مشاهد التظاهرات الطلابية في لندن وما جاورها بسبب اعتزام الحكومة رفع أكلاف الدراسة الجامعية إلى الضعف تقريباً، والمقاطع التلفزيونية المصورة لحالات الانتحار التي نفذها عاطلون عن العمل في تونس؛ كلها لقطات توقظ الذاكرة الحية، وتستفز بصرها وبصيرتها، لأولئك الذين يستطيعون القفز إلى ما هو أبعد من الصورة، والغوص وراء تفاصيلها.
في لندن هاجم الطلبة الغاضبون الملكية، التي طالما كانت محمية حد التقديس، وقذفوا ولي عهد بريطانيا العظمى بما توفر في أيديهم من زجاج وقاذورات وعلب مشروبات غازية، وفي تونس هاجم العاطلون الجمهورية ومؤسساتها وأنفسهم أيضاً، وكادت البلد أن تتفجر لولا حكمة متأخرة من الديكتاتور الناعم، ولا يؤتى الحكمة مستبد، إلا فيما ندر!
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الحالة الثورية تتحرك دائما بهدوء، وتحت السُتر، دون أن نشعر، حتى تفاجئنا أفعالها، وتفرض علينا أمراً واقعا لا بد أن نتعامل معه. الثورة فعل مفاجأة، ولو أنها كانت تعطي إشارات واضحة قبل مجيئها لما نجحت في أي مكان، ولتم القضاء عليها قبل ولادتها. ويعني ذلك أن الطلبة والعاطلون وحدهم هم وقود الثورات، وطاقة حركتها المتسارعة، والعنيفة.
إن الحالة الثورية في أي بلد تبدأ من أمرين بسيطين: الصامتون يبدؤون في الحديث علنا دون خوف، والمتحدثون يبدؤون بالفعل والحركة على الأرض دون خشية، ومع استمرار حركة التاريخ، وهي غالبا ربع قرن، يزداد عدد المنتمين إلى الدائرتين، حتى يصل الأمر إلى أن الجميع يبدؤون في التحرك تحت لواء الإحباط واليأس، وبعدها تنهار المقدسات الحكومية، والمؤسسات، والمحرمات تحت أقدام الفقراء المتعلمين الغاضبين.
في الخليج، هنالك نحو ثمانين بالمئة من السكان ينتمون إلى فئة الشبان، أي تقريبا تحت سن الثلاثين، وهؤلاء غالباُ متعبون من نظام تعليمي سيء، ومحبطون من حرية تعبير مقيدة، وجمود على صُعد تسيل في كل دول العالم انهاراً من عدل ومساواة؛ وهذا يعني أن الأمر يمكن أن يتطور إلى أن يصبح مصدر قلق وتهديد للكيانات السياسية المستقرة في المنطقة التي يسقي نفطها العالم كله.
طالما أن الحكومات لا تقوم بدورها في توفير فرص العمل، رغم الإيرادات الضخمة، فإن الأمر يمكن أن يكون خطيرا في المستقبل، خصوصا وان عدد الطلبة الخليجين في بريطانيا وحدها يجاوز المئة ألف، وكلهم راقبوا وسمعوا وفكروا وتدبروا، ما ذا فعل أقرانهم الطلاب، وإلى أي حد وصلوا. لا يوجد على الأرض من هو أخطر من أولئك الذين يشعرون أن ساعات المستقبل قد توقفت أمام أعينهم، وفرص الربح والخسارة واحدة، هذا إن كان هنالك شيء قد يخسرونه!
ويبدو أن التحدي في بلدان الخليج خلال السنوات المقبلة سيكون حول كيفية التعامل مع هذا الكم الهائل من الطلبة المستنيرين، الذين سوف يعودون يوما ما إلى بلدان لا تتقدم سياسيا، ولا تتطور حياة مواطنيها، ومستوى معيشتهم، إلى مستوى بلدانهم الثرية جداً إلى درجة غير معقولة. لقد خطت دول الخليج خطوات هائلة في سياق تطورها من كونها مشيخات (sheikhdom) نفطية إلى أن أصبحت دولاً ذات سيادة، تملك مؤسسات فاعلة، ولم تعد فكرة المحاسبة، والمشاركة، محرمة، كما كانت سابقاً، أو دليلا على رغبة في التمرد، كما يشاع دوماً.
دول الخليج أمام تحد صعب قد يصل يوماً إلى سؤال حول الوجود نفسه، ولا أحد يعرف من سيجيب على هذا السؤال، ومن سوف يستعد للحظة الامتحان القاهرة. ربما يكون ذلك جرس تنبيه لأولئك المسؤولين الخليجيين الكبار الذين يعيشون في عالم خيالي خاص بهم، وانفصل الجسر الواصل بينهم وبين الواقع، وفقدت طوابق الهرم كلها القدرة على التواصل، ولم يعد أحد منهم يرى سوى نفسه، ومستقبله.
وفي حال فشلت البلدان الخليجية في تفاعلها مع أزمة البطالة ومستوى المعيشة المتدني لأغلب مواطنيها، فإنني أرجو خصخصة حكوماتها جميعاً، أو طرحها للاكتتاب العام؛ فشركات مثل quot;فايس بوكquot; وquot;مايكروسوفتquot; وquot;نيوز كوربquot;، حققت ما لم تحققه بعض حكوماتنا من نجاح على مستوى الإدارة والقيادة والتطوير.

[email protected]