من مفكرة سفير عربي في اليابان

يبدو بأن حراك الإسلام السياسي سيكون له دورا مهما في التطورات المستقبلية لإرهاصات ثورات، ما يسمى، بالربيع العربي، وعلى قياداتها مسئولية القرار في اختيار نموذجا لنظام حكم معاصر، يحقق لشعوب بلادها التنمية الاجتماعية والاقتصادية والروحية، وهي أمام نموذجين للاستفادة منهما لتطوير تجربتها العربية، وهما النموذج الثوري الإيراني، والنموذج الإصلاحي التركي. وقد درسنا سابقا مع عزيزي القارئ تجربة الثورة الإيرانية، وسنحاول معا مراجعة هادئة، غير انفعالية، حكيمة، وبموضوعية متجردة، وبمقياس تقيم أكاديمي علمي، غير ديني، ولا طائفي، لكي نناقش تجربة تاريخ معاصر، غير مرتبطة مباشرة بأمور العبادة الدينية، بل مرتبطة بتحقيق نجاح دنيوي في أمور حياتية سياسية واقتصادية وإدارية، وهي تجربة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التركية.
منذ أن تحررت دول الشرق الأوسط من الاستعمار العسكري، تحاول شعوبها إيجاد طريق مستقل لتحقيق تنميتها الاجتماعية والاقتصادية والروحية. وقد طرحت الحركات السياسية، في القرن الماضي، أيديولوجيات متعددة للتغير، كدكتاتورية الحزب الواحد بالشيوعية، والاشتراكية، والقومية، وديمقراطية الأحزاب المتعددة، باللبرالية الرأسمالية. وقد نجحت بعض هذه الأحزاب للوصول للحكم بالثورات والانقلابات، لتحكم جميعها باسم الطبقة الكادحة، وبشمولية نظرية الحزب الواحد. وقد صدمت هزيمة عام 1967 شعوب المنطقة، وأدت لردة فعل عنيفة بين الشباب، لتدفعهم للبحث عن حلول جديدة لتحديات حياتهم اليومية، فلم تتأخر المعارضة في طرح quot;أيديولوجيةquot; الدين السياسي هو الحل. وقد بدأت هذه الأيديولوجية مع بدايات القرن العشرين، بتأسيس حركة الأخوان المسلمين، وقوى عودها بعد تجربة الثورة الإيرانية في عام 1979، ودعمتها الإصلاحات الأخيرة في النظام التركي.
لقد حلمت تركيا على مر السنين بأن تكون عضو في الاتحاد الأوربي، ويبدو بأن أحلامها بدأت تتلاشى رويدا رويدا، بعد أن اكتشفت دورها القيادي في منطقة الشرق الأوسط، كدولة أسيوية-أوربية أسلامية مهمة استراتيجيا للولايات المتحدة. فالإدارة الأمريكية مهتمة ببقائها بحلف الناتو، وبأن تكون عضوا بارزا في الاتحاد الأوربي، بينما يريدها الغرب الأوروبي أن تكون مثلا للدول الإسلامية المعتدلة، ليؤكد بأن النظم الديمقراطية العلمانية في الدول الإسلامية يمكن أن تكون ناجحة، كما أن جسور العمل المشترك بين الدول الإسلامية والغرب قد تكون مفيدة ومنتجة لنقل التطور التكنولوجي والعلوم المتقدمة الغربية. وقد كان نجاح نيكولاس سركوزي للرئاسة الفرنسية عائقا أضافيا للأحلام التركية والأمريكية، كما كان الخلاف حول اختيار عبد الله غول رئيسا لتركيا، حجرة عثرة جديدة للمشاركة الأوربية.
لقد حلل الكاتب بيتر بيمونت بجريدة اليابان تايمز، بتاريخ الحادي عشر من مايو 2007، أسلمت التجربة التركية فكتب يقول: quot;سيصوت الشعب التركي للانتخابات المعلنة لنزع فتيل الأزمة السياسية والدستورية، التي كادت أن تربك الدولة التركية، وقد يكون الخلاف حول حجاب الرأس والمرأة التركية المعاصرة... والحقيقة بأن المواجهة خلال الأسابيع الماضية حول تعين عبد الله غول يلمس خيوط معيبة عميقة اجتماعية وسياسية...والخلاف هو صراع على السلطة السياسية، وهو صراع طبقي، بقدر ما هو عن الإسلام. وقد نتفهم هذه المواجهة بملاحظة الضواحي المتزايدة حول اسطنبول خلال الأربعين سنة الماضية. فقد توجه القرويون إلى المدينة ليقطنوا في العمارات الكبيرة. وفي هذا العمارات تعيش تركيا الجديدة والقديمة في منافسة شديدة، والممثلة للدائرة الانتخابية الجديدة لحزب العدالة والتنمية الإسلامي، المعروف ببرنامجه النشط للحصول على عضوية الاتحاد الأوربي، وجذب الاستثمارات الأجنبية..ويشكك إحسان داغي الصحفي بجريدة زمان التركية، بأن تركيا متجه نحو التطرف الإسلامي، بل يعتقد بأن القضية الأساسية هي ظهور طبقات جديدة كانت بعيدة سابقا عن الحياة الاقتصادية والسياسية، والتي بدأت تهدد مصالح النخبة المعروفة بارتباطها بالمثاليات العلمانية...وقد أصبحت المجموعات الإسلامية جزءا من النسيج التركي السياسي والاجتماعي المعاصر، و يحاول من في السلطة من العلمانيين إقصائهم وبقوة. وحتى ظاهرة حجاب الرأس، هي مؤشر بأن المرأة التركية، من الفئات الفقيرة، بدأت تأخذ مواقع اجتماعية وسياسية بارزة، ومن الضروري أن يعتبر ذلك انتصارا للجمهورية.quot;
وقد أكد الاستفتاء الشعبي الذي أجراه مركز الأبحاث quot;تيسيفquot; هذه الحقائق، فقد كشف بان 22% من العينة تتصور بان العلمانية في خطر بتركيا، وفقط 8% منها أبدت تفضيلها لدولة إسلامية. كما وضحت الدراسة بأنه كلما كان الشخص متعلما وثريا كلما زاد تخوفه على خطورة الوضع على العلمانية التركية. وأكدت الدكتورة نلوفر نارلي بأن الموضوع اكبر من قضية حجاب الرأس، بل تعتبر هذه التغيرات إرهاصات اجتماعية بقدر ما هي دينية. وتؤكد الإحصائيات بأن هناك زيادة كبيرة في الطبقات الفقيرة المتوسطة في تركيا، كما بدء تحرك عدد كبير من أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة مع عائلاتهم، المحافظة والمتدينة، نحو المدينة. وقد استفادت هذه الفئات من النمو الاقتصادي المستمر بسرعة. وقد لاحظت نارلي التغيرات في العادات الاجتماعية للنساء المتدينات، فقد كان نساء القرى الفقيرة ترتدي المعطف الطويل الذي يغطي جميع أجزاء الجسم، بينما تلاحظ الآن بأن هؤلاء النسوة يلبسون موضات مختلفة وضيقة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل quot;تأسلمquot; المجتمع التركي؟ أم أن تطور الوضع الاقتصادي للعائلات المسلمة الفقرية أدى لبروزها، لتأخذ مواقعها الاجتماعية والسياسية في المجتمع، وتتأثر بالحداثة؟quot;
ونلاحظ أيضا بأن هناك صراع سياسي اقتصادي في مجتمعاتنا العربية بما يتعلق بالحركات السياسية والإسلام والحداثة. فقد أخذت تتقدم الفئات الفقيرة في مواقعها الاجتماعية والاقتصادية، بعد أن أصبحت متعلمة ومتخصصة، وبعد العيش سنوات طويلة في المجتمعات القروية، بعاداتها الاجتماعية، والتزاماتها الدينية. ومع تطور المجتمعات والتوسع في المدن، بدأت هجرة هذه القوى البشرية الفقيرة نحو المدن المتطورة اجتماعيا وتكنولوجيا، ليؤدي ذلك لتوسيع مداركهم ورفع مستوى تفكيرهم وثقافاتهم. فقد خرجت هذه الفئات من عزلة القرى، وبدأت تتفهم السياسة والمفارقات الطبقية الحادة في مجتمعاتها. كما بدأت ترتبط بعض الحركات السياسية الدينية بواقع هذه الفئات الديني والاجتماعي، بعد أن اهتمت بالأعمال الخيرية، وأخذت تتكلم وتفكر بنفس طريقتهم، بل وتتعايش معهم. ومن المعروف بأن الكثير من هذه الفئات من الطبقة البسيطة، ذوي الدخل المحدود، وتواجهه ضغوط حياتية صعبة، ومع التطور الديمقراطي بدأت تلعب دورا، بجماهيرها الغفيرة.
ولنقارن عزيزي القارئ التجربة التركية مع تاريخ التجربة اليابانية، فقد تستفيد منها الحركات السياسية العربية، لتعمل بإنتاجية لتطوير اقتصاد بلادها والواقع الاجتماعي، ولتبتعد عن أخطاء الصراعات الأيديولوجية التي عانى منها الغرب، حينما توجهه الدين نحو العمل السياسي. فقد عانت اليابان عبر العصور من تداخل الدين والسياسة مما أدى لمجابهات عنيفة، وحروب عديدة بين رجال السياسة، ورهبان المعابد البوذية، والكنائس المسيحية. وبعد الحرب العالمية الثانية فصل الدستور الياباني الدين عن الدولة، وتوجهت البلاد نحو البناء والتصنيع. وفي عام 1956، نجح في الانتخابات البرلمانية ثلاثة من رجال المؤسسة الدينية البوذية المسماة، بالسوكا جاككي، وشكل هؤلاء الثلاثة حزب الكوميتو في عام 1964. وقد نجح هذا الحزب بانتخابات عام 1967 بشكل ملفت للنظر، حيث حصل على خمسة وعشرين مقعدا في البرلمان، وأصبح بين ليلة وضحاها ثالث أكبر حزب في اليابان، ليتحالف مع الحزب الشيوعي الياباني في عام 1975 ويشكل حلف سوكوي. وقد حل هذا الحزب في عام 1994، وامتصت جماعته ضمن حزب شنشنتو. وفي عام 1998 نشط حزب كوميتو من جديد، ودخل في عام 1999 الحكومة وتحالف مع الحزب اللبرالي الديمقراطي الحاكم في ذلك الوقت. وقد عمل هذا الحزب الديني بحكمة، وحافظ على مواقعه في البرلمان والحكومة حتى اليوم. وقد فصل هذا الحزب ارتباطه بمؤسسته الدينية البوذية، سوكا جاككي، القوية، ليفصل العمل السياسي عن المؤسسة الدينية، فعمل بذكاء بالتزامه بالدستور الياباني، الذي يمنع الخلط بين الدين والسياسة، فأعطى قيادته السياسة المجال للمناورة السياسية الذكية، وجنب مؤسسته الدينية من الانتقاد والمحاسبة السياسية.
وقد يمثل تطور التجربة السياسية الدينية التركية المعاصرة حزب العدالة والفضيلة، بعد أن فصل النظام التركي في عام 1923 الدين عن السياسة، حينما أصبح كمال اتاتورك رئيسا للجمهورية العلمانية الجديدة، وأستعد الجيش التركي بالمرصاد لأي تدخل ديني في السياسة. كما نص دستور عام 1982، في مادته 24، بأن مسألة العبادة مسألة شخصية فردية، لتبقى الجماعات والمنظمات الدينية محرومة من التمتع بأية مزايا دستورية. وحينما حكم تركيا الزعيم الإسلامي الهوية، تورغت أوزال، من عام 1983 حتى عام 1993، أقتنع بأن نموذج أتاتورك في نظام الحكم قد انتهى عمره الافتراضي. وحينما جاء بعده للحكم نجم الدين أربكان، بهويته الإسلامية أيضا، حاول أن يجري بعض التغيرات في المجال الداخلي والخارجي، فلم ينجح، ليجبر على الاستقالة بعد سنة واحدة من حكمه. وقد برزت الحركة الإسلامية التركية من خلال حزب العدالة والتنمية، عندما استقال المجددون الإسلاميون المعاصرون من حزب الفضيلة في عام 2001، ورفعوا شعار الاعتدال في السياسة، والفكر، والسلوك، واتجهوا لخدمة الشعب اقتصاديا واجتماعيا، وبعيدا عن الفساد، وتصرفوا بحكمة لتجنب المجابهات والصراعات الإيديولوجية، وتعلموا فلسفة الهدوء أمام العواصف، والعمل في صمت، والتركيز على الأولويات، فأبتعدوا عن الاستفادة من إثارة عواطف الجماهير الدينية، كما امنوا بصدق بالديمقراطية، فعملوا بتناغم ضمن أسس الشفافية والحوار والتعاون، للتعامل مع الفقر والجهل والبطالة. كما أبتعدوا عن مواجهة المشكلات المتعلقة بالبناء الفوقي للمجتمع، وأكدوا على المصالحة الاجتماعية والحوار والتعاون والابتعاد عن العنف والمجابهة.
وقد وصف الدكتور عبد الله التركماني فلسفة حزب العدالة والفضيلة بقولة، quot;هي أطروحة فكرية سياسية للإسلام سياسي حديث، متولدة عن حراك اجتماعي عميق، وجدل ثقافي متفاعل ما بين التراث والحداثة...ويعلن التزامه الكامل بالعلمانية، ويفصل الدين عن السياسة، وذلك لا يعني فصل الدين عن المجتمع أو الدولة. فالخلط بين الدين والسياسة يضيرهما معا، فالمبدأ الديني محصن بطبيعته من أي تغير، أما السياسة فتتغير باستمرار استجابة للواقع...فعلمانيتهم غير معادية للدين، ولكن أيضا هي علمانية مؤمنة، تقر بأهمية القيم الدينية في تحقيق الرقي الاجتماعي. كما أن علمانيتهم لا تتنكر للهوية الإسلامية للمجتمع التركي، وهي تندرج ضمن مقاربات تهدف إلى إعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة، بعيدا عن كل أشكال التنازع أو التوظيف، ويعطون أهمية للسلوك الأخلاقي الإسلامي، ويشجعون التدين، دون أن يحصروا وظيفتهم داخل هذا الإطار. ..ويطرحون ديمقراطية علمانية لا تعادي الدين بل تستوعبه....حيث أعلنوا التزامهم الكلي بقواعد التعددية السياسية...وأعلنوا على عزمهم على حماية حقوق الإنسان، وعدم التدخل في الحياة الخاصة للمواطنين، أو التعسف بتغير نمط حياتهم عن طريق سلطة دولة...وبذلك أثبتت بأنها حركة إسلامية ناضجة، قادرة على التعامل العاقل مع القوى والتجمعات الحديثة، والمشكلات المركبة القومية والإقليمية والعالمية.. وإنها قادرة على عقد الصفقات المفيدة للجميع، كما أنها قادرة على قيادة شعبها قيادة حكيمة بدون تطرف..وفي اتجاه الانضمام الايجابي الفعال إلى المجتمع الدولي.quot;
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ستراجع الحركات السياسية الدينية الشرق أوسطية تاريخها، وفلسفة عملها، وبرامجها، وأسلوب تعاملها مع الحداثة، والعلمانية، والتحديات المستقبلية الوطنية والإقليمية والعالمية؟ وهل ستتدارس التجربة التركية المعاصرة، وتحاول تجنب أخطائها، والاستفادة من ايجابياتها؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين باليابان