من مفكرة سفير عربي في اليابان

ليسمح لي القارئ العزيز، أن أهنئ الحكومة البريطانية، على تعاملها، بحزم، وصرامة، مع أزمة العنف التي شاهدتها المملكة المتحدة، خلال الأسبوع المنصرم، بعد أن أكد رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، بأنه إن لم تستطع الشرطة السيطرة على الوضع، فسينزل الجيش في الشارع، للتعامل مع الأزمة. وقد أنصدم العالم، من ما شاهده من حرائق وعنف، في قلب عاصمة الديمقراطيات اللبرالية الغربية العريقة، لندن، والتي وصفتها الصحافة اليابانية بأنها حوادث عنف لم تعيشها بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية. وقد حذرت قيادة حزب المحافظين بأن جرائم العنف اللاأخلاقية، يجب أن يحاسب عليها مرتكبيها بقسوة، مع ضرورة زيادة الصرف على الأمن، وبناء سجون جديدة، إن لزم الأمر. ومع إننا لا نختلف بأن محاسبة المجرم، التي تثبت المحكمة إدانته، واجب مجتمعي أخلاقي، للمحافظة على استقرار المجتمع، وأمنه، وسلامته، وتنميته، ولكن نستغرب تناسي بعض هؤلاء السياسيين، الظروف التي هيئت هؤلاء الشباب، لممارسة هذه الجرائم، وذلك لمعالجتها، والوقاية من تكرار عنفها الإجرامي، ولنتساءل: هل يولد الإنسان مجرما بطبعه وبمورثاته، أم أن الخالق، جل شأنه، خلق عقل بشري يمقت الجريمة، يتعاطف مع جنسه، ويلتزم بالأخلاقيات الإنسانية؟ ألم يعلمنا مفكرو الغرب بأن ديمقراطيتهم اللبرالية، تقي من العنف، وتخلق الاستقرار، والأمان؟ فما الذي حدث لينتشر عنف الشباب في انتفاضة عولمة، بدأت من ديمقراطيات الغرب العريقة، وامتدت للشرق الأوسط؟
أدت الرأسمالية الفائقة الغربية، بخصخصتها المتوحشة، ومغامراتها في سوق البورصة، لزيادة أسعار الغذاء، والماء، والطاقة، كما عرضت تشريعاتها الجديدة حقوق العمالة الوطنية لاضطهاد غير مسبوق، مما أدى لسهولة تسريحها، لزيادة أرباح مساهمي الشركات، ولتؤدي لتجاوز نسب البطالة بين بعض شباب الغرب 40%، بعد أن انتقلت الكثير من الشركات والمصانع إلى الشرق، لتوفر قوى العمالة الرخيصة. كما أدت خلق المؤسسات المالية الغربية بدعة القروض الإسكانية المعقدة، وتلاعب سوق البورصة بأسهمها، لأزمة عام 2008 الاقتصادية، التي خسرت العالم 40% من ثرائه، واضطرت دول الغرب صرف مئات المليارات لإنقاذ مؤسساتها المالية من الإفلاس، ومنع انهيار نظامها الرأسمالي. وقد أدى كل ذلك لتراجع وكساد اقتصادي، ولزيادة النقمة الشعبية ضد الحكومات، فاندلعت ثورة حزب الشاي في الولايات المتحدة، وفوضى عنف الشوارع ضد سياسات التقشف في أوروبا، وامتدت مع وسائل الاتصالات التكنولوجية إلى الشرق الأوسط، ويبقى السؤال: أليس لهذه الأحداث علاقة بتنفيذ رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، مارجريت تشر، والرئيس الأمريكي السابق، رونالد رجين، لنظريات عالم الاقتصاد، ملتون فريدمان؟ وما هي نظريات هذا البروفيسور الأمريكي؟
فرضت نظريات بروفيسور جامعة شيكاغو، ملتون فريدمان، بأن الحكومة سبب مشاكل الدولة، وليست وسيلة لحلها، لذلك هناك حاجة لخفض مسئولياتها، وتحويلها جميع خدماتها، من إدارة الحدائق، وإلى الرعاية الصحية والتعليمية وضمان البطالة والتقاعد، وحتى توفير الحماية الدفاعية، للقطاع الخاص. كما أكد فريدمان ضرورة تحرير سوق العولمة من الأنظمة والقوانين، لتلعب اليد الخفية للسوق دورها، فتسرح العمالة الوطنية الغير مربحة، لتزيد الأرباح، وينتعش الاقتصاد. وقد بدأت السيدة مارجريت تشر في السبعينيات نضالها ضد الرأسمالية البريطانية ذي المسئولية المجتمعية، بعد أن وصلتها تبرعات الشركات الغربية العملاقة لدفة الحكم، فحاربت النقابات العمالية، ونجحت في إلغاء الكثير من التشريعات التي تحمي القوى العاملة، لتتحول بذلك خفض الأجور، وتسريح العمالة، من ضمن الخطط الشرعية لزيادة أرباح الشركات الخاصة. وقد استلمت، مؤخرا، الأحزاب المحافظة بعض برلمانات دول الغرب، لتزيد من قرارات التقشف، فرفعت أسعار التعليم في الجامعات والمدارس، وخفضت المعونات الاجتماعية لمحدودي الدخل، كما ارتفعت نسب البطالة بين الشباب، وقد أدى كل ذلك لغضبهم وانتفاضتهم quot;الحارقةquot;. ويبقى السؤال المحير: هل ستؤدي حرائق لندن لإصلاحات عولمة سياسية واقتصادية مستقبلية؟ وهل ستحقق تشريعات عالمية، تحافظ على حقوق القوى العاملة، لتقلل البطالة، فتقي من الانتفاضات والثورات السلمية والدموية؟
قبل أن نبدأ الحوار دعونا نتفق على مفهوم الإصلاح، فقد تعطي كلمة الإصلاح معنى خاطئ، بأن الماضي كان طالحا، ولم يتحقق شيء، وجاء الوقت لإصلاحه، وهذا ما لا نرجو أن نتصوره أو نطرحه، ففي الواقع بأن التطور المستقبلي هو استمرارية لإنجازات الماضي، فالحضارة المعاصرة ما هي إلا تراكم للحضارات الإنسانية السابقة، في مصر، والعراق، والهند، واليونان، وبلاد الروم، والفرس، والصين، وأمريكا اللاتينية، فقد ساهمت جميع هذه الحضارات في التقدم والتطور البشري الذي نعيشه اليوم. كما أن العمل لبناء المستقبل، اعتمادا على ما تم من انجازات الماضي، يحمي وحدتنا من التفتت، ويوجهنا للعمل بيد واحدة متناغمة، لنبارك المنجزات التي حققها السابقون بجهودهم وعرقهم، فنبتعد عن تضيع الوقت في الإساءة واتهام بعضنا البعض. كما نحتاج لتقدير كل ما تم من تقدم وتطور في منطقتنا، بالرغم التحديات الصعبة التي عانت منها منذ الحكم العثماني وحتى مرحلة الاستعمار، وما رافقته من النكبات والحروب، وما تبعته من أفكار شاذة، وأحزاب معارضة دموية متطرفة. فلنفهم مصطلح الإصلاح بأنه تعبير عن استمرارية التطور من مرحلة إلى أخرى، والبناء على ما تم من انجازات، وقد نحتاج أن ندرس بعض تجارب الإصلاح في اليابان وماليزيا وسنغافورة والصين وروسيا. فقد كانت تجربة الإصلاح السوفيتية مؤلمة، بمحاولتها الفجائية، والغير مدروسة، لتقليد الإصلاحات الغربية السياسية، بينما استفادت الصين من أخطاء تلك التجربة، فبدأت تطورها بإصلاحات اقتصادية تدريجية، وألحقتها بإصلاحات سياسية هادئة ورصينة، بدون أن تقلق من quot;شوشرةquot; الغرب، فكانت تجربتها ناجحة، ومن المتوقع أن يتجاوز الاقتصاد الصيني الاقتصاد الأمريكي في منتصف هذا القرن. وقد تستفيد منطقة الشرق الأوسط من التجارب الأسيوية لتحقق إصلاحات حداثة معاصرة، بالرغم من قلق البعض من تقليد الإصلاحات اللبرالية الغربية، وتساؤلهم بأنه بعد سنوات طويلة من السياسة المجتمعية التقليدية، بقيادة النخبة، كيف ستنتقل المسئولية، فجأة، إلى نواب برلمانات منتخبة، تنقصهم الخبرة، كما أن هناك تخوف من ترسبات قهر وانتقام سابقة، قد تقيد دفة البلاد، واقتصاده، لعالم مجهول.
لقد حاولت التجربة الديمقراطية البريطانية، واليابانية في البدء، أن تراعي هذا القلق، وتخلق التوازن، فقررت أن تقسم البرلمان إلى قسمين، مجلس منتخب من الشعب، ومجلس آخر معين من خيرة خبرات البلاد، المخلصة، والمتفق عليها. وقد خلق هذا التصور توازن بين الإصلاح السياسي التدريجي، واستمرارية المحاسبة، لخفض نسب الفساد، وتحقيق التنمية. ولا شك بأن مسؤولية السلطة، والحكم، تحتاج للخبرة، كما أن التطورات المجتمعية، والديمقراطية، تحتاج للوقت، لتتم تطوير خبراتها بشكل متوازن سليم. ولنتذكر بأن التفكير الثوري الانفعالي، المتميز بهدم الماضي، فشل خلال العصور أن يبني المستقبل، بل ترافق في كثير من الأحيان بأنظمة أسوء، وكما قالها أحد الفلاسفة الإيرانيين: quot;درست تاريخ الثورات في العالم، ولم أجد ثورة لم تأكل أطفالها،quot; ويؤكد ذلك خبرات التاريخ السابقة مع الثورات والانقلابات في إفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية. كما أكد البروفسور أدوارد دبونو، في كتابه، التفكير المتوازي: بأن نطبق نظرية إزالة السيئ لتبقى الروائع، سيؤدي للفوضى وقد يتحول الوضع لأسوء من ما قبله، لذلك هناك حاجة لتطور تفكير تنفيذي بناء، لا تفكير ثوري هدام، يساعد على الإصلاح التدريجي، اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا. كما يمكن أن نستفيد من التجربة اليابانية في المحافظة على وحدة الشعب من خلال قيادته، والاستمرارية في الحداثة والتنمية، وبدون الصراعات على رموز وحدة البلاد، فالعائلة الإمبراطورية اليابانية رمز لوحدة الشعب الياباني، ومنذ أكثر من ألفين وستمائة عام. وقد نواجه مشكلة أخرى وهي اختيار نوعية النظام الاقتصادي، نظام رأسمالي أم اشتراكي، أم نظام طريق ثالث يجمع بين خير الاثنين، ويتجنب مساؤهما، لنستطيع الإجابة على الأسئلة التالية: هل سنحتاج لمجتمع يكون فيها حقوق الفرد مكفولة في ملكية البيع والشراء؟ وهل سنحتاج لنظام تجاري يوفر البضاعة والخدمة، بتنافس عادل، ضمن تشريعات منظمة؟ وهل سنشجع الإبداع التجاري بين شبابنا لخلق فئة شابة تمتلك شركات ومصانع صغيرة؟ وهل سنحافظ على المنافسة الحرة المنضبطة لتطوير الإبداع؟ وكيف سيكون وضع الفقير في عالم التنافس؟ وهل ستحافظ الدولة على مسئولياتها في الأمن، والدفاع، والتعليم، والرعاية الصحية والاجتماعية، وضمان التقاعد والتعطل؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان