هذا الفخ، فإشراك المؤسسة الدينية في المفاصل الدقيقة للعملية السياسية لا يمكن له أن يصب في صالح هذه الأحزاب أو تلك الشخصيات، وهذا الأمر الخطير يدل بوضوح على افتقار قادة التوجهات اللبرالية والعلمانية في العراق لأي رؤية ستراتيجية بعيدة المدى، وربما لافتقارهم أيضاً لأي أيمان حقيقي بجدوى رؤاهم تلك أو حرصهم على تطبيقها.

لم تزل المؤسسة الدينية في العراق تبتعد عن الجدل السياسي، ولم تزل تحاول أن تبقى على مسافة واحدة من جميع القوة السياسية في العراق. لكن ماذا لو تغير رأس هذه المؤسسة، فكما هو معلوم أن المؤسسة المرجعية في النجف هي مؤسسة فرد، بمعنى أن أفكارها وتحركاتها تصاغ وفق رؤية المرجع وأهدافه، وإذا كانت هذه المؤسسة تحرص على البقاء على الحياد تطبيقاً لرؤى السيد السيستاني، فمن يضمن أن من يخلفه في قيادة المرجعية لن يكون مدفوعاً بأطماع سياسية خاصة، أو مضغوطاً علية من قبل قوى إقليمية لدرجة تنجح في الإمساك بالعملية السياسية العراقية من خناقها.

ووفق هذه المخاوف يأتي السؤال التالي:
إلى ماذا يطمح القادة السياسيون في العراق وهم يتزاحمون على أبواب رجل الدين؟ وما طبيعة الرسالة التي يريدون إيصالها إلى الناس من خلال النجف؟

لقد أصبحت النجف تنافس بغداد على النفوذ، وبات من الطبيعي أن ننتظر حسم الملفات العالقة من داخل (برانيات) المراجع وليس من داخل أروقة المنطقة الخضراء، وهذا الموضوع لم تنكشف خطورته إلى الآن، لأن المؤسسة في النجف ليست معنية بالشأن السياسي أو ليس لديها مصالح كبيرة في تحريك فعالياته، لكن الخطر كل الخطر يكمن بالثقافة التي يعمل على تأسيسها سياسيو العراق من خلال تزاحمهم على أبواب رجل الدين، هذه الثقافة التي تعطي لرجل الدين ما ليس له ستؤدي حتماً لمنح النجف مقعداً دائماً يجلس فيه المرجع بصورة دائمة وعلى رأس هرم تكون قاعدته مقاعد السلطات الثلاث.