من مفكرة سفير عربي في اليابان
سفير مملكة البحرين في اليابان

كتب أستاذ العلوم الدولية بجامعة ستانفورد، والمفكر الأمريكي ذو الأصول اليابانية، فرانسيس فيكوياما، مع زميلته، نانسي بردسول، رئيسة المركز الأمريكي للتطور العولمي، مقالا بمجلة الفورن أفيرز، لشهر أبريل الماضي، بعنوان، مرحلة ما بعد إجماع واشنطون، يقولان فيه: quot;لم تعد الصيغة الأمريكية للرأسمالية مسيطرا على العالم، ففي العقد القادم ستستمر الدول النامية في المتاجرة باللدانة والكفاءة المرافقة لنموذج السوق الحرة في سياستها المحلية، لتضمن مرونة مواجهة ضغوط المنافسة والصدمات الاقتصادية للعولمة... كما تتفق هذه الدول مع مقولة الرئيس البرازيلي السابق، لولا سلفا، بأن الأزمة الاقتصادية لعام 2008 كان سببها أناس بيض بعيون زرقاء. ولو وضعت هذه الأزمة أية نموذج للتنمية للمحاكمة، لكان نموذج الأحرار الجدد للسوق الحرة: الحكومة الصغيرة، إلغاء القوانين المنظمة للسوق، الخصخصة، وقلة الضرائب. وقلة من الدول النامية تبنت هذا النموذج، فكان انفعالها للأزمة أقل شدة، من الكساد الاقتصادي الكبير في الثلاثينيات.quot; فاستطاعت الصين أن تتجاوز هذه الأزمة بطريقتها الخاصة، وأستمر نموها الاقتصادي في الصعود، كما ساعدت جيرانها في آسيان+3 لتتجاوزها بسلام، بينما استمرت دول الغرب تعاني من تبعاتها، والتزمت بسياسة تقشف حادة. ويبقى السؤال: هل ستستفيد دول الشرق الأوسط من التجربة الصينية؟ وهل ستستطيع التعامل مع لدانة سوق العولمة الحرة، لتحقق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية؟

لفهم التجربة الصينية، هناك حاجة لفهم الثقافة الصينية، والتي اعتمدت على أفكار فيلسوف الصين العظيم، كونفوشيوس، الذي عانى في القرن السادس قبل الميلاد، سوء الحكم في بلاده، والحروب بين ولاياتها. وتتلخص فلسفته في أن طبيعة البشر حميدة، وتتقبل التهذيب، وبأن انضباطها غريزي، ويعتمد آداب سلوكها على مفاهيم العيب، والخجل، وفقدان ماء الوجه. وتؤكد على أهمية العائلة، ومسئولية الأب، في الرعاية المتناهية الكفاءة، لخلق التناغم بين أفرادها، وربطها بطقوس احترام أرواح الأسلاف، وتبجيل الدولة. واعتبرت الاختلاط العائلي آلية تهذيب، يتعلم الأطفال من خلالها تقدير العائلة، ويدرك الكهول واجباتهم، ويتفهم الجميع بأن الفرد جزء ثانوي من المجتمع. ودعت الكونفوشيوسية لخلق بيئة انضباط سياسي، ربطتها بأعلى معايير السلوك الأخلاقي، وبسلطة برغماتية، لدولة ملتزمة، بهرم متقن للفضيلة بين مسئوليها. وتعتبر الدولة مؤسسة توحد المجتمع، وتصونه، وتوفر رخاءه وتضمن خلوده، وهي منبع دائم للقيم والسلوك والانضباط، وبمسئوليات متأصلة في جذور ثقافتها، لتنتج حكومات فاعلة، توفر سلطة أمنية قوية تضمن السلام والانضباط، وتقي من الفوضى، وبأية ثمن، لتخلق بيئة يساهم القيادات والمواطنون، بإبداعاتهم وجهودهم، لازدهار المجتمع وتقدمه.
لقد أرتفع الناتج المحلي الإجمالي الصيني في عام 1800 إلى أربعة أضعاف ما كان عليه في عام 1600، ليصل إلى 50% من الناتج الإجمالي العالمي، حينما كان الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي 2%. وتباطأ الاقتصاد الصيني بعد انتصار بريطانيا في حرب الأفيون الأولى (1839- 1842). وقدر الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 1820 بحوالي 228.6 مليار دولار، ليرتفع قليلا في عام 1913 إلى 241.3 مليار دولار، ولينخفض في عام 1950 إلى 239.9 مليار دولار. ومع ذلك بقى الاقتصاد الصيني نشط، واستمر الفلاحون في التأقلم والإبداع، كما استطاع التجار المحافظة على نشاطاتهم التجارية. وبعد أن اختفت حيوية التجارة الصينية عن السطح، برزت بشكل هائل بعد عام 1987، والتي علق عليها الكاتب البريطاني، مارتين جاكوس، في كتابه، متى ستحكم الصين العالم؟ بقوله: quot;فبدل أن يكون الاقتصاد العالمي أوروبيا في عام 1800، كانت القوة الاقتصادية شراكة بين آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، وبقيادة الصين والهند. وقد بدأ الاقتصاد العالمي يتمحور من جديد حول تعدد القطبية، ويجب أن نفترض بأن القرنين الماضيين هو شذوذ مؤقت في تاريخ البشرية، حيث تركز هذا الاقتصاد في يد قلة في أوروبا والولايات المتحدة، والذي أدى لنمو الاقتصاد الغربي ولتباطؤ الاقتصاد في باقي العالم. ومع أن أوروبا جمعت مع بداية عام 1800 أوصولها الثقافية، كالقانون، والحكومات البرلمانية، والتي لم تكن في الحقيقة مفتاح تنميتها، فليس هناك سبب لاعتقاد بان الثقافات الأخرى، وبمميزاتها المتنوعة، لا تستطيع أن تحقق حداثتها.
وبدأ الإصلاح الصيني في عام 1978، بإنشاء عدة مناطق اقتصادية خاصة، وأجرت الدولة الأراضي على الفلاحين، وشجعتهم على زرع منتجاتهم الخاصة، ليبدأ الإصلاح خطوة وبخطوة، وعلى نار هادئة، وبطريقة تجريبية، والتي عبر عنها الرئيس الصيني دنج بقوله: quot;أبحث عن الصدق من حقيقة الممارسة، واعبر النهر بتحسس حصياته.quot; كما ارتبط الإصلاح بذهنية جديدة، وبتغيرات هائلة في قيادات الحزب والحكومة، ووصفهم الرئيس دنج: quot;نحتاج لعدد كبير من شاقي الطرق، الذين يتجرءون على التفكير، ويكتشفون طرق أخرى، ويبدعون أفكار متجددة.quot;
وقد أدت الإصلاحات لارتفاع نسبة النمو الاقتصادي السنوي من 4% في عام 1978 إلى 9.5% في عام 1992، وانتقلت تدريجيا من الريف إلى المدن، ليتطور الاقتصاد الصناعي، بتزايد الاستثمارات الأجنبية، ولتنضم الصين لمنظمة التجارة العالمية في عام 2001. فقد حققت الصين منذ عام 1978 أكثر من خمسمائة مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتي نافست في عام 2003 الاستثمارات الأجنبية المباشرة الأمريكية، بفضل رخص العمالة، لتصنيع، وتصدير، منتجات منافسة للخارج، والتي مثلت 60% من إجمالي صادراتها، و 85% من صادراتها التكنولوجية المتقدمة. وقدر الناتج المحلي الإجمالي للدول المتقدمة (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان وكندا واستراليا ونيوزلندا) في عام 1973 ب 58.7% من إجمالي الناتج العالمي، بينما لم يتعدى سكانها 18.4% من سكان العالم، ولينخفض قليلا في عام 2001 إلى 52% مع انخفاض السكان إلى 14%. وارتفع هذا الناتج في دول آسيا (بدون اليابان) في الفترة من عام 1973 وحتى عام 2001 من 16.4% إلى 30.9%، وبزيادة سكانها من 54.6% إلى 57.4%. ويعتقد الكاتب بأن هذه الأرقام ستتغير بشكل مثير خلال العقود القليلة القادمة، لتصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى في عام 2027، وليتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي الأربعين تريليون دولار، والذي سيستمر في الصعود لأكثر من السبعين تريليون دولار في عام 2050. وسيرتفع الناتج المحلي الإجمالي للبرازيل وروسيا والهند والصين في عام 2032، ليتجاوز الدول الغنية السبع، وسيرتفع في عام 2050 مجموع الإنتاج المحلي الإجمالي لأحد عشرة دولة نامية (بنجلادش ومصر واندونيسيا وإيران وكوريا ومكسيكو ونيجريا والباكستان والفلبين وتركيا والفيتنام)، لثلثي الناتج المحلي الإجمالي للسبع الدول الغنية.
ويعلق الكاتب على التغيرات القادمة بالقول: quot;فبمنتصف هذا القرن حينما ينخفض مجموع الناتج المحلي الإجمالي لدول الغرب عن 50% من الناتج المحلي العالمي ستكون حقبة الغرب قد انتهت. فصعود الصين، والهند، والبرازيل، وكوريا، وتيوان، والدول العالم الثالث الأخرى، سيؤدي لتغير كبير في ميزان القوى الاقتصادي، والتي ستترافق بتغيرات هائلة. فسيغير هذا الازدهار ثقة هذه الدول بنفسها وبمجتمعاتها، والذي سيساعدها على إبراز قيمها السياسية والثقافية. وبدل أن ترفض تقاليد وثقافة مجتمعاتها، والتي كانت تخجل منها إمام تقاليد الغرب، ستصبح جزء من فخر حداثتها الوطنية. وفي المستقبل بدل أن يكون هناك سيطرة حداثة غربية وحيدة، ستكون الحداثة متعددة ومتميزة، كما سيتغير طريق المرور الحضاري من الغرب إلى الآخرين، ليصبح طريق متعدد الاتجاهات، لتتناقل الشعوب من ثقافة بعضها البعض، ولتتمازج في حداثة عالمية متناغمة ومتنوعة الأطياف. فلن يعد يحتكر الغرب الحداثة، كما لن توصف تاريخ وثقافة وقيم مجتمعات الشرق، بالتخلف والفشل، بل ستتميز بإحساس جديد من الشرعية، وصعود مستمر بالثقة بالنفس. وستتآكل تدريجيا عقدة الكبرياء الغربية، بأن قيمهم وعقائدهم ومؤسساتهم وحكوماتهم وديمقراطيتهم وثقافتهم، متفوقة على الآخرين، بتصاعد حداثة عالمية متعددة الأطياف، ومتميزة المفاهيم. ولن تترافق الحداثة والتطور والتحضر بكلمة الغرب، بل ستكون حاملة شعلة هذا التغير الصين، وليس بسبب وسع أرضيها، وكثرة شعبها، وصعود اقتصادها، بل بسبب طبيعة حضارتها ومنظورها.quot;
وينهي البروفيسور كتابه بالقول: quot;يعتقد الغرب بأن الديمقراطية مثاليات مطلقة، يجب تطبيقها بشكلها الغربي في كل مكان، بدون اعتبار للتاريخ والثقافة، والحقيقة بأن عدم توفر الظروف المناسبة للديمقراطية الغربية، قد يؤدي تطبيقها لنتائج كارثية. ويجب ألا تعتبر هذه الديمقراطية المعيار الوحيد للحداثة، بل هناك أولويات أهم في الدول النامية بظروفها المختلفة، ومستوى التاريخي لتطورها، كمعاير الكفاءة الحكومية وإنتاجيتها والتي تنعكس في التنمية الاقتصادية، والتناغم العرقي، وخفض الفساد، والحفاظ على الانضباط، والاستقرار. كما تبين دراسة التاريخ الأوربي بأن القليل من دول الغرب كانت ديمقراطية، حينما بدأت ثورتها التنموية والصناعية. فالثورة الصناعية البريطانية التي تحققت في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين، لم يسمح القانون حتى في عام 1850 بحق التصويت إلا إلى 20% من الرجال، ولم تكتمل حقوق التصويت إلا في عام 1880، وتأخرت المرأة في الحصول على هذا الحق حتى عام 1918، أي بعد أكثر من 130 سنة من الثورة الصناعية، كما كانت معظم دول أوروبا في فترة ثورتها الصناعية دول ملكية مستبدة، أو ملكية دستورية.quot; ولنا لقاء.