أما البوعزيزي فقد وجد طريقه إلى الجنة والتاريخ، وإيقاظ أمة بنور من لهب جسده، وأصبحت عربته للبيع في مزاد علني، كما هو الحال مع حجاب التركية مروة قاوق، وباص المرأة السوداء من ألاباما حين انتفضت على منع جلوس الشياطين السود في حضور الملائكة البيض كذا؟ وحذاء اليزيدي الذي وجد طريقه إلى رأس بوش خاتما عهده الحربي.

أما الفقهاء فمازالوا يتناقشون حول النصوص؟ وتبرع شيخ كبير أن يتقدم برهط إلى رب العزة والجلال متشفعا له أن يعفي عن غلطته؟ وما زاغ بصر البوعزيزي وما طغى؟ لقد رأى من آيات ربه الكبرى؟

كيف نفهم هذا الحدث الجلل؟ هل نفهمه في نتائجه وماذا فجر في الواقع من أحداث جليلات؟ أم في النصوص؟ فندور بين الأسطر كما تفعل حشرة العت فلا تفقه شيئا؟
إن نتيجة حريق البوعزيزي حريق هائل حرق مفاصل النظام الطاغوتي وبأسلوب غير عراقي..

في يومين مات تفجيرا وتدميرا في تكريت وبغداد أكثر من مائة نحرا وانتحارا؟ فماتوا مثل قطط أفغانستان وكلاب جاوة وثعالب سمرقند وذباب هايتي؟

وفي تونس مات أقل من مائة خلال شهر صبرا بصدور عارية في وجه الطاغوت فقامت أمة من رقدة العدم؟؟ فهذه هي موتة وفي العراق كل يوم ألف موتة فلا يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لايعلمون؟

منه نفهم أيضا معنى شهادة ابن آدم الأول، وهو يقابل التهديد بالموت وأسلوب التغيير اللاعنفي، الذي قد يكون أصعب على الكثير في العالم العربي والخط الإسلامي من أن يقطع أنف أحدهم بالمنشار بدون تخدير حتى يفهمه؟

هل انتحر البوعزيزي التونسي؟ أم كان شهيدا مباركا مفجر ثورة وحارقا لمفاصل نظام طاغوتي، في أول حفلة رقص عربية بالدم والنار والنور؟ وهي الآن في طريقها لتشكيل تسونامي عربي يمتد من ذمار إلى حلكو وعامودة ونواكشوط وحلايب؟

من الغريب أن كلمة شهيد التي يكررها الفقهاء تدور حول القتل والقتال؟

والقرآن له منطقه الموضوعي الخاص الذي يقول أن الشهادة لها ثلاث معاني الإقرار والاعتراف والشهود بمعنى الحضور الواعي ولم يذكرها بمعنى الموت ولا مرة واحدة بل جاءت دوما بمعنى الحياة، ولذا كانت شهادة البوعزيزي التونسي هي حضور واعي، وإعلان بطريقة إبداعية عن رفضه للظلم؟

واشهدوا أني بريء.. أشهد أن لا إله إلا الله.. وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من دبر...الخ..

إنه لايريد قتل ولا ضرب أحد ولا تفجير نفسه ومن حوله من مدن وعسكر لا .. لا .. إنه يريد أن يكون هو قربان كما فعل ولد آدم الأول ومات ولم يدافع عن نفسه حين قال الأول لأقتلنك حين لم يتقبل منه القربان..

لقد قدم البوعزيزي نفسه قربانا على مذبح التحرر..

وفي القرآن قصة معبرة عن معنى ولادة الحياة من الموت، بل أخذت كامل السورة اسمها من هذه القصة الرمزية، فضرب الميت بلحم بقرة ميتة فنهض من رقدة الموت يتكلم..

قلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون؟
يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون..

الطغاة يقتلون الحياة فيولدون الظلام من النور والموت من الحياة والشهداء لهم أجرهم ونورهم يخرجون الحياة من الموت والنور من تضاعيف الظلام..

إن قصة البوعزيزي ومعنى الموت والانتحار تذكرني بقصة ذلك الشاب الذي انتحر في مدينة سورية، بعد تجربته مع أقبية المخابرات، فهل انتحر أم مات شهيدا وشاهدا على الظلم؟ بفارق أنه مات في الظلام، ولو أن البوعزيزي بقيت قصته في الظلام مثل قصة الشاب السوري لمات مثله بدون نعوة وجنازة وكفن؟؟

جاء مريض إلى الطبيب هلعا؟ فسأله بعد أن فحصه ياطبيب: هل حياتي خطيرة؟ هل حالتي ميئوس منها؟

أجاب الطبيب: لا أظن كذلك ... ولكن لا أنصحك بذلك؟؟

ماذا جرى على الحدود العراقية للشاب السوري؟

لم يدر بخلد الشاب ذو ثماني عشر ربيعاً أن تلك الزيارة الخاطفة ستقرر مصيره؛ ففي بلد ثوري كان الشاب نعمان في خدمة العلم فأرسل إلى منطقة حدودية مجاورة لبد ثوري آخر.

شعر الشاب أن قريبه الفار إلى البلد الثوري المجاور هي مسألة جغرافية فليس أمامه سوى القفز بضع مئات من الأمتار الحدودية فيزور قريبه الذي يحبه وكانت غلطة قاتلة؟ .

احتفى به خاله وقبله ولكنه قال له لقد أخطأت بما فعلت فأنت يا بني لا تعبر حدوداً ترابية ومسألة الحدود بين العربان هي أشد من القفز في أطواق النيران.
ثم إن خال الشاب قال له ارجع بسرعة قبل أن يعلم الرفاق من هنا أو هناك بأمرك فيذيقونك العذاب الأليم.

كان الشاب صيدا ثميناً لمخابرات الرفاق في القطرين المتجاورين فهو خائن من جهة ومستودع معلومات للطرف الآخر.

وعندما قام بزيارة أهله أطلع والده على ما حصل معه فارتج الوالد رعباً وقال يا بني لقد جئت شيئا إداً تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً.

ولقد أوقعتنا في ورطة كبرى لكل.

ثم إنه انطلق بابنه إلى رئيس فرع مخابرات المنطقة فأطلعه على الأمر وقال أنتم أعلم بطيش الشباب وعدم تقديرهم لعواقب وها أنا والده أسلمه إليكم لترأفوا بحاله.

قال له رئيس الجلادين اطمئن وهو في يد أمينة وهي ساعة من نهار نستجوبه ثم يرجع إليكم؟!

رجع الوالد إلى بيته واعتبر أن المسألة قد حلت وانتهت. ولم يدر في خلد أحد أن الرحلة الفعلية بدأت فلم يعود الشاب إلى فرشته تلك الليلة ولا التي بعدها.
ومرت الأيام والأشهر ولا أحد يعرف في أي قبو من أفرع المخابرات الجهنمية ينام ويعذب.

ودامت الرحلة ثلاث سنوات حتى عاد.

ولكن لم يعد ذلك الشاب الضاحك المرح بل تحول إلى إنسان هرم محطم. ولاحظ الأهل أن يديه أصبحت مثل جلد السنجاب من أثر حرق السجائر ولسع الكهرباء فيها.

كان الشاب في حالة وجوم وذهول مستمرين وتحضره غيبوبة عند اجتماع الناس به.

وعلاه صمت لا يفكه شيء فلم ينطق حرفا أين كان سجنه وماذا سئل وأي شئ تعرض له؟.

ثم بدأت عوارض الجنون الخفيف تستولي عليه فيخرج هائماً على وجهه وقت السحر ويخرج بملابس صيفية في أعز وقت البرد.

واستمرت الحالة هكذا أشهراً طويلة وهو يرزح تحت صدمة لا فكاك منها ولا خلاص.

حتى جاءت ليلة مخيفة فتوجه الشاب إلى بئر ارتوازي وهو من النوع المخروطي فتحته تتسع لإنسان ونهايته تضيق بعد مائة متر فقام بإجراء طقوس الموت فخلع نعليه ثم ألقى بنفسه في البئر فانحشر واقفاً ومات تدريجياً بنقص الأكسجين التدريجي في ميتة من أبشع الميتات.

اختفى الشاب وبحث الأهل عنه حتى عثروا عليه ودلوا بالحبال فلم يتمكنوا من انتزاعه فمكث والده ثماني ساعات وهو يراقب حفر بئر موازية بأوسع وبجانب الأولى حتى وصلوا إلى مستوى جسم الشاب الميت فحفروا حفرة جانبية انتشلوا منها الجثة كاملة عبر هذا النفق حتى يتمكنوا من دفنه غير منقوص.

وكان الوالد يبكي ويندب طول الوقت.

دفن الشاب بدون ذكر وبدون عزاء وبدون صلاة فقد انتحر.

قال الفقهاء من ألقى بنفسه أو وجأ نفسه بحديدة فهو في النار خالدا مخلدا فيها أبدا؟؟

والسؤال هل كان هذا الشاب فعلاً منتحراً؟

ثم ماهي فلسفة الموت والانتحار؟

إن إيمانويل كانط يصف الانتحار بتقديم الاستقالة من الحياة ويرى أنها جبنا في المواجهة ولكن هل فعل الشاب هذا أم البوعزيزي التونسي؟

لقد أوصلت مخابرات العالم العربي المواطن إلى تلك الحافة التي يرى فيها أنه ليس هناك ما يستحق أن يعيش المرء من أجله وأفضل ما يفعله أن يقدم استقالته من الحياة ويستريح؟

سئل أردني لماذ أنت مكشر ؟؟

قال قهوتنا مرة. وخليجنا عقبة. وبحرنا ميت. وطبختنا مقلوبة. وأسماؤنا مهاوش وزعل وخصاونة وبلاونة. وأغنيتنا ياويلو ياللي عادينا ياويلو ويل؟؟
تسألني بعد هذا ليش أنا مكشر؟؟