من مفكرة سفير عربي في اليابان

مع بزوغ شمس الألفية الثالثة، برزت ظاهرة جديدة في الانتخابات البرلمانية، فبعد قرون من سيطرة أحزاب اليمين واليسار التقليدية على مقاعد البرلمانات في أوربا، بدأت تقل شعبيتها، وتخسر الكثير من نوابها. وقد امتدت هذه الظاهرة لدول الشرق الأسيوي والولايات المتحدة، فقد خسر الحزب اللبرالي الديمقراطي المحافظ، الذي حكم اليابان خمسة عقود، أغلبيته في مجلس النواب في العام الماضي، كما فقد الحزب الديمقراطي الياباني الحاكم الكثير من نوابه في مجلس المستشارين في الصيف المنصرم، ليحتاج لأحزاب صغيرة ليمرر تشريعاته البرلمانية. وفي الأسبوع الماضي، خسر الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة أغلبيته بمجلس النواب، بفقده دعم المستقلين وبروز حزب الشاي. وانتشرت هذه الظاهرة لدول الشرق الأوسط، ففقدت أحزاب اليمين واليسار التقليدية في إسرائيلي أغلبيتها في الكنيست، ليحتاج حزب الليكود لأحزاب صغيرة متناقضة لتشكيل حكومته، وامتدت مؤخرا للانتخابات النيابية البحرينية، فلم يوفق اليسار في الفوز بأي مقعد في مجلس النواب، وتقلصت فرص الإسلام السياسي، بينما حقق المستقلون فوزا ملفتا للنظر. فما سر هذه الظاهرة؟ وكيف يمكن التعامل معها؟
تعتقد المجلة الاقتصادية البريطانية، الإيكونوميست، الصادرة في 23 من شهر أكتوبر الماضي، في مقال بعنوان انتهاء العمر الافتراضي للأحزاب السياسية التقليدية، بأن مرحلة الانتماء الأيديولوجي للأحزاب في الغرب قد انتهت. فتحولت الولايات المتحدة من quot;أمة 50-50quot; إلى quot;أمة 30-30-30quot;، حيث بينت استطلاعات الرأي الأخيرة بتحولها من دولة نصفها ديمقراطيين والنصف الآخر جمهوريين، إلى دولة 37% من مواطنيها مستقلين. و تحسنت شعبية الأحزاب الصغيرة في أوروبا، ليتقدم حزب الخضر في ألمانيا على الاشتراكيين الديمقراطيين، وانخفض تأيد الناخبين في بريطانيا للعمال والمحافظين من 97% في انتخابات عام 1951، إلى 65% في انتخابات الصيف الماضي. وفي 13 دولة ديمقراطية أوربية، انخفضت في الفترة ما بين السبعينيات والتسعينيات عضوية الأحزاب السياسية التقليدية بنسبة 40%، فمثلا انخفض عدد أعضاء الأحزاب التقليدية الثلاثة في بريطانيا من أربعة ملايين في الخمسينات إلى نصف مليون اليوم.
فقد انتخب عمال الديمقراطيات الأوربية في الستينات أحزاب اليسار التقليدية للمحافظة على مصالحهم، بينما تخوفت القوى الأخرى من سلطة النقابات العمالية، فصوتت ضدهم. وحينما أعتبر معظم سكان أوربا أنفسهم طبقة متوسطة، اختفت الأربطة القبلية السابقة، وتقلصت الفجوة الأيديولوجية بين الأحزاب التقليدية، ولم تعد أسماءها البراقة مغرية للناخبين المشغولين بلقمة العيش، ليصوتوا للأحزاب البرغماتية المهتمة بقضاياهم الحياتية الصغيرة المحددة، لذلك أرتفع عدد أعضاء الجمعية التراثية البريطانية من ربع مليون، في عام 1971، إلى 3.7 ملايين اليوم. وتبين أبحاث البروفيسور البريطاني، بول ويتلي في 36 دولة، بأن هناك علاقة طردية بين الانتماء السياسي للمواطنين، والإدارة العامة الجيدة لسلطة الأحزاب، وهي مرتبطة بالتقدم في مؤشر البنك الدولي للحكم الجيد، كما تترافق بقاعدة جماهيرية تساعد قياداتها على الدفع بالإصلاحات الضرورية. فيصر الناخبون المستهلكون اليوم على اختيار نواب يتعاملون مع مصالحهم بمسئولية. ويؤدي خفض نسبة الانتماء السياسي بين المواطنين لخلخلة سياسية، تقلل من فرص الفوز الساحق للأحزاب لتحقيق برامجها. وخير مثل للديمقراطية البرلمانية هو النموذج البريطاني، ويفترض بأن تصويت أكثرية الشعب لحزب ما يؤدي لحكم قوي. وقد أنتجت الانتخابات الأخيرة في خمسة دول تستخدمها، وهي استراليا وبريطانيا وكندا والهند ونيوزيلاندا، برلمان معلق. كما بدأت تقل نسب المشاركة في الأحزاب السياسية، ففي عام 2004 انخفضت هذه النسبة في الاروجواي إلي 30% من السكان، والنمسا 22% ، وكندا 13%، والمكسيك 12%، وبريطانيا 10%، وهولندا 9%، والبرازيل 7%، واليابان 5%، وألمانيا 4.5 %، ولتنحدر في بولندا إلى 1%.
ويناقش البروفيسور كيشور ماهبوباني، السفير والوزير الخارجية السابق لسنغافورة، بمجلة النيوزويوك الأمريكية الصادرة في 23 من شهر أغسطس الماضي معضلة القيادات السياسية في عالم العولمة الجديد. ويرجع أسباب فقد الشعوب الثقة بالأحزاب السياسية للتناقض المؤلم في العولمة الأولي بين التحديات الكبرى في الحكم التي هي أصلها عالمي والاستجابة السياسة لها بصورة محلية وطنية. ومع أن هناك الكثير من القيادات السياسية الحكيمة حول العالم، ولكن ليس هناك الكثير من قيادات العولمة. فقد أسرع العقد الأول من الألفية الثالثة بروز تحديات العولمة، وبدت بحوادث الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001، وانتشار فيروس السار في عام 2003، وبعد ستة سنوات، ظهر مرض الخنازير، وتلته في عام 2008 سرعة ذوبان المؤسسة المالية، ليمان بروثرز، والذي دفع العالم لحافة الهاوية. والتحدي الأكبر اليوم لشعوب العالم التحديات المناخية، والتي تبرز مدى ضعف النواب، فمع أن حلها بسيط جدا، برفع سعر التلوث الكربوني. والمعضلة هي في أن يبدأ أحدا الخطوة الأولى، فالولايات المتحدة، التي تمثل 5% من سكان العالم وتستهلك 25% من الطاقة الملوثة، هي المرشحة الأولى. فلو رفعت سعر جالون البنزين دولار واحد، ستقلل من العادات الأمريكية الملوثة للبيئة، وستؤدي لتغير سلوك الأمم الأخرى. فمع أن الولايات المتحدة تعتبر في كثير من الأمور أكثر حكمة، وهي بلا شك الأكثر نجاحا، ولكن في الأرض الأمريكية للحكمة والنجاح لا يستطيع سياسي واحد أن يزيد دولار على البنزين لحماية العالم. فقد أنتخب السياسيين في دوائرهم الانتخابية ليهتموا بالقضايا المحلية الوطنية، ومن يحاول منهم حماية العالم، فلن يستمر في مركزه طويلا.
ويعتقد مهبوباني بأن الإنسانية في حاجة لصرخة يقظة. فمع أنه يمكن خلق قيادات سياسية محلية جيدة، وقد يحاولوا تخفيف صدمة تحديات العولمة الاقتصادية والبيئية والصحية والأمنية، ولكن لن يحلوها. بل تحتاج تحديات العولمة لمؤسسات عالمية، كالأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، أو حلف عالمي كمجموعة العشرين. ونظريا، يتفق الجميع بضرورة تقوية هذه المؤسسات، ولكن واقعيا، تسيطر على هذه المنظمات قلة من الحكومات القوية، وتضع مصالح بلادها المحلية قبل مصالح العالم، وهذا هو التناقض الحتمي للعولمة. فالقوى العظمى تريد أن تستخدم قوتها لكي تهيمن على المنظمات الدولية، ونلاحظ كيف تتقاسم قيادات الغرب البنك الدولي وصندوق النقد. وكلما زادت هيمنتهم كلما شوهت برامج هذه المنظمات وضعفت، وبضعفها ستصبح الحلول لتحديات العولمة مستحيلة. والحل الوحيد لتحديات العولمة تطوير إجماع دولي قوي بين الشعوب والحكومات، لحاجة العالم لحكم عولمة، وحينها ستفكر أقوى الأمم في رفاهية العالم وحمايته وتسمح لأحياء منظمات العولمة. فهل سيتعاون نواب المنطقة مع حكوماتهم، لمعالجة تحديات العولمة برؤية عالمية فاحصة، وبجهود وطنية مخلصة؟

سفير مملكة البحرين في اليابان