من مفكرة سفير عربي في اليابان

ناقشت مجلة النيوزويك الأمريكية في عددها الصادر يوم السادس عشر من يوليو الماضي (2012) جنون الأنترنت وتحت عنوان quot;هل الانقضاض على الانترنت يسبب الجنون؟quot; عرضت المجلة أبحاث كثيرة من جامعات مرموقة، كجامعتي ستانفورد وأكسفورد، تؤكد على مخاطر استخدام وسائل التكنولوجية للتواصل الاجتماعي في الانترنت من خلال التويتر، والبريد الالكتروني، والمراسلات التلفونية، على العقل البشري، وخاصة مع ما ترافقه من ظاهرة الإدمان، التي تترافق بتغيرات في المخ، مشابهة لتغيرات الادمان على المخدرات. فتبين الاشعة المقطعية في هؤلاء المدمنين على تكنولوجية التواصل الإجتماعي، ضمور بارز في بعض مناطق المخ المتعلقة بالمحادثة، والتفكير، والتحليل. وتؤكد الابحاث العلمية بان الإدمان على التواصل التكنولوجي من خلال الانترنت قد يؤدي لأمراض نفسية خطيرة، كالكآبة، والذعر، والذهان، بما يرافقه من هلوسة، وهذيان، وانفصام الشخصية، وعقدة العظمة، واضطراب التركيز الذهني. وقد يتعرض مخ المدمنين على تواصل الإنترنت لتحولات الذهن الالكتروني، لتشبه التغيرات الملاحظة في مخ المرضى المدمنين على المخدرات.
لقد تضاعفت ساعات التواصل الأكتروني خلال العقد الماضي لتصل لحوالي الاحدى عشرة ساعة يوميا، كما أن ثلث المستخدمين الإنترنت يبدءون تواصلهم الإلكتروني قبل ترك السرير صباحا. ويقدر متوسط المراسلات الالكترونية للفرد في الدول المتقدمة بحوالي 400 مراسلة شهريا، وتزداد متوسط هذه المراسلات بين المراهقين لحوالي 3700 مراسلة الكترونية شهريا، كما أن ثلث هؤلاء المراهقين يحسون بما يسمى اهتزاز التلفون الكاذب. فيبدو بأن الحدود بين الإنسان والتكنولوجيا بدأت تتلاشى، بل بدأت الثقافة الالكترونية تغير العقل البشري، وسلوكه، وطريقة تفكيرة، ونوعية تواصله الاجتماعي. ويبقى السؤال لعززي القارئ: هل فعلا يسبب التواصل الإلكتروني تخلف الذكاء الإجتماعي؟
تعلق استاذة علوم الصيدلة بجامعة اوكسفورد، البروفيسورة سوزان جرينفيلد، على هذا السؤال بقولها: quot;هذا الموضوع مهم بأهمية التغيرات المناخية.quot; ويحاول البروفيسور بتر واي برو الإجابة على هذا السؤال بقوله: quot; الكوميبوتر هو كوكائين الكتروني يغذي العقل بدورات من الهوس والكآبة، كما أن الانترنت يؤدي لسلوك مضر يجمع بين القلق والتصرفات القسرية.quot; ويعتقد البروفيسور لاري روزن، بأن الإنترنت: يغير السلوك البشري فيعزز التسلط، والاستحواذ، والتبعية، ويزيد من الانفعالات العاطفية، ويسبب الإرهاق والقلق المزمن، ويشجع ويعزز الجنون النفسي. كما تؤدي تكنولوجية الانترنت المتحركة للإدمان وترافقها أمراض نفسية خطيرة.
وقد بدأت المراجع العلمية النفسية تضيف امراض تكنولوجية الانترنت المتحرك لقائمة الامراض النفسية، وقبلت دول كالصين وكوريا وتيوان بالتصنيف الطبي الجديد، وبدأت تؤسس مراكز طبية نفسية لعلاج امراض تكنولوجية الانترنت المتحرك، حيث هناك عشرات الملايين من مرضى الادمان على الإنترنت. كما أن هناك قصص غير متوقعة نتيجة للاستخدامات العائلية للإنترنت. فمثلا، ذكرت الصحافة الكورية عن عائلة اهملت تغذية طفلها حتى الموت، بعد أن انشغلت بتغذية صورة طفلها التكنولوجي الوهمي على الانترنت.
وتبين الابحاث الطبية تغيرات حقيقة في المخ هؤلاء المرضى، من ضمور في مراكز المخاطبة والتفكير الذهني وذكاء التواصل الاجتماعي، لتغيرات في مركز السلوك والعاطفة والإحساس والحركة. وقد زادت نسبة هذه الامراض النفسية بنسبة 66% خلال العقد الماضي. ومن الأعراض المبكرة للإدمان التكنولوجي هو قضاء اكثر من 38 ساعة على الانترنت اسبوعيا، ويستمر هذا الضمور العقلي مع استمرار الاستخدام. فبالاعتماد المستمر على وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية يفقد الإنسان الكثير من قدرات التواصل الاجتماعي، ويؤدي ذلك لتخلف الذكاء الاجتماعي بذاته.
وليسمح لي عزيزي القارئ بمقدمة علمية حول هذا الموضوع. يتميز العقل البشري quot;باللدانة،quot; وهي تسمية لعملية تغير عصبية مستمرة في مخ الإنسان، استجابة لخبراتنا وسلوكنا، لينظم المخ دوائر شبكاته العصبية، مع كل أحساس، وفعل، وتواصل، وحافز، وخطة عمل، أو تغير في الوعي. ويعتقد العالم النفسي، باسكول ايون، بأن quot;اللدانةquot; أهم نتاج لعملية التطور الطبيعي، quot;ميزة تمكن الجهاز العصبي للهروب من محدودية الجينات الوراثية، ليتكيف مع التغيرات البيئية، والتحديات الحيوية، والخبرات اليومية.quot; وتحدد عبقرية تركيبة عقولنا في أنها لا تحتوي على أسلاك شبكة كهربائية ثابتة، بل تتكون هذه الأسلاك من شبكات نسيج متغيرة، لتتعامل مع التغيرات المستمرة، وقد وفرت هذه الميزة لنا عملية تطور مخ متغير ذهنه مرة بعد أخرى. ومن المهم أن نعرف بأن عملية تفكيرنا وإحساسنا وأفعالنا لا تتحدد كلية بجينات مورثاتنا، ولا بخبرات طفولتنا فقط، بل أيضا نغيرها بالطريقة التي نعيش فيها، وبالتحديات التي نواجهها، وبالأدوات والأجهزة التي نستخدمها.
وقد وجد الباحث النفسي، ادوارد توب، بأن المراكز العصبية في المخ المسئولة عن السيطرة على أصابع يد عازفي الفيولين أكبر حجما من المراكز العصبية في الناس العاديين. فقد غيرت آلة الفيولين بنية المخ في هؤلاء العازفين. ودرس العلماء أيضا كيفية تأثير الآلة على تركيبة مخ الحيوانات، حيث دربوا مجموعة من القردة للأكل بالكماشة، واكتشفوا نمو كبير في مراكز المخ المسئولة عن التحكم في اليد الحاملة للكماشة، واستنتجوا بأن الكماشة اندمجت في خارطة مخ القرد، لتصبح الكماشة، بالنسبة لمخه، جزءا من الجسم، quot;ليتصرف مخ القرد، كأن الكماشة هي أصابع يده الجديدة.quot;
ويبدو بأنه مثل ما يغير تكرار العمل العضلي شبكات عقولنا، يغير النشاط الذهني هذه الشبكات العصبية أيضا. فقد قام فريق من الباحثون في جامعة لندن في التسعينيات من القرن الماضي، بتصوير مقطعي لمخ 16 سائق أجرة، لديهم خبرة السياقة في شوارع لندن، تصل إلى 42 سنة، فوجدوا بأن الجزء من المخ المسئول عن التعامل مع المحيط الفضائي للإنسان، والمسمى بالهيبوكامبس، والمرتبط بالمعرفة الدقيقة لخارطة مدينة لندن، أكبر بكثير من حجمه الطبيعي، وترتفع نسبة زيادة الحجم هذه بزيادة سنوات الخبرة في السياقة. كما قام البروفيسور، باسكول ليون، بتعليم مجموعة من الأشخاص المتطوعين للعزف على البيانو، وقسمهم بعد ذلك لقسمين، طلب من القسم الأول بأن يتدرب على مقطوعة موسيقية لمدة ساعتين كل يوم ولخمسة أيام، بينما طلب من الفريق الآخر أن يجلس أمام البيانو، ويتصور بأنه يتدرب على المقطوعة الموسيقية، بدون أن يلمس مفاتيح البيانو. وقام الباحث بفحص مقطعي لمخ المجموعتين قبل وبعد التجربة، فوجد تغيرات في المخ متشابه تماما في المجموعتين، فقد تغير المخ استجابة لعمل عضلي بالعزف على البيانو، وعمل فكري بالتخيل بالعزف على مفاتيح البيانو. والجدير بالذكر بأن quot;اللدانةquot; تختلف عن المرونة، فشبكات المخ العصبية لا ترجع بسهولة كما كانت كرباط المطاط. ويعني ذلك بأن تعلم العادات السيئة والأفكار المتطرفة يمكن أن quot;تنحتquot; عقولنا، كالخبرات والأفكار الجيدة، فكما يمكن أن تكون اللدانة آلية للتطوير والتعليم، يمكنها أن تكون سببا للتطرف والتعصب والإرهاب والأمراض العصبية والنفسية، ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان