من مفكرة سفير عربي في اليابان

يحلم العقل العربي بديمقراطية تحل معضلات مجتمعاته الاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والروحية، كما يتصور بأن الرأسمالية الغربية الفائقة ستعالج تحديات التنمية المرجوة في مجتمعاته. وقد حاول الغرب تحقيق مجتمعات مسالمة متآلفة، متعاطفة، ومتناغمة بديمقراطيته التقليدية ورأسماليته الفائقة، ليتفرغ لتنميته الاقتصادية والاجتماعية، فيوفر لشعوبه الاستقرار، والازدهار، والرفاهية، والثراء، لتصبح النفوس في مجتمعاته راضية، سعيدة، وهانئة. ولكن يبقى السؤال: هل فعلا حققت الديمقراطية الغربية برأسماليتها الفائقة حلم السعادة التي تتمناه شعوبها؟ وهل مظاهر الرفاهية الغربية مظاهر سعادة أم نشوة؟ يقول الراهب البوذي ديلجو رينبوش: quot;الباحث عن السعادة في النشوة، والغنى، والقوة، والشهرة، والبطولة، هو كالطفل الساذج الذي يحاول مسك قوس قزح، متخيلا بأنه معطف يريد أن يلبسه.quot; فإذا لم تكن النشوة هي السعادة، فما هي السعادة إذا?
عرضت مجلة الايكونوميست الاقتصادية في الشهر الماضي ناقوس خطر إجتماعي جديد في المجتمعات الديمقراطية الغربية، وهو انخفاض نسب الخصوبة لمستويات متدنية جديدة، فعلقت تقول: quot;يحب المحافظون الأمريكيون التفاخر بالقوة والخصوبة التي تمتع بها بلادهم، بينما يتهمون المجتمعات الأوروبية بالتفسخ والإنحطاط. فقد تحدث مرشح المحافظون للرئاسة الأمريكية، مت رومني، عن الكارثة الديموغرافية في أوروبا، كنتيجة حتمية لضعف العقيدة في الخالق، وتفسخ العائلة، وعدم احترام حرمة الحياة البشرية، مع تآكل الاخلاقيات.quot; فنلاحظ بأن الامريكيون يحبون الاهتمام بنسب الخصوبة، وهي متوسط عدد الاطفال المتوقع إنجابه من كل امرأة في المجتمع خلال حياتها. فقد حضت الولايات الامريكية بنسب مرتفعة من الخصوبة بين دول الغرب لتصل إلى 2.1، وهي أقل نسبة لكي تستطيع أي دولة المحافظة على عدد سكانها بدون زيادة أو نقصان، في الوقت التي كانت هذه النسب منخفضة في دول أوربا الغربية، وأدت لخفض سكانها. وقد أنصدم الشعب الأمريكي حينما أكتشف في عام 2011 بأن نسب الخصوبة قد انخفضت الى 1.9، بعد أن أجل الكثير من الشباب الأمريكي الزواج وتربية الأطفال، نتيجة للأزمة الاقتصادية، لتؤكد استطلاعات الرأي بأن 20% من الشباب الأمريكي أجل فكرة الزواج وتربية الأطفال. ويبقي السؤال: أين السعادة البشرية حينما يحرم الإنسان من أهم حقوقه، سعادة الحب، وهناء العائلة، وطمأنينة المحافظة على بقاء جيناته البشرية؟
لقد تحدث الكثير من الكتاب عن الحب، وتربية الأطفال، والسعادة، في رواياتهم، وخير من كتب عن ذلك الكاتبة شارلوت برونتي، وقد عبرت عن مفهوم السعادة في أحد رواياتها قائلة: quot;أستغربت حينما سمعت طبيبي يتكلم عن زراعة السعادة! فقلت له: هل تزرع السعادة؟ كيف يمكنك ذلك؟ فهل السعادة بطاطة لتزرع وتغذى بالسماد وتروى بالماء؟quot; والسؤال لعزيزي القارئ: هل فعلا نحتاج لجهد كبير لكي نزرع السعادة في نفوسنا، ونغذيها باللطف وحسن الخلق، ونرويها بالتفاؤل والرحمة والبهجة، لتتفتح أزهارها في أروحنا، وتتشعب جذورها في مجتمعاتنا؟
لقد بحثت مجلة الاكيونوميست عن سر السعادة في القاعدة المعلوماتية العالمية للسعادة، فوجدت ارتباط السعادة بالعوامل الشخصية والاجتماعية كالاستقرار العاطفي والعائلي والعقائدي. وبينت هذه الدراسة بأن المتزوجين والمتفائلين أكثر سعادة من العزاب والمتشائمين، كما أن الشخصيات المتفتحة اجتماعيا والمحافظة عقائديا أكثر سعادة من الشخصيات المنغلقة واللبرالية. والغريب بأن الدراسة بينت أن الممرضات أكثر سعادة من موظفي البنوك، كما أن المتدينين، والناشطين جنسيا، وخرجي الجامعات، والقريبين من مواقع وظائفهم، أكثر سعادة من أقرانهم، وعلقت المجلة بالقول: quot;الأغنياء يطربون بالحياة أكثر من الفقراء، ولكن نشوة طربهم لا يزيد من سعادتهم.quot;
ودرس الباحثون سبب قلة السعادة بين الأمريكين، بالرغم ما يقال عنهم من أنهم يمتعون بالحرية والفرص والغنى، فوجدوا بأن السبب الرئيسي هو سوء التصور بان السعادة استحقاق طبيعي، لا يحتاج للعمل الجاد لتحقيقه. فالأمريكيون يعملون ساعات طويلة لتحقيق السعادة، ولكن يعانون من ارتفاع نسب الطلاق للضعف، مع زيادة نسب انتحار المراهقين لثلاثة اضعاف، وارتفاع نسب الجريمة لأربعة أضعاف، وتزايد عدد السجناء لخمسة أضعاف، كما زادت نسب أمراض القلق والكآبة. ويعاني المجتمع الأمريكي من ثقافة الاستهلاك، والتزمت الديني، والفساد السياسي، والسلبيات المرافقة للتطور التكنولوجي. ويعلق الفيلسوف الأمريكي، أريك هوفر، على كل ذلك بقوله: quot;الشعب الأمريكي مهووس بالبحث عن السعادة، وذلك هو السبب الرئيسي لانعدام سعادته. بينما يعتبر الشعب السويسري من أكثر الشعوب سعادة، ويربط سعادته بجمال الطبيعة، وكفاءة الحكومة، ودقة مواعيد المواصلات، وقلة نسب البطالة، بالإضافة لنظافة الحمامات. وارتبطت السعادة في الدول الإسلامية بالإرادة الإلهية، بينما يشغل الشعب التايلاندي نفسه بالعمل لكي يكون سعيدا، ولذلك ليس لديه الوقت لمعرفة معنى السعادة. وتعتقد شعوب الدول الاقل سعادة بأن قلة سعادتها هو نتيجة للشعور العام بعدم الثقة في مجتمعاتها وانتشار الوساطة والفساد والغيرة.quot; ويعتقد جان جاك روسو بأن: quot;المجتمع البشري بأكمله يريد أن يكون سعيدا وليستطيع أن يحقق هذه الرغبة علية معرفة ما هي السعادة.quot; والسؤال: هل من الممكن أن نعرف السعادة؟ فهل هي أحساس قناعة، أم طمأنينة نفسية، بتوفر الصحة، وحاجيات الإنسان الفسيولوجية، كالشراب والغذاء والجنس والملبس والمسكن، والحاجيات النفسية، كالعمل المنتج ووفرة الاصدقاء وبناء العائلة مع توفر الأمن والاستقرار المجتمعي والتناغم بين الإنسان والطبيعة؟
لقد كتب العالم الفرنسي ماثيو رتشارد في كتابه، السعادة، يقول: quot;حينما كنت في العشرينات لم تعني كلمة السعادة لي الكثير. فقد كنت نموذجا للشاب الباريسي، أشاهد أفلام انشتين وماركس، اعزف الموسيقى، اخرج في مظاهرات جامعة السوربون، وأحب الرياضة ومشاهدة الطبيعة. فلم أعرف كيف أقيد حياتي بل كنت العبها يوما تلو اليوم الآخر. ولكني أحسست بأن هناك طاقات يمكن أن تزهر في داخلي، ولكن لم اعرف كيف أحقق ذلك.quot; ويتذكر الكاتب حديث لبعض زملائه بعد تخرجهم من الجامعة، حينما سئلت زميلته عما تريد أن تفعل بعد تخرجها. فردت بأنها تريد أن تكون سعيدة. فأستغرب أحدهم فسألها: quot;كيف يمكن لشخص موهوب مثلك ألا يريد إلا أن يكون سعيدا.quot; فردت بقولها: quot;ولكني لم أقل كيف أريد أن أكون سعيدة. فهناك طرق كثيرة للسعادة: الزواج، الأطفال، الوظيفة، المغامرة، مساعدة صديق، وإيجاد طمأنينة النفس الداخلية.quot; ويعتقد رتشارد بأن كلمة السعادة هي كلمة مبهمة، مع إنها تعرف الكفاءة التي يعيشها الإنسان كل لحظة من حياته. كما يعرفها علماء الاجتماع بأنها الدرجة التي يقيم الشخص كفاءة حياته ايجابيا، ودرجة حب الإنسان لحياته التي يقودها.
وكتب العالم الفرنسي لوكا كافالي سفوقزا يقول: quot;السعادة لا تأتي عفويا فهي ليست هدية يجلبها الحظ السعيد ويأخذها الحظ التعيس، بل خلق السعادة تعتمد على الشخص نفسه، تبنى تدريجيا بالجهد والمثابرة والصبر يوم تلو اليوم الآخر، ولذلك يحتاج كسبها للجهد والوقت الكثير، ولكي نصبح سعداء نحتاج لمعرفة كيف يمكن ان نغير انفسنا.quot; ويعتقد علماء النفس: quot; بأنه بالعمل الجاد والمضني، لتغذية الانفعالات الايجابية في نفوسنا، يمكنننا من أن نهيئ حقول لزرع ورود السعادة في نفوسنا وأذهاننا، ومع أن الجهد الجسمي له حدوده الفسيولوجية، ولكن آفاق الذهن واسعة، لزرع زهور الحب والطمأنينة والرحمة في القلوب، والتي تجلب الغبطة والسعادة.quot; ويبقى السؤال: هل ستتطور دولنا العربية قاعدة معلوماتية لمعرفة مفهوم السعادة في مجتمعاتنا ونسب انتشارها والعوامل اللازمة لزيادتها؟ وهل سيطور تعليمنا مفاهيم السعادة لتتجنب أجيالنا القادمة الانشغال بنشوة الشهرة والأحلام الكاذبة للقوة والسلطة والغني؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان