بعد أيام قليلة يودع برهم صالح رئاسة حكومة الإقليم بعد أن أطاحت بحكومته إتفاق سياسي يعود تاريخه الى عام 2005، وهي الإتفاقية الإستراتيجية التي خرجت عن السياقات المعهودة في تحالفات الأحزاب التي تتشارك في الإنتخابات البرلمانية بهدف الوصول الى السلطة وثم في إدارة الحكومة، فبموجب تلك الإتفاقية تم تحديد سنتين لكل من الحزبين ( الإتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني) لإدارة الحكومة والبرلمان بالتناوب، وهذه تجربة فريدة لم تحصل في أي بلد بالعالم، لأن المعتاد في معظم البلدان أن تكون ولايات الحكومة لأربع سنوات، وهي مدة لم تحدد إعتباطا، بل أنها جاءت لإتاحة الفرصة أمام أية حكومة لتقدم برنامجا حكوميا وتعمل من أجل تنفيذه، ولكن في كردستان ونظرا لأن مصلحة الشعب تأتي دائما في ذيل قائمة إهتمامات الأحزاب السياسية ، بدليل تحزيب جميع الحكومات التي تعاقبت على كردستان منذ تحريرها في عام 1991، طغت المصالح الضيقة للأحزاب على مصلحة الشعب، وأصبحت الحكومة أداة بيد تلك الأحزاب لخدمة مصالحها. ولو أردنا الإتيان بأمثلة على ذلك، فهنالك المئات من الأمثلة التي بدأت مع تجربة الحكم المحلي بكردستان منذ أول حكومة تشكلت عام 1992، في مقدمتها تكالب الحزبين على الإستئثار بالسلطة في كردستان، ثم تقاتلهما فيما بعد على موارد منفذ إبراهيم الخليل الحدودي، وصولا الى تحويل إدارات الحكومة الى مراكز لكسب الأشخاص للحزب بإغراءات وظيفية وشراء الذمم بموارد الحكومة، وصولا الى تكريس الموارد الهائلة التي بدأت تنهال على هذه الحكومة منذ عام 2006 من ميزانية الدولة العراقية لخدمة أحزاب السلطة ،مرورا بإشاعة ظواهر غريبة على المجتمع الكردستاني منها الوصولية والواسطات والمحسوبية والمنسوبية وإفشاء الرشاوي، وإنتهاءا بإستغلال المشاريع الإستثمارية والإعمارية في الإقليم، ودخول معظم القيادات السياسية في كردستان الى المنافسة التجارية وإحتكار الأسواق المحلية.
كل هذه الأمور تراكمت على مر الزمن ما أدى أخيرا الى تفجر الغضب الشعبي تزامنا مع بدء ثورات الربيع العربي، حيث نزل الآلاف من المواطنين الى الشوارع للتعبير عن غضبهم إزاء إدارة شؤون الحكومة بهذه الطريقة، والإحتجاج على إغراق الإقليم في مستنقع رهيب من الفساد الإداري والمالي.
في ظل هذه الأوضاع المزرية وهذا الغضب الجماهيري المتراكم ، تسلم برهم صالح رئاسة الحكومة. وكانت الآمال معقودة عليه لتغيير تلك الأوضاع لسببين، الأول هو أن التغيير اصبح أمرا ملحا ومطلبا جماهيريا بدليل خروج التظاهرات العارمة في العديد من المدن الكردستانية،ما عرض الحزبين الحاكمين اللذان يمسكان بالسلطة منذ أكثر من عشرين عاما الى موقف محرج يستدعي إجراء المزيد من الإصلاحات، والثاني هو لأن برهم صالح بالذات أدار بنجاح نسبي حكومة الإقليم بإدارة السليمانية قبل تسلمه لإدارة الحكومة الموحدة، بشكل قدم خلاله نموذجا جيدا لإدارة تكنوقراطية وإشراك شخصيات أكاديمية ذات كفاءات عالية بحكومته، وتمكن بالفعل خلال السنوات الثلاث التي أدار فيها تلك الحكومة بالسليمانية أن يغير الكثير من المفاهيم والأساليب الإدارية القديمة، وأن يطبق بعض الإجراءات لتحديث وعصرنة إدارة الحكومة، خاصة وأنه أمضى سنوات في أوروبا وأمريكا وإكتسب خبرة جيدة في كيفية إدارة شؤون الحكومات بشكل عصري يخدم المجتمع ، وحاول خلال سنوات حكمه بالسليمانية أن يطبقها، ولكن سقوط النظام السابق وذهاب برهم الى بغداد بقرار من حزبه، حرم إدارة الحكومة من أحد أهم فرص التحديث.
ورغم أن برهم لم يسمح له أن ينقل تلك الخبرات الى الحكومة العراقية الجديدة التي كانت تحتاج في بداية المرحلة الإنتقالية للدولة الى أشخاص من أمثاله من ذوي الكفاءات العلمية والتخصصية، لبناء أسس الحكم الرشيد، ولكن ظهور أحزاب وشخصيات بخلفيات طائفية على الساحة السياسية،وتسيد بعض الأحزاب الدينية والمذهبية وأصحاب العمائم على المشهد السياسي، حرم العراق أيضا من مثل هذه الكفاءات،فوضع هناك في منصب رمزي مجردا من الصلاحيات، ولكن على الرغم من ذلك إستطاع برهم أن يحقق بعض المكتسبات وخصوصا للفئات الطلابية والشبابية بإطلاق العديد من المبادرات التي نالت إستحسان تلك الفئات، وما زالت تتنعم بها. فالرجل لا تقف تحركاته ونشاطاته عند حد، حتى لو كانت المناصب التي يعين فيها هامشيا، فهو يخلق الإشياء من لا شيء، وهذه هي طبيعته الخلاقة كرجل دولة.
هذه الخلفيات جعلت من برهم صالح معقدا للآمال بكردستان، خصوصا بعد أن وصلت أحوال الحكومة الإقليمية الى أقصى درجات السوء من خلال إنتشار حالة الفساد ووصولها الى رأس القمة.
عندما أعلن عن إجراء الإنتخابات البرلمانية قاد برهم صالح القائمة الكردستانية، وتمكن بنشاطه وتحركاته أن يستقطب العديد من الفئات الإجتماعية الى جانب تلك القائمة من خلال البرنامج الذي صاغه لها، وهو البرنامج الذي إعتمده لحكومته. وكان برهم أمينا على تنفيذ ذلك البرنامج عندما أختير رئيسا لحكومة الإقليم، ولكن قيادات من الحزبين ( الإتحاد الوطني ومنافسه الحزب الديمقراطي الكردستاني) وضعا منذ البداية العديد من العقبات والعراقيل أمامه للحيلولة دون تنفيذ ذلك البرنامج الذي كان يضر بمصالحهم، خاصة وأن معظم تلك القيادات قد أوغلت بالفساد وإنتفعت من الموارد الحكومية ومن المناصب والإمتيازات التي حصلوا عليها، وكان ذلك البرنامج يهدف الى تقويم الوضع ومحاربة الفساد وإعادة توزيع الثروات بشكل عادل بين فئات المجتمع، وإنهاء إستئثار عدد قليل من مسؤولي الحكومة والأحزاب السلطوية بموارد الدولة.
وقد يسـأل البعض لماذا قيادة الإتحاد الوطني وهو الحزب الذي ينتمي إليه برهم صالح ، بل ويحتل فيه موقع نائب الأمين العام، والرد هو، أن ما عاناه برهم خلال فترة ترؤسه للحكومة على يد هؤلاء القادة بالإتحاد الوطني لم يعان بعشر معشاره على يد قيادات الحزب المنافس لحزبه، ولذلك كان برهم يردد في العيد من المناسبات أن رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني كان دائم العون وخير معين له في إدارة شؤون الحكومة، وأنه لم يبخل عليه بكل ما ينجح قيادته للحكومة، على عكس قيادات حزبه الذين وصل الأمر ببعضهم الى حد التآمر عليه، وإفشال إجراءاته الداعية الى إصلاح الأمور أو محاربة الفساد.
في خضم هذه الأحوال تسلم برهم صالح رئاسة الحكومة، ولم تكد تمضي سوى بضعة شهور قليلة مضى الجزء الأعظم منها في مراجعة حسابات الحكومة التي سبقته، وتصحيح الأخطاء التي أرتكبت من قبل، حتى واجهه أكبر تحدي يمكن أن تواجه الحكومة الكردية، وهو خروج مئات الآلاف من المواطنين الى الشوارع للإحتجاج على سوء أحوالهم والمطالبة بالإصلاحات السياسية. وكان برهم من أوائل القيادات في الإقليم الذي إعترف صراحة بأحقية ومشروعية مطالب الجماهير،ولا أخاله أنه كان سعيدا بخروج تلك المظاهرات على إعتبار أنه كان سيحصل على دعم الشارع الكردي لخطته الإصلاحية بالحكومة، وإعادة توزيع الموارد على الشعب بشكل عادل، وستتيح له المضي في إصلاحاته للجهاز الإداري والقضاء على الفساد، وكان برهم وحده يواجه تلك التظاهرات بإيتسامته المعهودة وبضبط أجهزته الأمنية من التدخل لقمع الشعب، في وقت كادت معظم قيادات الحزبين أن تهرب من كردستان خوفا من مصير مشابه لمسؤولي بقية البلدان المستبدة التي أطاحت ثورات الربيع العربي بعروشهم.
كان برهم منذ بداية تلك الأحداث متواجدا بقوة على رأس حكومة ترفض بالمطلق إستخدام العنف ضد المتظاهرين، ومع ذلك وقعت أحداث مؤسفة لا يمتنع العقل والمنطق عن التفكير بأن تكون تلك الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة السليمانية وغيرها كانت بفعل بعض القيادات لإحراج حكومة برهم صالح، وقد يكشف التاريح حقيقة ما جرى هناك والدوافع الأساسية لإضراج بعض المتظاهرين المطالبين بحقوقهم بدمائهم في الشوارع. على كل حال حاول برهم أن يسيطر على الوضع وأن يحافظ على سمعته كرجل نزيه ومسالم محب لشعبه،وأن يبذل أقصى ما يملك من الجهد والقوة لمنع مواجهة تلك التظاهرات الغاضبة بالنار والحديد، وتمكن فعلا من ذلك عبر ضبطه لإدارة الحدث بأكبر قدر من المرونة ، وإنتهت تلك الأحداث أخيرا بأقل الخسائر والفضل يعود لرئيس الحكومة برهم صالح.
ما كادت تلك الإحتجاجات تخف بإطلاق قيادة الإقليم لحزمة من الوعود والتعهدات بإصلاح الأمور والشروع بحملة إصلاحية، منها وعود أطلقها رئيس الإقليم مسعود بارزاني وكان جادا في ذلك، ولكن لا وعود بارزاني ولا رغبات برهم صالح بإصلاح الأمور تحققت بسبب دور القيادات الأخرى في الحزبين الذي عرقل تنفيذ أية إصلاحات حقيقية في الإقليم، وبقيت الأوضاع على ما هو عليه من توتر شديد بين أحزاب السلطة والمعارضة من جهة ، وبين الغضب الشعبي الذي اًصبح اليوم مكبوتا وقابلا للإنفجار في أية لحظة أخرى.
ومع عودة الهدوء الى الشارع أصبح أمام برهم متنفسا وفسحة للبدء بإطلاق مشروعه الإصلاحي للإدارة والحكومة. وهذا ما سنتناوله في المقال القادم.
التعليقات