حين طوى العراقيون ربيع عام 2003 مرحلة مظلمة من تاريخهم كانوا يتطلعون فيها الى حقبة زمنية جديدة يستعيد فيها بلدهم عافيته وقوته وتطلعه نحو مستقبل افضل في كل مجالات حياتهم التي اتعبتها عقود من الحروب والاضطهاد والحصارات السياسية والاقتصادية.

لكن الاحداث التي رافقت سقوط النظام السابق والهيمنة الاجنبية على استقلالية القرار العراقي لم تتح فسحة من الاعتبار لطبيعة المراحل الصعبة التي مر بها العراق ومتطلبات الحقبة التي تعقبها الامر الذي فرض على الاوضاع الجديدة اساليب وتوجهات فرضت نفسها على ادارة الحكم وشخوصه بشكل اضر بالامال التي كانت معقودة على مرحلة ما بعد نظام صدام حسين.

واذا كانت القيادات السياسية التي تصدت في البداية لمتطلبات مرحلة مابعد السقوط قد فرضت اشكالا من توزيع المسؤوليات ومنها المراكز الرئاسية العليا في الدولة فأن التطورات التي يشهدها الوضع العراقي الحالي مع دخول العملية الديمقراطية مراحل متقدمة من التطبيق والممارسة والاستعداد لتسلم زمام السيطرة على اوضاع البلاد مع قرب رحيل القوات الاجنبية.. ان هذه المرحلة تتطلب قيادات شابة وحيوية وقادرة على التحرك والمبادرة من اجل الايفاء بأستحقاقات هذه المرحلة المتقدمة من تاريخ العراق الجديد.

ولعل في واجهة هذه القيادات التي ادت ما عليها من متطلبات وضرورات المرحلة التي تولت فيها المسؤولية على مدى السنوات السبع الماضية هي الرئاسة العراقية ممثلة بشاغلها الرئيس جلال طالباني. لكن هذه الرئاسة وبعد الانتخابات الاخيرة وما افرزته من متغيرات ايجابية جديدة فأن واجبات ومسؤوليات اكبر واعظم بدأت تقع على كاهلها لتكون على مقدرة من مواكبة المتغيرات الجديدة الحاصلة في البلاد وهي مسؤوليات تتطلب التحرك والاتصال والسفر والمبادءة والحراك النشط والسريع من اجل انجاز مهمة الوفاق الوطني الحقيقي وتجاوز الطائفية والعرقية وانهاء عزلة العراق الاقليمية والعربية وتطمين الجوار الى سلامة الاوضاع في العراق وسيرها في الطريق الصحيح الموصل الى افضل العلاقات.


فالرئيس طالباني الذي تولى الرئاسة العراقية في ظروف حرجة وصعبة استطاع خلالها ان يلعب دورا تهديئيا بين تجاذبات الفرقاء السياسيين يكون قد ادى واجبه وساهم مع الاخرين في وضع العراق على بداية الطريق السليم الذي يبعث على الطمأنينة والرضى.. فأن الامر يتطلب وبعد ان انهكت ظروف العراق الصعبة صحة الرئيس وتقدمه في العمر الذي يلامس الثمانين عاما فأن على طالباني الان ان يأخذ بنظر الاعتبار كل هذه المتطلبات والتداعيات ويعتذر للعراقيين عن مواصلته تحمل المسؤولية وذلك قبل ان ترغمه تطورات الواقع العراقي الجديد على مواجهة قرار على هذا الطريق، من اخرين غيره، ينهي مسيرته بالشكل الذي لايرضيه.. لان الاستمرار في تحمل مسؤولية منصب لايستطيع الايفاء باستحقاقاته سيثير عليه سيلا من الاعتراضات، والتي بدأت همساتها تعلو حاليا وتخرج الى العلن، مما ينذر بتحولها لاحقا الى اتهامات بأعاقة التواصل مع التطور الحاصل في الوضع العراقي ومتطلباته الملحة.


ولعله من المؤلم ان يبدا العراقيون يسخرون من الرئيس طالباني خلال زيارته الاخيرة لعمان وهم يشاهدونه من على شاشات التلفزيون وقد تولى الملك الاردني الشاب عبد الله اعانته على السيير برغم انه يتكأ على عصاه التي اصبحت تلازمه دون فراق ومعها اربعة من الحراس الشخصيين يحيطون به ليمنعوا سقوطه.
وعليه فأن استمرا طالباني بمنصبه في اوضاعه هذه امر يخالف الشرائع السماوية والارضية.. فالاسلام يشترط في الحاكم كامل الاهلية الذهنية والجسدية.. فيما يلزم الدستور العراقي تمتعه بالصحة الكاملة والاهلية الناجزة.. وكل هذه امور يعجز طالباني على الايفاء بها حاليا اضافة الى امراضه الكثيرة التي يعاني فيها من مصاعب ومشاكل في القلب والضغط والدم والسكر والكبد.. ثم الوزن المفرط الذي تحول الى حالة عير صحية معيقة للحركة.

واذا ماتم تجاوز هذه الاوضاع التي تبدو شخصية في حالة طالباني فان هناك ماخذ سياسية كبيرة على تصرفاته بدأت تزعج العراقيين وتشكل خطرا على الوضع العراقي برمته. ففي حين بدأت فيه الاحزاب الشيعية في العراق تبتعد عن ايران وتاثيراتها على استقلالية القرار العراقي الداخلي فأن طالباني يلقي بكامل ثقله الى جانب ايران وسياساتها في العراق.. وما زياراته السرية والعلنية لايران واجتماعاته المتكررة مع قاسم سليماني مسؤول الملف العراقي في الحرس الايراني الا ظواهر بدأت روائح تداعياتها الكريهة تزكم انوف العراقيين. فطالباني وعلى مايبدو قد بدأ يفقد حتى السيطرة على تصرفاته من خلال تصوره ان رهن ارادته بيد الايرانيين وبهذا الشكل المخزي سيضمن له ولاية ثانية في رئاسة الجمهورية يستقتل الان ويحشد ماتبقى له من امكانات وعلاقات من اجل تحققها.

ولعله من المهم هنا التذكير بانه اذا كانت القوى الكردية مصرة على تولي شخصية كردية لرئاسة جمهورية العراق فأن عليها تقديم مرشح اخر بديل خاصة وان هذه القوى تتوفر على شخصيات شابة وفاعلة ومقتدرة قادرة على الايفاء بمتطلبات المنصب الاعلى في البلاد والتماهي مع متطلباته واستحقاقاته.
ان طالباني مدعو الان اكثر من اي وقت مضى لان يسجل بادرة تاريخية تحسب لصالحه ولسجله السياسي الطويل والحافل بالاعتذار عن التجديد لولايته وتسليم الراية للاجيال الجديدة الاقدر على مواكبة التطورات الجديدة في بلدها.. فمن حق هذه الاجيال التي تحملت الكثير من العذابات والاحباطات على مدى السنوات الماضية ان تدشن عهدا جديدا من العمل المثمر القادر على تقديم الافضل لها ولبلدها.. ولحاضر ومستقبل الاثنين معا.

bull;كاتب وباحث اكاديمي عراقي