من مفكرة سفير عربي في اليابان
تحير علماء الدبلوماسية، في التناقض بين عظمة حضارة العرب، وكثرة مواردهم البشرية والطبيعية، وحدة ذكائهم، وقوة تواصلهم، وبين مدى تأثيرهم على الساحة الدولية. وقد دفعتهم هذه الحيرة للتساؤل، عن التحديات التي سيواجهها العرب في عالم العولمة الجديد، التي ستحتاج لتناغم عمل وطني مخلص مدروس، وشراكة إقليمية، وتعاون عالمي، تضمن مصالح العرب، وتحافظ على استقرارهم، وتحقق تنميتهم الاقتصادية والاجتماعية. فقد طورت أوروبا تجربتها بعد قرون طويلة من الحروب، بتشكيل وحدة اقتصادية، تحولت اليوم لإتحاد أوروبي يضم 27 دولة، واستخدمت الصين واليابان وكوريا حكمتها الكونفوشيسية، لمحاولة التعامل مع تحدياتها التاريخية، والعمل ضمن شراكة اقتصادية آسيوية مع باقي الدول الأسيوية، بل ومع الولايات المتحدة. ويبقى السؤال: هل يملك العرب مقومات شراكة اقتصادية، أم ستعطلها تحديات واقعهم المجتمعي، وإرثهم التاريخي، وعقليتهم الفردية؟
خير من درس العقل العربي في بدايات القرن العشرين هو الأستاذ أحمد أمين (1878-1954)، الذي قام برحلة بحث، بدأت بدراسة تاريخ العرب، وانتهت بتقييم العقل العربي، وجمعها في ثلاثة مجلدات: فجر الإسلام، و ضحى الإسلام، و ظهر الإسلام. وقد تميزت كتاباته بدقة التعبير، وعمق التحليل، والعرض الشيق، وعلق على الصعوبات التي واجهها في أبحاثه، بالقول: quot;لعل أصعب ما يواجه الباحث في تاريخ أمته، هو تاريخ عقلها في نشوئه وارتقائه، وتاريخ دينها، وما دخله من آراء ومذاهب.quot; وتعبر مقولته: quot;أريد أن أعمل لا أن أسيطر،quot; عن مدى تميز شخصيته، وخاصة بعد أن فقد بصره، وأستمر في البحث والتأليف، حتى توفاه الله.
بدأ أمين أبحاثه بدراسة التاريخ العربي، فعرض الواقع السياسي والاقتصادي في زمن الجاهلية، وربط تطورات العقلية العربية بإرهاصات بيئة الحضر والبداوة، وبتأثيرات الثقافة النصرانية واليهودية. فعاش العرب، قبل الإسلام، حياة البداوة في الجزيرة العربية، وحياة حضرية بين أراضي نهر الفرات وحتى وادي النيل. وانقسمت الجزيرة العربية بين بدو الشمال، العدنانيين، وارتبطت لغتهم في الحجاز باللغة العبرية النبطية، وبين حضر الجنوب، القحطانيين، وارتبطت لغتهم في اليمن باللغة الحبشية والأكادية. وتواصل العرب بمن حولهم بالتجارة، وبإنشاء المدن المتاخمة للفرس والروم، وبالبعثات اليهودية والنصرانية. فتاجر أهل اليمن بغلات حضرموت وواردات الهند، وتاجر عرب الحجاز، بمنتجات اليمن والحبشة، ونقلوها لأسواق الشام ومصر. واعتمدت تجارتهم مع الفرس على عرب الحيرة، ومع الروم على عرب مكة، لتمتد لأسواق الشام وعقبة وغزة، ولتصل إلى سواحل البحر الأبيض وضفاف وادي النيل. وعانى تجار الفرس والروم من هجمات القبائل، فساعدوا العرب على بناء إمارة الحيرة على تخوم الفرس، بقرب نهر الفرات، في عام 240، وإمارة الغساسنة في الشام، على تخوم الروم، وولوا عليهم أميرا منهم، وعفوهم من الإتاوة، ليتفرغوا لزراعة أراضيهم، ويستقروا، فتتوقف هجماتهم. وانتشرت الثقافة الأجنبية بجزيرة العرب بفضل النصرانية واليهودية، فدخلت اليهودية قبل الإسلام بقرون عديدة، وأنشئت مستوطناتها، وخاصة في يثرب، بعد أن تهود بعض العرب، ونزح بعض يهود فلسطين إليها، وعملوا بالزراعة والحدادة والصياغة وصناعة الأسلحة. وتأثرت اليهودية بالثقافة اليونانية والرومانية، ونقلتها للجزيرة العربية، بينما تسربت الثقافة النصرانية من خلال نساطرة الحيرة ويعاقبة غسان.
ويعتقد أمين بأن الشعوب تختلف عقليا ونفسيا، تبعا لاختلاف البيئة الطبيعية والاجتماعية، ويستشهد في ذلك بوصف أبن خلدون في القرن الرابع عشر لبيئة عرب الجاهلية بأنها: حالة اجتماعية طبيعية، نتيجة التوحش، ينهبون ما قدروا عليه، من غير مغالبة، ويفرون إلى منتجعهم بالقفز، وإذ تغلبوا على أوطان، أسرع لها الخراب، ينقلون الحجر من المباني، لينصبوه أثافي للقدر، ويخربون السقف ليعمروا خيامهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، ويتنافسون على الرياسة، وقل أن يسلم واحد منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته. فيتعدد الحكام منهم، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام، فيفسد العمران وينتقض. وهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، ولا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، من نبوة، أو ولاية. وهم أبعد الناس عن الصنائع والعلوم، وهم أسرع الناس قبولا للحق والهدى، لسلامة طباعهم من عوج الملكات، وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة، المتهيئ لقبول الخير. وهم أقرب إلى الشجاعة، لأنهم قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، ولا يوكلونها لسواهم، ولا يثقون بغيرهم، فهم دائما يحملون السلاح، ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، فصار لهم البأس خلقا، والشجاعة سجية، وموسومين بين الأمم بالبيان في الكلام، والفصاحة في النطق، والذلاقة في اللسان.
وعرض أمين وصف أوليري لعرب الجاهلية في كتابه، العرب قبل محمد، بقوله: quot;ينظر العربي إلى الأشياء نظرة مادية وضعية، ولا يقومها إلا بحسب ما تنتج من نفع، ويتملك الطمع مشاعره، وليس له مجال للخيال، ولا العواطف، لا يميل كثيرا إلى الدين، ولا يكترث بشيء، إلا بقدر ما ينتجه من فائدة عملية. يملؤه الشعور بكرامته الشخصية، ويثور على أي شكل من أشكال السلطة، ليتوقع منه قائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه، من أحسن إليه كان موضع نقمته، لأن الإحسان يثير فيه شعورا بالخضوع، وضعف المنزلة، وبأن عليه واجبا لمن أحسن إليه.quot; وعرض أمين تحليل لامانس في قوله: quot;العربي نموذج للديمقراطية، ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها، فثورته على السلطة، التي تحاول أن تحدد حريته ولو كانت في مصلحته، هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء من تاريخ العرب، وجهل هذا السر، هو الذي قاد الأوربيين إلى كثير من الأخطاء. وصعوبة قيادة العرب، وعدم خضوعهم للسلطة، هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحضارة الغربية. ويبلغ حب العربي لحريته مبلغا كبيرا، حتى إذا حاولت أن تحدها أو تنقص من أطرافها، هاج كأنه وحش في قفص، وثار ثورة جنونية، لتحطيم أغلاله، والعودة إلى حريته. وهو مخلص مطيع لتقاليد قبيلته، كريم، يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب، كما يؤدي واجبات الصداقة، مخلصا في أدائها حسب ما رسمه العرف. وهذه الصفات والخصائص أقرب أن تعد صفات وخصائص لهذا الطور من النشوء الاجتماعي عامة، من أن تعد صفات خاصة لشعب معين، فحينما استقر العرب، وعاشوا عيشة زراعية مستقرة، تغيرت هذه العقلية.quot; وعرض الكاتب مدح الألوسي للعرب، في كتابه، بلوغ الأرب، بقوله: quot;كانوا أتم الناس عقولا وأحلاما، وأطلقهم ألسنة، وأوفرهم أفهاما، استتبع لهم كل فضيلة، وأورثهم كل منقبة جليلة،quot; وقول ابن رشيق في كتابه، العمدة: quot;العرب أفضل الأمم، وحكمتها أشرف الحكم...quot;.
وقد أتفق أمين مع رأي ابن خلدون بوصف العرب بالمادية، ولكن أتهمه بخلط حكمه بعصور مختلفة، ليصدر حكما عاما على الإنسان العربي. وانتقد أوليري لاتهامه العربي بضعف الخيال، لكونه لم يجد في شعره أثرا للشعر القصصي، وأعتبر وصفه للعربي بجمود العاطفة قصور لفهم شعره، ولخص أمين تقيمه لعربي الجاهلية بأنه: quot;عصبي المزاج، سريع الغضب يهيج للشيء التافه، ثم لا يقف في هياجه عند حد. وهو أشد هياجا إذا جرحت كرامته، وإذا اهتاج، أسرع للسيف، واحتكم إليه، حتى أفنته الحروب، وصار الحرب نظامه المألوف، وحياته اليومية العادية. ويستتبع المزاج العصبي عادة الذكاء، فالعربي إنسان ذكي، يظهر ذكائه في لغته، ولكن ليس ذكائه من النوع المبتكر، وخياله محدود وغير متنوع، فقلما يرسم له خياله عيشة خيرا من عيشته يسعى لها، ولم يعرف المثل الأعلى، لأنه وليد الخيال، وميله للحرية قل أن يحدها حد، وفهمه لها كحرية شخصية لا اجتماعية، فهو لا يدين فيها بالطاعة للحاكم، كما يحدد المساواة فقط ضمن قبيلته.quot; وربط أمين عقلية عرب الجاهلية بالبداوة، وأعتبر البداوة طور طبيعي، تمر به الأمم أثناء سيرها للحضارة، وتتميز بمظاهر عقلية، تتجلى بضعف التعليل، وقلة القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول، وعدم النظر للأشياء نظرة عامة شاملة، وتجنب تحليل دقيق لأسسها وعوارضها، فنظره للشيء لا يستغرق فكره، بل يقف عند موطن صغير يستثير عجبه، فتستوقفه الشجرة بجمال غصنها، ولا يحيط نظره جمال البستان بأكمله، فلا يلتقطه ذهنه، إنما يطير بنظره كالنحلة، من زهرة إلى زهرة، ليرتشف من كل رشفة. وهذا هو السر في ضعف أدب العرب، بنقص المنطق، وعدم تسلسل الأفكار، وقلة ترابطها، بالرغم من جمال درره المنثورة، وكل ذلك نتيجة البيئات الطبيعية والاجتماعية، التي عاش فيها، وإن ما يسمى بالوراثة ليست إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، quot;ولو كانت هناك أية أمة أخرى، في مثل بيئتهم، لكان لها مثل عقليتهم.quot; ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان