زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان قالها بصراحة: quot;سأنسحب من المشهد السياسي لأنني لم أجد محاوراً من الجانب التركيquot;. إلى هذه اللحظة لا يزال أوجلان ماضياً في قراره الذي اتخذه مع بداية شهر حزيران الجاري، وتاركاً حسم الأمر مع الدولة التركية للقيادة الكردية المتمركزة في قنديل بجنوب كردستان.

قبل اتخاذ أوجلان قراره هذا نبّه المسؤولين الأتراك من خطورة ما ستؤول إليه الأوضاع في تركيا. لم يدر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وباقي القيادة في حكومته، أي بال لتنبؤات أوجلان. بل استمروا في التطبيل والتزمير للحرب ضد حزب العمال الكردستاني، وصعّدوا من حربهم الكلامية والنفسية، كالعادة، وأعلنوا عن قدوم النهاية المحتومة للمقاتلين الكرد. القيادية الكردية من جانبها أعلنت جاهزيتها واستعدادها لردع أي هجمات للجيش التركي، وذكّروا الدولة التركية ما آل إليه مصير جنودها، في العام ألفين وسبعة، والخسائر الكبيرة التي تكبّدوها على يد المقاتلين الكرد في الزاب. وباقي القصة حول هزيمة الجيش التركي وفرار جنوده معروفة لا حاجة للغوض في تفاصيلها.

المقاتلون الكرد يحققون ما وعدت به قيادتهم، وخسائر الجيش التركي في تزايد مستمر. عملية quot;شمزينانquot; هي خير شاهد على المقاومة الشرسة التي يُبديها المقاتلون الكرد. العملية المذكورة أحدثت هزّة في أركان الدولة التركية، واستنفرت السلطات التركية برمتها، وكذلك المعارضة. رئيس هيئة أركان الجيش التركي إلكر باشبوغ أراد الرفع من معنويات جنوده بالقول بأن أربعين جندياً تركياً، قتلوا في مواجهات شمزينان، أبدوا مقاومة عظيمة!!

هذه العملية لم تكن، بالطبع، الأولى التي ينفذها المقاتلون الكرد في الفترة الأخيرة، فقد سبقتها عملية، أظنها أقوى لأنها ضربت تركيا في العمق، استهدفت موقعاً للبحرية التركية في لواء اسكندرون(التسمية العربية!). قتل في هذه العملية سبعة جنود أتراك وجرح عدد آخر وفق التصريحات التي صدرت عن المسؤولين العسكريين الأتراك. القيادة التركية ربطت بين هذه العملية والهجوم الإسرائيلي على quot;قافلة الحريةquot;، وأعلنت حصول العمال الكردستاني على دعم خارجي في التنفيذ، وكانت تقصد به إسرائيل.

الجانب الكردي نفى نفياً قاطعاً استمداد أي دعم خارجي، ولكن دون أن يُبدي دهشةً واستغراباً في تصريحات كهذه، عديمة الأدلة والإثباتات، درجت عليها جميع الحكومات التركية المتعاقبة حين تكون في موقف الضعف والخذلان. ولن نُعيد ما قالته القيادة الكردية في معرض الرد، على هذه الافتراءات، سوى: quot;نحن لم نستمد الدعم الخارجي حتى في أحلك الأحوال، فلماذا نستمده ونحن في أوج قوتناquot;.

تركيا تسلّمت من إسرائيل، قبل نحو أسبوعين، ست طائرات استطلاع quot;هيرونquot; تطير من دون طيار، وذلك كجزء من الصفقة التي أبرمها الطرفان في العام ألفين وأربعة في إطار التعاون العسكري والاستراتيجي. تضم الصفقة عشر طائرات، من نفس النوع، بقيمة مائة وثلاثة وثمانين مليون دولار أمريكي. حصّن الجيش التركي الطائرات الست، التي رافقها طاقم تقني وعسكري إسرائيلي، في ولاية باطمان بشمال كردستان، وهي تستخدمها الآن في حربها ضد المقاتلين الكرد بإشراف الطاقم المذكور. الطائرات الأربع الأخر ستنقل إلى تركيا في وقت لاحق وعند الحاجة. لا خوف عليها فهي بأياد أمينة يثق بها الأتراك. هذه الطائرات تستخدم في قتل الكرد، السؤال هو: على ماذا تُصرف الملايين التي جنتها إسرائيل من هذه الصفقة؟ الدولة التركية، وكذلك العديد من الدول العربية، لديها علاقات، متشعبة ووثيقة جداً، مع إسرائيل، ومنذ عقود من الزمن. إذن، لماذا لا يكون للكرد علاقات بإسرائيل؟ أليس quot;مسخرةًquot; أن تحرّم على غيرك ما تحلّله لنفسك؟ إذا كان هناك من يجب أن يُحاسب على علاقاته بإسرائيل فهي تركيا ولا أحد غيرها.

المواجهات لن تتوقف عند هذا الحد. جميع المعطيات على أرض الواقع تشير إلى أنها ستشهد مزيداً من التصعيد، بين المقاتلين الكرد والجيش التركي، في قادم الأيام. ليس هناك ما يلوح في الأفق على ان الدولة التركية ستجنح نحو إنهاء الحرب والاقتتال وحل القضية الكردية بالوسائل السلمية. الجيش التركي يكثّف من تواجده في مناطق العمليات العسكرية، وعلى الحدود مع إقليم جنوب كردستان. والقيادة المدنية التركية تشن في الداخل حرباً لا هوادة فيها ضد الشعب الكردي ونخبته السياسية، حيث استمرار الاعتقالات وحملات الإبادة السياسية. آخر المعتقلين كانوا تسعة من أعضاء وفود السلام الذين توجهوا إلى تركيا، في شهر تشرين الأول من العام الماضي، بناء على دعوة من أوجلان لأجل دعم محاولاته في الحل السلمي. اعتقال هؤلاء الأعضاء في مثل هذا التوقيت ليس محض صدفة، ولعل هذا ما دفع بالعديد من المعنيين للقول بأنه محاولة استفزازية لأجل جرّ الجانب الكردي إلى الحرب والمواجهة، ونسف جهوده ومحاولاته السلمية. السلطات التركية تمنع كذلك الدروع البشرية، التي يُرسلها حزب السلام والديمقراطية الكردي إلى مناطق المواجهات لإنهائها، من الوصول إلى مبتغاها، وتعتدي عليهم ضرباً وترهيباً، بعضهم لا يزال راقداً في المشافي، متأثرين بما لحق بهم من ضرب مبرح، كالبرلمانية الكردية سفاهير بايندر.

حزب العمال الكردستاني أعلن بدوره بأنه سينقل المواجهات إلى داخل المدن التركية إذما أصرّت تركيا على نهج المواجهة.

إذا نفّذ كل طرف ما يعد به فهذا يعني بأن معركة حامية الوطيس ستقع في غضون أيام، ستُزهق فيها الكثير من الأرواح، ولن يكون بمقدور أحد التكهن بنتائجها وحجم الدمار الذي ستخلّفه.

عرفنا في البداية الأسباب التي قال أوجلان بأنها أجبرته للانسحاب من المشهد السياسي، ولكن يجب التذكير بأنه أعلن أيضاً استعداده إعادة النظر في قراره هذا، إذما وجد تجاوباً من الجانب التركي لحل القضية الكردية عبر الحوار والتفاوض.

إذن ما زالت هناك فرصة ثمينة أمام الحكومة التركية لأجل حقن الدماء، بعد أن قضت على جميع الفرص والمحاولات السابقة التي قدّمها وأجراها الجانب الكردي، فهل ستقتنصها وتجنح نحو السلم، أم ستفوتها وتمضي في تعنتها وإصرارها على الحرب؟

[email protected]