من المفارقات الغريبة في الحالة السياسية العراقية، بعد اعلان النتائج الرسمية للانتخابات البرلمانية في السابع من آذار الماضي، وانعقاد أول جلسة للدورة الثانية من مجلس النواب الجديد، ومرور الفترات الزمنية التي حددها الدستور الدائم لتشكيل الحكومة وانتخاب رئيس الجمهورية لإدارة دولة العراق الفيدرالية، وبعد شهور من بقاء الحكومة المنتهية ولايتها التي تشكلت على أساس المحاصصة التي نالت من السيادة الوطنية للعراق، وبعد بذل مساعي كبيرة ومحاولات عديدة لحلحلة مسالة تشكيل الحكومة، وبعد الأحداث والوقائع المرافقة والتي صارت عاملا رئيسيا في تأخر اعلان النظام السياسي العام لأركان مؤسسات الدولة العراقية، بقي موقف كل من رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي ورئيس القائمة العراقية أياد علاوي على حاله دون تغيير ودون تحريك منذ اليوم الاول لاعلان نتائج الانتخابات والى يومنا هذا، وقد مر على هذا المشهد خمسة اشهر دون الوصول الى حل يرضي الطرفين المتنافسين على كرسي رئاسة الوزراء، والمثير ان كلا منهما يخرج بين فترة وفترة اخرى بتصريحات مدوية تحمل طابع التنافر بينهما بدل التقارب والتفاهم لوضع المصلحة العليا للعراق فوق كل اعتبار شخصي بغض النظر عن احقية اي منهما بتشكيل الحكومة المقبلة.

ولا شك أن هذه المواقف غير المسؤولة للمالكي وعلاوي وغير المبنية على النيات والمقاصد الوطنية الحقيقية، والتي لم تأتي اعتباطا ودون قصد بسبب تعقيد المسألة السياسية في العراق من جهة وتعدد المصادر الاقليمية والدولية للتدخل في الشؤون العراقية من جهة اخرى، فان تعليق الحل وعدم الوصول الى تفاهم وطني بينهما قد ترك العراقيين امام حيرة وتساؤول كبير حول جدية وطنية كل منهما، والحالة المعلقة التي تشهدها الساحة السياسية وضعت الواقع الراهن امام احتمالات خطيرة، خاصة بعد أن ازدادت وتيرة الأعمال الإرهابية في الشهور الأخيرة، حيث جاءت الأحداث والوقائع على عكس ما كان متوقعا من تحسن الحالة الأمنية في السنوات الاخيرة خاصة بعد القضاء على خلايا عديدة لشبكة القاعدة الارهابية في العراق والمنظمات المرتبطة بها، ولا يخفى أن أشكال الأعمال الإرهابية التي زادت زخمها، أخذت بعدا جديدا وهو الظهور المؤثر لهذه العمليات الارهابية المتعددة الأطراف في المناطق التي تقع تحت سيطرة القوات المسلحة والاجهزة الامنية العراقية، ولهذا فان استمرار الوضع الراهن والبعيد عن الشرعية الدستورية قد خلق الأسباب الحقيقة لتردي الأوضاع التي لاحقت الحالة الانتخابية الأخيرة، وتأتي على رأس قائمة الأسباب كما يتبين موقف كل من المالكي وعلاوي البعيد عن القرار الوطني الحقيقي والتضحية بالاعتبارات والمكاسب الشخصية من اجل المصلحة الوطنية للعراقيين.

ولا يخفى ان الحالة السياسية المستعصية التي لاحقت نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة، كانت فرصة كبيرة للقيادات العراقية السياسية للدخول في اختبار حقيقي لتقديم النموذج القيادي الوطني الحقيقي للتعبير عن الانتماء الحقيقي للوطنية العراقية، ولكن ما يؤسف لها ان الحالة السياسية المعلقة قد صدمت العراقيين على ارض الواقع بسبب تقديمها لنماذج قيادات مشوهة للوطنية على صعيد اغلب الائتلافات والكتل والاحزاب العراقية، وكذلك قدمت الحالة الراهنة صورة مربكة للتصور المستقبلي القصير الأجل للعملية السياسية في العراق، بسبب عدم استيعاب القيادات العراقية للمفاهيم والمباديء الديمقراطية، وفشلها في تقديم صورة ايجابية للتمسك بخيار الاستحقاق الانتخابي، وخاصة من قبل رئيس قائمة العراقية ورئيس ائتلاف دولة القانون.

وبطبيعة الحال فان الاقتداء بالنموذج الوطني للقيادات العراقية بحكم التجربة والممارسة الفعلية والاختبار على ساحة الميدان لم نشهد له تمثيل على ارض الواقع منذ سقوط النظام السابق سنة الفين وثلاثة، الا في حالة واحدة وهي لشخصية قيادية عراقية كوردية، وهو القيادي في الاتحاد الوطني الكوردستاني كوسرت رسول علي، حيث وضع مصلحة اقليم كوردستان فوق كل الاعتبارات والمكاسب السياسية الشخصية التي كان يمكن ان يحققها في حالة تحالفه مع رئيس حركة التغيير الكوردية نوشيروان مصطفى، وكان يمكن لهذا التحالف ان يغير الخريطة السياسية في الاقليم، ولكن بموقفه الوطني العالي النابع من الاحساس بالمسؤولية التاريخية للقيادي كوسرت رسول تحول هذا القيادي الحكيم الى عامل رئيسي للاحتفاظ بالاستقرار والامن والسلام في ربوع الاقليم خلال الانتخابات الاخيرة للبرلمان الكوردستاني في 25 تموز 2009، وساعد في الوقت نفسه على بروز هاديء واستيعاب سلمي وايجابي لحركة التغيير الكوردية المعارضة في الحياة السياسية الكوردستانية وامتصاص الآثار السلبية لظهور مثل هذه الحركات بممارسات مسؤولة لابعاد الوضع العام في الاقليم عن اي احتمال للتدهور، وهذا ما دفع ان يواصل الشعب الكوردستاني التمتع بالاستقرار السياسي والبناء الاقتصادي والعمراني لتحقيق التنمية والنماء في كل مجالات الحياة.

واستنادا الى الحقائق، وكتحصيل حاصل لما مثبت عليه حاليا الموقف السياسي في بغداد على الصعيد الحكومي والرئاسي والبرلماني، وعلى مستوى المفاوضات والمشاورات الجارية بين الكتل النيابية والتي لم تثمر عن اية نتيجة لحد الان، يتبين بعد بيان مواقف رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي واياد علاوي المطالب بمنصب رئاسة الحكومة، إن مصير الشعب العراقي يترنح بين مطرقة نوري المالكي ومسند أياد علاوي، وبين حالة معبرة للتمسك بالاعتبارات الشخصية وفقدان شبه تام للوطنية العراقية، وبين حاضر ضبابي ومستقبل غامض، وبين واقع مأساوي للحياة وفقدان شبه تام للخدمات، وبين حالة متفائلة للخروج من الازمات وحالة متشائمة للدخول في ازمات متلاحقة... كل هذا بسبب غياب المعيار الوطني في بناء المواقف والالتزامات للقيادات العراقية التي افرزتها نتائج الانتخابات البرلمانية الاخيرة.

من خلال قراءة هذه المشاهد، يتبين أن قرار تحديد مصير العراقيين في ظل الواقع الراهن بات في يد الغالب علاوي والمغلوب على امره المالكي، والاثنان متمسكان في اقتناص هدف واحد، بالرغم من مظاهر التبرير التي يبديها كل طرف باحقيته للوصول الى الهدف المنشود وهو موقع اقوى منصب تنفيذي في العراق.

ولكن بالرغم من التحولات التي ابدتها مؤسسات الدولة في المرحلة السابقة مثل تشريع القوانين من قبل البرلمان وخطوات إرساء المؤسسات الشرعية والسلطة التنفيذية الممثلة بحكومة مخولة من الجمعية النيابية وهيئة رئاسية جماعية وسلطة قضائية مستقلة، وارساء خطوات لضمان سير اتجاه الدولة الجديدة لبناء الركائز المكملة لتعزيز العملية السياسية، ألا أن العملية السياسية برمتها باتت تتعرض الى مخاطر حقيقية بسبب تعنت الطرفين المالكي وعلاوي، ولهذا فان الخطوة المهمة التي نأمل ان نشهدها في المستقبل الآني ان يتقدي احد الطرفين، المالكي او العلاوي، للاقتداء بموقف القيادي الكوردستاني كوسرت رسول المعبر عن نموذج وطني حقيقي لمراعاة المصلحة العليا للبلاد، ولا شك ان اي منهما في حال تبنيه لمثل هذا الموقف الوطني الاصيل، سينال احترام كل العراقيين وسيحظى بتقدير عالي من الجميع بسبب دوره الفعال في اخراج العراق من عنق زجاجة الازمة السياسية التي دخل فيه، وسيبقى في المقام الأول ضمن اهتمامات الشان العراقي لضمان الاستقرار وتحريك العملية السياسية وتدعيم الحالة الأمنية لتوفير الأمن والسلام للعراقيين خاصة بعد ان بدأت الحالة الأمنية تسجل صعودا في خط بيانها وبدأت تزداد وتيرتها مقارنة مع الأوضاع الأمنية السباقة، وبعكس هذا الموقف فان الحالة العراقية ستدخل في اوضاع خطيرة، ستكون لاحداثها نتائج ماساوية على واقع المستقبل السياسي للعراق.

ولكن مع كل هذا الواقع السياسي المؤلم، تبقى تقدير هذه الحسابات لدى العراقيين من الأمور المهمة للأخذ بها ضمن الرؤية العامة للعملية السياسية الجارية في البلاد، لأنها أمور حساسة بوجهة نظرهم بسبب ارتباطها بمسألة تحديد حاضر ومستقبل العراق، وقد برهن العراقييون على قدرة كبيرة وخارقة لتحمل الآثار السلبية للواقع السياسي الراهن، وهذا ما يدفع بالجميع ان ينظر للآتي بمنظار من التفاؤول، ولكن تبقى مسألة حسم المشهد السياسي لتشكيل الحكومة مسالة في غاية الضرورة، للبدء بمعالجة ملفات الخدمات والازمات المعيشية والاقتصادية وتفعيل الملف الأمني بسرعة لإشعار العراقيين فعلا بأن القيادات المنتخبة تملك احساسا حقيقيا للعمل الجدي والتغير والبناء واعادة العمران، وانتماءا وطنيا للنهوض بالعراق، وإلى حين يتم تحقيق هذا المشهد، نعيد قولنا ان المشهد بحاجة الى نموذج وطني مقتدر، ونأمل أن لا تطول خروج هذا النموذج العراقي الاصيل لمعالجة الحالة المستعصية الراهنة ووضع الحل الحاسم في القريب العاجل، وإلى حين ذلك ندعو من الله العزيز الرحمن ان يكون في عون الفقراء والمستضعفين العراقيين الذين ينتظرون تحسين أوضاعهم الخدماتية والمعيشية والحياتية بفارغ الصبر في ظل صيف لاهب وفقدان شبه تام للكهرباء وخدمات الحياة الاساسية.

[email protected]