من مفكرة سفير عربي في اليابان

هناك قلق كبير بين رجال الفكر وعلماء الاجتماع والطب عن مدى خطورة التأثيرات الجانبية للتكنولوجية الصناعية على تناغم المجتمعات البشرية وعقلية الإنسان وسلوكه وأخلاقياته. وخير من كتب في هذا الموضوع المفكر الأمريكي ألان توفلر، وأبرز سلبيات التكنولوجية الصناعية في كتابه، صدمة المستقبل، الذي صدر في منتصف السبعنيات من القرن الماضي. وقد بحث الكاتب في هذا الكتاب التغيرات المترافقة لتكنولوجية الثورة الصناعية الثالثة وتأثيراتها السلبية على الإنسان، وشرح الأعراض النفسية المرافقة للتطورات التكنولوجية واختراعاتها السريعة والمتكرره، وكيفية تأثيرها على شخصية الانسان وسلوكه وذكائه الاجتماعي والعاطفي.
كما أهتم الممثل والمفكر العبقري البريطاني شارلي شابلن في ثلاثينيات القرن الماضي بموضوع التأثيرات السلبية للثورة الصناعية الثانية، وأبرزها في قصته المشهورة، الأوقات المعاصرة، وقدمها للسينما في عام 1936. فقد أبدع في شرح صراع الطبقة العاملة للبقاء في عالم تكنولوجية الصناعة، بعد أن أستبدل الإنسان بالآليات التكنولوجية، لتنتشر البطالة، فتزداد معضلات الفقر والجوع والمرض، ولينتهي شابلن باتهامه من اليمين المكارثي بالشيوعية، ويطرد من الولايات المتحدة.
فقد اهتمت قصة الأوقات المعاصرة بمشكلة الفقر والبطالة التي عاشتها الولايات المتحدة في نهاية العشرينات، في ما يسمى بفترة الكساد الكبير، حيث اهتز عرش الاقتصاد الأمريكي وتحطمت سوق الأسهم. ويبدأ الفيلم بمشهد لقطيع من البقر يليه مشهد لعدد كبير من العمال يهرولون للعمل بالمصانع، ويعقبه مشهد لرئيس مصنع جالس في مكتبه ويبتلع أقراص لعلاج الإمراض المرافقة لضغوط المجتمع الصناعي، وهو يصدر أوامره الجهنمية للعمال لزيادة إنتاجيتهم. ونشاهد شارلي شابلن في بداية الفيلم كعامل مصنع يثبت بعض البراغي بسرعة متزايدة لترتفع لسرعة جنونية. وحينما يهرب لقضاء حاجته وليشرب سيجارة يكتشفه الرئيس من خلال شاشة المراقبة ويأمره بالرجوع للعمل فورا. وفي فترة الغداء يأتي الرئيس مع مساعديه لتجربة جهاز اتوماتيكي يطعم العمال بسرعة ليقلل فترة الغذاء ويزيد ربحية المصنع. وينتهي الوضع بأن يصاب شابلن بانهيار عصبي فيؤخذ للعلاج في المستشفى. وبعد أن يتعافى ويخرج متمشيا في الشارع، يجد علم سقط من عربة، فيلتقط العلم ويركض به ليرجعه لصاحب العربة، وإذا بمظاهرة عمالية خلفه، فتلقى الشرطة القبض عليه خطاءا، لاعتقادهم بأنه يقيد هذه المظاهرة. فينتهي بالسجن، ويتناول في السجن بعض الكوكائين، معتقدا بأنه ملح الطعام، فتزداد شجاعته، فيفشل عملية هرب بعض السجناء، فتعتبره الشرطة بطلا وتطلق سراحه.
واجهه شابلن صدمة كبيرة بعد خروجه من السجن ليعيش واقع الحياة الصناعية الصعبة وينتهي به سوء حظه للمعاناة من البطالة فيقرر الرجوع إلى السجن. وتأتيه الفرصة المؤاتية التي كان ينتظرها حينما يرتطم بفتاة يتيمة وفقيرة كانت هاربة من الشرطة بعد إن سرقت قطعة من الرغيف. وقد فقدت هذه الفتاة والدها بإطلاق الشرطة الرصاص عليه بعد أن خرج في مظاهرة يطالب بالحصول على عمل ليطعم بناته الثلاث اليتيمات. فقرر شابلن أن ينقد الفتاة اليتيمة ويحقق أمنيته بدخول السجن فأدعى بأنه سرق قطعة الرغيف، ولسوء حظه شهد البعض ببراءته.
وفي محاولته المستميتة لدخول السجن دخل مطعم وأكل الكثير ولم يدفع الفاتورة ونادى الشرطي للقبض عليه، وفعلا قبض عليه. وبينما كانت الحافلة تنقله للسجن التقى بالفتاة اليتيمة سارقة الرغيف في الحافلة. وقد حاولت الفتاة الهرب من الحافلة ففقد السائق توازنه وانقلبت الحافلة فهرب جميع السجناء. وبعد هروبهم من حافلة السجن، يجلس شابلن مع صديقته اليتيمة على بساط الفقر في الحديقة، ويحلم معها بالبيت الجميل والأكل اللذيذ، وينتهي الحلم بمشاهدة شرطي يراقبه مما أدى لهربه مع صديقته.
وتضحك له الدنيا، حينما يرى حارس متجر ينقل للمستشفى، فيدخل على رئيس المتجر طالبا وظيفة الحارس المريض، فيوافق الرئيس على تعينه حارس بديل في المحل. ولم تابى نفسه بأن يعيش في أمان المتجر بعيد عن أقرانه الفقراء، فحول المتجر ملجاء لأصدقائه المشردين، ويكتشف صاحب المتجر سره ويخبر الشرطة للقبض عليه. وبعد عشرة أيام يخرج من السجن فتأخذه صديقته اليتيمة للعيش معها في بيت خشبي مهجور، ويتوفق أيضا في الحصول على العمل في أحدى المصانع. ويصطدم مرة أخرى بالشرطة حينما كان يحاول أن ينقذ رئيسه من العمال المتظاهرين فيرمى به في السجن. وبعد أن يخرج من السجن يكتشف بأن صديقته اليتيمة تعمل راقصة في أحد مقاهي المدينة، وتحاول أن تساعده في الحصول على عمل ليغني معها، فيوافق صاحب المقهى ولكن تكتشف الشرطة مكانهم فيقررا الهرب في شارع المستقبل المجهول، ولتنتهي القصة.
وقد اهتمت الصحافة اليابانية مؤخرا بمخاطر ثورة تكنولوجية تلفون النقال، بعد أن أصبح النقال يلاحق الموطن الياباني كظله في البيت والسيارة والعمل وحتى النزهة، حيث يستخدمه في المراسلات التلفونية ومتابعة التلفزيون وتصفح الانترنت بل وحتى اللعب. كما زاد قلق رجال التربية والتعليم بعد أن وصل نسبة طلبة المدارس الثانوية الذين يحملون النقال لما يقارب 100%، وخاصة بعد أن أرتفع عدد مستخدمي النقال لأكثر من مائة مليون، في بلد لا يزيد عدد سكانه عن المائة والستة والعشرين مليونا. ويتساءل علماء النفس عن مدى خطورة هذه الأرقام اجتماعيا، ومضاعفاتها على التواصل الإنساني والذكاء الاجتماعي والعاطفي، بعد ضياع ساعات من وقت الطلبة، بعيدا عن القراءة والرياضة واللعب والتواصل الاجتماعي مع الآخرين، وهي النشاطات الهامة لتطور الذكاء الذهني والجسمي والعاطفي والروحي للأطفال.
وقد وصفت الصحافة اليابانية ظاهرة استخدام تكنولوجية النقال بثقافة الإبهام، لاستخدام الابهام في عملية تشغيل النقال. ومع أن ثقافة الابهام تساعد في القراءة وجمع المعلومة والاستماع للموسيقى، ولكنها لا تطور التفكير الواقعي للطلبة في مشاكل العالم المعقدة، ولا تحسن القدرات والعواطف اللازمة للتفاعل والتعامل مع تحدياتها. فعادة تحتاج المهارات الاجتماعية الحياتية لتفكير ذهني متميز، ومهارات المخاطبة والتواصل الاجتماعي، والتي هي أساسية لتطوير ذكاء الطفل الشامل، وهو الذكاء الجسمي والذهني والاجتماعي والعاطفي والروحي. وتبين الأبحاث العلمية بأن كثير من الشباب يحسون بأنهم لا يستطيعون الحياة من غير النقال، وهي دلالة على سلوك الإدمان الخطير.
وقد زادت شعبية استخدام النقال بين الأمهات، مما شجع استخداماته بين الأطفال لتحديد جداول المدرسة، ومتابعة الإنذارات ومواقع الأطفال التعليمية على الانترنت. ولنتذكر أيضا بأن شركات الاتصالات يشجعون الأطفال على كثرة استخدام التلفون النقال، لان كل حركة للإبهام تترافق بأموال طائلة في حساب هذه الشركات. وقد يحسس الاطفال كثرة الأسماء بمفكرة نقالهم بتعدد الأصدقاء، وهو احساس كاذب بزيادة مستوى العلاقات الاجتماعية. والحقيقة بأن التواصل التلفوني لا يعوض عن التواصل الاجتماعي اليومي المباشر مع الأصدقاء والتفاعل المستمر معهم. وتؤكد الأبحاث العلمية أهمية ترابط التواصل الإنساني بحركات الجسم وللغة اللسان، وينعدم في المراسلات التلفونية لغة المخاطبة بل تسيطر عليها فن الكتابة، كما تفتقد المكالمة التلفونية لغة المخاطبة المباشرة، بتعابير وجه إنسانية، مهمة في التعبير عن التفاعل الداخلي، وإظهار العواطف الجياشة، وانتقالها للطرف الآخر، بينما ينتقل تفاعل النقال تكنولوجيا والذي لا يدفع الإنسان للعمل لتطوير مهارة المخاطبة، وتوضيح الخلافات، وفن حل الاختلافات، وهي من أساسيات فن التواصل الإنساني. ويعلم تلفون النقال الشباب على نوع من السيطرة الجامدة على حياتهم، بدون التفاعل مع نصائح الوالدين، ولا تطوير شخصيتهم الإنسانية، كإفراد مسئولين في المجتمع.
ولنتذكر بأن إرسال رسالة بالنقال هي كالنظر للمراءاة والذي يكرره المراهقون بكثرة، وخطورته بأن الكثير من الشباب لن يخرجوا من شرنقة راحتهم التكنولوجية. وقد يبدو للبعض بأن كل ذلك غير ضار، ولكن في الحقيقة هو أن الانشغال في مكان ما يعني عدم الانشغال بمكان أخر. فقضاء ساعات كثيرة يوميا مع النقال وبدون تواصل أنساني مباشر وبدون المخاطبة هو ضياع مأساوي للوقت. فقد يبدوا بان النقال تمثال للاستقلالية والتفاعل، ولكن الاستعمال المدمن قد يخفق في خلق الإحساس العميق بذاتية الفرد. وقد اختتمت صحيفة اليابان تايمز أحد افتتاحيتها بالقول: quot;ومع أن التكنولوجية مشهورة بالتكيف، ويمكن الاستفادة من النقال لمساعدة الشباب في التفاعل مع مشاكل العالم لا الابتعاد عنها، ولكن يحتاج ذلك لعمل جاد لتطوير هذه التكنولوجية وليس السيطرة عليها.quot; والسؤال لعزيزي القارئ هل تحتاج دولنا العربية لدراسة مدى انتشار تلفون النقال بين الطلبة وتأثيره على ذكائهم الجسمي والذهني والعاطفي والاجتماعي والروحي؟ وهل سنعمل للوقاية من سلبياتها بدون أغلالها بقيود السيطرة؟
سفير مملكة البحرين في اليابان