الجامعة العربية مصادرة من قبل دول مجلس التعاون الخليجي. هكذا يقول السوريون الذين اعتبروا أن تحركات الجامعة لا تتجاوز سقف الموقف الخليجي من الأزمة السورية الذي يندرج بدوره ضمن سياق تآمري على سوريا الموقف الوطني والقومي والموقع الجيوستراتيجي، وهو تآمر له آباؤه الأصليون في البيت الأبيض الأمريكي وفي إسرائيل وبعض العواصم الأوروبية وخاصة باريس ولندن حيث تلعب دول الخليج دور الوكيل المؤقت، فحسب لإنضاج الظروف التي يكون فيها ممكنا لآباء المؤامرة الأصليين التدخل المباشر واستخدام القوة العسكرية لإسقاط نظام بشار الأسد.
أما دول الخليج التي تصدرت الحملة السياسية على سوريا والتي تقاتل في الداخل السوري عن طريق الجماعات المسلحة بمختلف مسمياتها، فترى أن على الجامعة أن تضطلع بدورها، وأن لا تغض الطرف عن انتهاكات النظام القائم في سوريا في حق المدنيين الأبرياء، وبالتالي، فإن الحرص على سوريا وشعبها يمر عبر العمل على إسقاط نظامها القائم بعد أن تجاوز ما تعتقده تلك الدول الخطوط الحمراء كافة.
وفي الواقع، فإن النظام السوري يعرف جيدا عجز الجامعة العربية عن تنفيذ أي خطة من خططها. وتعرف سوريا كذلك، أن دول الخليج أنها أعجز من أن تنفخ الروح في جامعة تحتضر منذ مدة طويلة لأنها لم تنجز أي مشروع من مشاريعها ولم تستطع تنفيذ أي قرار من قراراتها بما فيها القرارات التي حظيت بإجماع أعضائها وتنسجم مع تطلعات شعوبها من المحيط إلى الخليج، ولاسيما إذا كانت تلك القرارات لا تحظى بمباركة الولايات المتحدة والقوى الغربية وإسرائيل في نهاية المطاف. ولأنها تحولت إلى أداة لتمرير مشاريع سياسية واستراتيجية لا علاقة لها بالمصالح العربية الحيوية سواء تم النظر إليها من زاوية جماعية أو من زاوية قطرية كما تم التأكد من ذلك عندما استدعت التدخل العسكري الغربي في ليبيا ربيع العام الماضي. أي إنه أصبح واضحا أن دول الخليج تحاول أن تدفع الجامعة العربية إلى تكرار تجربتها خلال الأزمة الليبية باستدعاء التدخل العسكري الأجنبي ومحاولة إضفاء الشرعية العربية الرسمية عليه.
فعلام تعول سوريا في مواجهة قرارات الجامعة ضدها؟ وعلام تعول الجامعة وخاصة الدول المتحكمة في قراراتها حتى تتمكن من إنفاذها؟
إن هذا السؤال المزدوج يفرض علينا التذكير ببعض معطيات هذه المواجهة المفتوحة بين سوريا والجامعة، وما تمثله كل منهما من رمزية وثقل سياسي في سياق صراع إقليمي أشمل لا ينتهي عند حدود تركيا أو إيران ولا عند تخوم روسيا والصين شرقا وباريس وواشنطن غربا، وإنما يتعداها بكثير ليشمل مجمل التوازنات الدولية والعلاقات الإستراتيجية بين أطرافها الأساسية ضمن عملية تاريخية لإعادة رسم هذه المعادلات بما يتوافق مع أوزان وأحجام القوى المتصارعة على المسرح الدولي.
تنطلق سوريا من تحليل يقوم على ركائز محلية وإقليمية ودولية تعتقد أن خصومها لا يتمتعون بصددها على أي إمكانية جدية لإضعافها أو ضربها بما يمكنهم من تحقيق أهدافهم المعلنة وغير المعلنة في سوريا الجغرافية السياسية، ما أصبحت ترمز إليه وتجسده من انبعاث روح مقاومة النزعة الهيمنية الأمريكية الغربية في المنطقة، خاصة بعد أن أدركت مجمل الدول الإقليمية والدولية المناوئة للإستراتيجية الأمريكية أن وضع واشنطن على الساحة الدولية لا يتناسب مع قوتها الحقيقية وأنه بالإمكان إعادة النظر في العلاقات الدولية بما يتلاءم مع الأحجام الفعلية لمختلف القوى الأساسية في معادلات التوازنات الدولية الراهنة.
الركيزة الأولى: هي الشعب السوري الذي أصبح يدرك طبيعة المؤامرة التي يتعرض لها والتي تستهدفه في أمنه واستقراره وسيادته وكرامته الوطنية بعد سقوط الغطاء عن ذلك التآمر وافتضاح أمره أمام الجميع.
ولعل تماسك مؤسسة الجيش والأمن رغم الضجة الإعلامية الهائلة حول فرار أو حتى انشقاق عدد محدود من الأفراد في هذه المنطقة أو تلك، ولعل استمرار مختلف مؤسسات الدولة على ولائها وصمودها في وجه الهجوم الذي تعرضت له على المستوى السياسي والميداني قد ساعد على تجاوز الحالة الرمادية والغموض الذي اكتنف الوضع في بداية الأزمة السورية والذي جعل من الصعب التمييز بين شعار الإصلاح السياسي الذي يستمد مشروعيته من تطلعات الشعب السوري إلى تحقيق التغيير السياسي الديمقراطي أسوة بمختلف شعوب العالم المتحضر، وبين الأهداف الخفية للقوى الخارجية وطابورها الخامس الرامية إلى تدمير الدولة السورية وإنهاء دورها في معادلات المنطقة. ورغم تواصل فصول الأزمة السياسية السورية لأكثر من أحد عشر شهرا وتصميم القوى الخارجية الغربية والعربية التابعة على إحداث اختراق جوهري في جدار هذه المؤسسات لإحداث تحول نوعي يسمح بمباشرة الهجوم الإستراتيجي المضاد لحسم الموقف على حساب استقرار وأمن سوريا ونظامها السياسي، فإن ذلك لم يؤد إلى نتائج يمكن التعويل عليها لتحقيق هذه الغاية رغم الضغط الاقتصادي والسياسي الذي تتعرض له سوريا والذي يعرقل خطوات ومساعي الدولة لتجاوز الأزمة ومحاصرة مخطط التآمر الذي تتعرض له منذ فترة ليست بالقصيرة.
الركيزة الثانية: قدرة النظام السوري على إبراز الروابط القوية بين ما هو مستهدف به وما يستهدف كلا من إيران والمقاومة اللبنانية والفلسطينية إلى حد كبير، وبالتالي تحريك التحالف الثلاثي بين سوريا وإيران وحزب الله اللبناني والتأكيد على أن أي هجوم عسكري على سوريا هو بمثابة فتح جبهة واسعة في المنطقة من الصعب جدا التكهن بتداعياتها على السلم الإقليمي والدولي، بعد صدور إشارات من أطراف هذا التحالف بأن الاعتداء على طرف منها يعني الاعتداء عليها جميعا الأمر الذي يستدعي ردا جماعيا على مختلف المستويات. وعلى الرغم من توزيع الأدوار بين القوى الغربية وإسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي في مواجهة هذا التحالف بحيث تركز إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على الجبهة مع إيران تحت عنوان العمل على عرقلة مساعي إيران لتحقيق أهداف برنامجها النووي، وبحيث تتولى السعودية وقطر ملف سوريا وحزب الله عبر حلفائهما اللبنانيين الذين يضغطون على حزب الله من أجل تحييد سلاحه في أي معركة مقبلة، فإن سوريا التي لم تتغافل في أي يوم من الأيام عن طبيعة المخطط الذي يستهدف المنطقة استطاعت أن تكشف حقيقة مساعي التحالف الغربي الإسرائيلي الخليجي المضاد أمام شرائح واسعة من الرأي العام العربي والدولي التي اندفعت في بدايات الأزمة نحو إدانة الحكومة السورية وتحميلها وحدها مسؤولية ما يجري في البلاد من أعمال العنف والتدمير للبنى التحتية ومقومات الاقتصاد والتنمية التي تم بناؤها بتضحيات أبناء سوريا خلال العقود الماضية.
الركيزة الثالثة إدراك سوري روسي صيني مشترك أن استهداف سوريا اليوم هو محاولة لتصفية المصالح الإستراتيجية الحيوية لموسكو وبكين اعتمادا على الأمم المتحدة التي تحولت إلى أداة طيعة في يد الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية الأخرى التي تعمل على تغيير الأنظمة السياسية التي لا ترضى عنها بالقوة كما حدث في ليبيا حيث تم استغلال قرار مجلس الأمن الدولي لحماية المدنيين إلى شن حلف شمال الأطلسي لحرب شاملة أدت إلى إسقاط نظام العقيد القذافي وأسفرت عن أكثر من مائة وعشرين ألفا من الضحايا المدنيين.
ولأن روسيا والصين قررتا عدم الوقوع مرة أخرى في فخ الامتناع عن التصويت كما حدث بخصوص ليبيا فقد أقدمتا على استخدام الفيتو مرتين متتاليتين في وجه مشروعي قرارين حول الوضع في سوريا الأمر الذي جعل الولايات المتحدة والغرب يدركان أنه لم يعد سهلا استخدام أساليب الخداع لاستدراج روسيا والصين إلى مواقف يمكن الالتفاف عليها لتبرير التدخل في سوريا.
إن حرص روسيا على التأكيد أنها في هذه الأزمة ليست محاميا للنظام السوري وإنما لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وأن موقفها نابع من تصور استراتيجي شامل يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الإستراتيجية السياسية الهيمنية للولايات المتحدة والغرب والتي ليست موسكو بمنأى عنها يقطع الطريق أمام كل محاولات الإغراء التي تقدمت بها دول الخليج النفطية التي اعتقدت بسذاجة ما بعدها سذاجة أن تأمين بعض العقود في مجالات التسلح لموسكو كفيل بجعلها تغير موقفها من الأزمة السورية.
كما أن تكثيف اللقاءات بين المسؤولين الصينيين والقيادة السورية خلال المدة الأخيرة يعطي الدليل على أن أرضية استراتيجية مشتركة قد تبدت معالمها في أفق العلاقات الصينية السورية تعزز موقع التوافق الروسي الصيني في مواجهة أجندة الولايات المتحدة الراغبة في تسجيل نقط جديدة ترجح كفتها في مختلف معادلات التفاوض الدولي لتحديد قواعد السلوك الجماعي في معالجة عدد من الأزمات الإقليمية والدولية.
وتكفي الإشارة هنا إلى سلسلة من المواقف التي أعلنت عنها روسيا على صعيد الرئاسة وعلى صعيد رئاسة الوزراء للحسم بأن موسكو قد حزمت أمرها للعمل على المساهمة الفعالة في تحديد قواعد اللعبة الدولية للعقود المقبلة في مواجهة نزعة التفرد الأمريكي الغربي التي تحاول استمرار أمر الواقع على مستوى العلاقات الدولية الناجم عن سقوط الاتحاد السوفياتي السابق وانكفاء روسيا على ذاتها لمواجهة تبعات ذلك التحول الكبير في العلاقات الدولية وإعادة بناء الذات الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية لاستعادة الهيبة والتأثير في مختلف المحافل الدولية.
وفي هذا السياق، فإن المواقف السلبية المعلنة من رزمة الإصلاحات السياسية الهيكلية التي طرحها النظام السوري تكشف بوضوح أن المعركة في سوريا ليست معركة من أجل الإصلاح التي يمكن أن تكون المحرك الأساس بالنسبة لبعض فئات المجتمع وإنما هي معركة في سبيل تفكيك الجيش السوري وتدمير مقومات الدولة وفرض الأجندة الأمريكية الإسرائيلية المشتركة على المنطقة برمتها. وهذا ما يسمح بالقول إن الموقف من سوريا اليوم هو الموقف من هذه الأجندة بلا زيادة أو نقصان سلبا أو إيجابا.
فعندما يعلن البيت الأبيض الأمريكي أن طرح مشروع الدستور الجديد للاستفتاء الشعبي هو مجرد نكتة وترى الحكومة البريطانية أنه مدعاة للسخرية تتضح حقيقة موقف العواصم الغربية من مسألة الإصلاح السياسي في سوريا ذلك أنه بدلا من التروي والنظر في المشروع الجديد وتحديد موقف ما من مضامينه حتى ولو كانت سلبية في نهاية المطاف يتم تجاهل المشروع بصورة مطلقة والتعامل معه كما أنه لم يكن. وهذا يشكل فضيحة سياسية صريحة وواضحة ويعيد إلى الأذهان التصريحات التي أدلت بها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في الأشهر الأولى بعد اندلاع ما سمي بالربيع العربي والذي تمت خلاله الإطاحة بعدد من الأنظمة العربية حيث أكدت أن التغيير في منطقة الشرق الأوسط ضرورة استراتيجية أمريكية ولا علاقة لذلك بمبادئ الديمقراطية المثالية. أي إن ما يهم الولايات المتحدة الأمريكية هو استلام الحكم في البلدان العربية من قبل قوى تكون قادرة على حماية مصالحها الإستراتيجية بعد أن أصبحت القوى السائدة خلال العقود الأخيرة مصدر تهديد لها من زاوية عدم قدرتها على حمايتها كما كانت في السابق.
أما الجامعة العربية بقيادة دول مجلس التعاون الخليجي فتعول في الواقع على ما يبدو أنه إصرار أمريكي أوروبي على إسقاط النظام السوري بعد اليأس من استراتيجية تغيير سلوكه تجاه عدد من القضايا السياسية ذات البعد الإستراتيجي الحيوي بالنسبة لواشنطن وفي مقدمتها التحالف القائم بين سوريا وإيران وحزب الله اللبناني وعدد من تنظيمات المقاومة الفلسطينية التي تعتبرها الولايات المتحدة منظمات إرهابية نظرا لمواقفها المناوئة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط.
ولعل هذا ما يفسر استعجالها اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي ومحاولة استصدار قرار من الأمم المتحدة يسمح بالتدخل العسكري المباشر في سوريا بهدف إسقاط النظام على غرار ما وقع في ليبيا. غير أن الفيتو الروسي الصيني المزدوج قد أحبط هذه المحاولات لذلك أعلنت دول الخليج من خلال مجلس الجامعة العربية بغياب سوريا قرار تقديم الدعم السياسي والمادي للمعارضة السوري وهو ما يعني تقديم السلاح والدعم اللوجستي للجماعات المسلحة وتصعيد الموقف في سوريا ودفع الأوضاع إلى مزيد من التفاقم وإعدام أي إمكانية للتسوية السياسية التي تحفظ لسوريا وحدتها وسيادتها وأمنها واستقرارها.
غير أن نظرة موضوعية إلى معادلات الصراع في سوريا تسمح باستنتاج وحيد وهو انسداد أفق التمرد المسلح وتراجع الزخم الشعبي الذي كان بالإمكان أن يشكل حاضنة للجماعات المسلحة، خاصة أن النظام السوري لم يحصر نشاطه في المجالين الأمني والعسكري كما تحاول القوى المضادة أن تفرض عليه من خلال تصعيد لهجتها وبعض من عملياتها وإنما اعتبر أن الإصلاح السياسي ينبغي أن يكون عاملا داعما وكاشفا لطبيعة المخطط الذي يستهدف سوريا لأنه أبعد ما يكون عن الإصلاح السياسي، وإلا ما معنى الرفض المطلق للحوار الوطني وعدم إيلاء أي أهمية تذكر لعدد من مشاريع الإصلاح السياسي الهيكلي التي تم الإقدام عليها في الفترة الأخيرة والتي توجت بمشروع دستور جديد من المفترض أن يدشن مرحلة نوعية في تطور النظام السياسي في سوريا؟
كان ممكنا أن تكتسب قوى المعارضة المدعومة من الخارج الخليجي أو الغربي أن تكتسب بعض المصداقية لو اعتبرت أنه بالإمكان الحوار الوطني الشامل على قاعدة مشروع الدستور الجديد الذي ينبغي أن يكون أساسا للتفكير الجماعي في طبيعة النظام السياسي غير أن الأجندات السياسية والإستراتيجية للقوى التي توجهها لا تسمح بذلك لأنها تريد أن تحقق شيئا ما على الأرض قبل فوات الأوان.
إن التخبط الذي يراه اليوم كل متابع موضوعي لمجمل الأحداث في سوريا والمنطقة في التحرك السياسي الأمريكي الغربي الإسرائيلي عبر السعودية وقطر يكشف مدى الرعب التي يشعر به صانع القرار السياسي الإستراتيجي في تلك العواصم من الأفق المسدود للأجندات الأصلية المعتمدة والتي صيغت على نمط الأجندة في ليبيا.
ولا يغير من هذه الحقيقة تداعي هذه الدول لتشكيل تحالف ما سمي quot;أصداء سورياquot; في تونس لأن العنوان الرئيس لهذا التحالف هو بحث الطرق الكفيلة بتنفيذ المؤامرة الغربية الإسرائيلية الخليجية ضد سوريا التي اصطدمت بصلابة الإرادة السورية في إفشالها وتماسك جبهة خصوم الإستراتيجية الأمريكية الغربية في المنطقة.
التعليقات