من مفكرة سفير عربي في اليابان
في الوقت الذي يحاول العالم الخروج من تحديات الأزمة الاقتصادية لعام 2008، برزت أزمة خطيرة في الاقتصاد اليوناني، وزاد القلق على الاقتصاد الاسباني والايرلندي والبرتغالي، وضعفت الثقة المالية باليورو، واَضطربت أسواق الأسهم الأمريكية، ورفعت الإدارة الأمريكية دعوى احتيال قضائية ضد جولدمان ساك، إحدى أكبر المؤسسات المالية الاستثمارية الأمريكية. ويبقى السؤال المحير: هل ستتفاقم أزمة النمط الأمريكي للرأسمالية في العقد القادم؟ وهل ستنتهي أحلام فرنسيس فوكوياما بانتهاء التاريخ، وانتصار الديمقراطية اللبرالية الغربية، بنموذج رأسماليتها الأمريكية الفائقة؟ أم هناك فرصة لانقاد اقتصاديات الغرب بتصحيح مسار رأسمالية ملتون فريدمان؟
حاول البروفيسور جوزيف ستيجلتز، عالم الاقتصاد الأمريكي الحائز على جائزة نوبل، والمسئول السابق في إدارة الرئيس بيل كلينتون، والنائب السابق لرئيس البنك الدولي، وأستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا بنيويورك، مناقشة هذه الأسئلة في كتابه الجديد، السقطة الحرة. عرض الكاتب الأسباب الحقيقة وراء الأزمة الاقتصادية لعام 2008، وأنتقد ممارسات الوول ستريت في المقامرة بأموال المستثمرين، واتهم مؤسساتها المالية بالتحايل في تحويل الفائدة البنكية لنوع جديد من الربا، وصلت نسبته إلى 50%، وانتقد تعامل الإدارات الأمريكية المتلاحقة مع تحديات الوول ستريت، وتهاون نواب الكونجرس مع تجاوزاتها. ويعتقد الكاتب بأن التراجع الاقتصادي الذي بدأ في عام 2008، والذي أدى لتبخر 40% من ثراء العالم، ستزداد مضاعفاته في العقد القادم، بسبب quot;استمرارية تصدع السياسات الحكومية في الولايات المتحدة، والسلوك الشخصي والمؤسساتي اللاأخلاقي في مجتمعاتها.quot; وقد أشعلت هذه الأزمة شرارة حوار جاد حول عثرات الاقتصاد الأمريكي، ومدى سلامة اقتصاده، بل والنمط المناسب للنظام الرأسمالي العالمي. وطالب الكاتب بخلق توازن بين المسئوليات الحكومية ومسئوليات السوق، ومعالجة التحديات الهائلة في الرعاية الصحية والطاقة والبيئة والتعليم والصناعة. ويعتقد الكتب بأن هناك حرب فكرية حول نوعية النظام الرأسمالي المناسب للتحديات القادمة للعولمة، والتوازنات العالمية اللازمة لنظام عالمي جديد، وقد تنتهي المعركة لنظريات السوق العقلانية المتزنة، وإلا ستستمر الهيمنة الأمريكية على اقتصاد العولمة.
لقد أدى التراجع الاقتصادي الكبير الذي بدأ في عام 2008 لخسارة الملايين في الولايات المتحدة ومختلف باقي أنحاء العالم لبيوتهم وأعمالهم، وتقريبا، كل من ادخر مال للتقاعد أو لتعليم الأطفال وجد أمواله تتبخر. فمن المفروض أن ينهي الاقتصاد الجديد، بعولمته للسوق وتحريرها من الأنظمة والقوانين وبهندسته المالية، الدورات الاقتصادية وفقاعاتها، بعد أربعة عقود من تنفيذ رونالد ريجن ومارغريت تشر نظريات ملتون فريدمان. وعرض الكاتب أفكار كتابه بالقول: quot;يناقش هذا الكتاب معركة الأفكار، الأفكار التي أدت لسياسات فاشلة، والتي سببت الأزمة، والدروس التي يمكن أن نستفيد منها، فعادة تنتهي أي أزمة مع الوقت، ولكن أزمة بهذه الشدة لن تمر بدون تركة، وتكون هذه التركة منظور لنظام جديد يحقق استدامة التنمية. فلربما انتهى صراع الرأسمالية مع الشيوعية، ولكن سيأخذ اقتصاد السوق أشكال مختلفة، والسوق هي قلب كل اقتصاد ناجح، وتحتاج لحكومات فاعلة، وبمشاركة المؤسسات الغير الحكومية، لتنظيمها ومنع انهيارها. وقد فقدت الولايات المتحدة هذا التوازن خلال الخمسة والعشرين سنة الماضية، وفرضته على باقي دول العالم... ويقلقني نوع العالم الذي سينتج من هذه الأزمة.quot; ويعتقد الكاتب بأن المشكلة هي أنه خلال الخمسة والعشرين سنة الماضية، لم ينظم اقتصاد السوق نفسه، بل احتاج لقيام الحكومة الأمريكية لإنقاذه بترليونات الدولارات، وعلى حساب دافعي الضرائب، فحينما عين الرئيس رونالد ريجن رئيسا جديدا للبنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 1987، وهو جرين سبان، كان يبحث عن رئيس ملتزم بتخليص السوق من أنظمة الحكومة وقوانينها. فالحقيقة هي أن صراع الايديولوجيات كان السبب وراء هذه الأزمة، ومن الغرابة أن تكون أزمة عام 2008 مفاجأة للبعض، فقد انغمست السوق المنفلتة بتوفر المال مع نسب ضئيلة من الفائدة، ورافقتها تركيبة سامة من فقاعة أسعار العقار وديونها، وأضف إلى ذلك العجز المالي والتجاري الأمريكي، الذي ترافق بتراكم المدخرات الصينية من الدولار، وعدم توازن في اقتصاد العولمة. وتميزت هذه الأزمة عن غيرها بأنها صناعة الولايات المتحدة، وانتشرت بسرعة حول العالم.
ويعتقد الكاتب بأن الرأسمالية الأمريكية قد فقدت الكثير من مصداقيتها ودعمها، وستؤدي الحوارات الاقتصادية والسياسية المرافقة لهذه الأزمة لتشكل جديد لاقتصاد العولمة، وقد أكد تكرار انهيار البنوك العملاقة والمؤسسات المالية، والأزمة الاقتصادية المرافقة لها، والمحاولات الفوضوية لإنقاذها، بأن عصر النصر الأمريكي قد رحل، بأساسيات سوقها الحرة المنفلتة، وربما أيضا بديمقراطيتها اللبرالية. وقد انتقل الحوار الاقتصادي من دول الغرب إلى الدول النامية، بعد أن تناست دول الغرب بأن 60%من الناتج العالمي كان في دول آسيا قبل قرنين، وقد أدى التسخير والاستغلال الاستعماري، والاتفاقيات التجارية الغير عادلة، واستحواذ الغرب للثورة التكنولوجية، لأن تتخلف الدول النامية، لينخفض اقتصاد آسيا في عام 1950 لحوالي 18% من الناتج العالمي. وقامت المملكة المتحدة وفرنسا في منتصف القرن التاسع عشر بحرب على الصين، لترغمها على فتح بلادها لتجارة العولمة، والتي سميت بحرب الأفيون، والتي فرضت على الصين فتح بلادها لتجارة الأفيون الغربي، والذي كان تنتجه الشركات الغربية في الهند، والتي أدت لنشر الإدمان في الصين، والتي هي أول المحاولات المبكرة، لخلق توازن في ميزان التجارة بين الصين والغرب. كما لعب صندوق النقد والبنك الدولي دوره كأداة استعمارية للهيمنة، والتي دفعت لتجارة السوق الحرة المنفلتة، وفرضت الخصخصة على الدول النامية، لتحرير التجارة وتحرير قطاعها المالي من الأنظمة، والتي سماها الغرب بالدفاع عن الديمقراطية، في الوقت الذي أغلق الغرب أسواقه لمنتجات الدول النامية الزراعية التي منع الغرب دعمها، بينما دعم منتجاته الزراعية بمليارت الدولارات.
ويعتقد الكاتب بأن تجربة الدول النامية قد أكدت بأن أيديولوجية سوق العولمة الحرة، والخصخصة، ما هي إلا أسلوب جديد لتسخير واستغلال الدول النامية، لتعني الخصخصة عذر يسمح للأجانب شراء المناجم وحقول النفط في الدول النامية بأسعار زهيدة، وعذر آخر لكي تسجل الشركات الغربية أرباح هائلة باحتكار التكنولوجيات المتطورة، كالاتصالات. كما تعني تحرير السوق المالية، بأن تحقق البنوك الغربية أرباحا كبيرة على قروضها، وحينما تتعرض هذه القروض لعدم الدفع، يتدخل صندوق النقد لفرض اشتراكية الخسارة، بفرض الخسارة على جميع أفراد الشعب، لكي يدفعوا قيمة هذه الخسارة للبنوك الأجنبية، لترجع وتسجل هذه البنوك أرباح هائلة، وعلى حساب فقر وجوع شعوب الدول النامية. وتعني تحرير التجارة، القضاء على الصناعات الوطنية، ومنع تطور الإبداعات التجارية المحلية، وتحرك الأموال الأجنبية بحرية، بينما بقت العمالة في مواقعها، بل خسر الكثيرون من عمال الدول النامية وظائفهم، وسرق الغرب العقول المبدعة المهاجرة. وطبعا كانت هناك دول مقاومة، والتي برزت بتحرك الصين والهند لبناء اقتصادهم بطريقتهم الخاصة، ليحققوا تنمية غير مسبوقة، بينما عانت الدول التي كانت تحت سيطرة البنك وصندوق النقد الدولي، واستمر الحوار في كل مكان عن أن قواعد اللعبة لم تكن عادلة، مع أن الغرب كان يصرخ بالديمقراطية وتحرير سوق الدول النامية. وقد أكدت الولايات المتحدة لمنتقدي النمط الأمريكي للرأسمالية في الدول النامية، بطريقة تعاملها مع أزمة عام 2008، بأنها منافقة. فقبل عقد من الزمن، طالبت الولايات المتحدة من خلال صندوق نقدها الدولي من الدول النامية، في أزمتها الاقتصادية، بخفض عجز دولها، بتقليل الصرف الحكومي، والذي أدى لزيادة الإيدز بعد خفض الصرف على الرعاية الصحية في تايلاند، وزيادة أمراض سوء التغذية في إندونيسيا بعد خفض الصرف على الدعم الغذائي، كما أدى ذلك لسوء التعليم في الباكستان بعد خفض الصرف الحكومي على التعليم، فأغلقت بعض المدارس النظامية، وتحول طلابها للمدارس المذهبية، التي فرخت أفكار التطرف والإرهاب، والذي دفع ثمنها الغرب بفقد أمنه واستقراره بل وحريته. كما حولت الولايات المتحدة وصندوق نقدها الدولي نسب الفائدة لنسب ربوية، حينما رفعت الفائدة بمعدل 50%، وحاضرت إندونيسيا عن ضرورة الصرامة مع البنوك، وطالبت من الحكومة عدم دعمهم، ولن ينسى العالم التناقض بين التعامل مع أزمة الولايات المتحدة والأزمة الآسيوية، حينما دعمت الحكومة الأمريكية بنوكها المقامرة بما يقارب التريليون دولار، وبفائدة تقدر بحوالي 0%، في الوقت الذي كانوا نفس المسئولون الذين تعاملوا مع أزمة 2008 في واشنطون، وهم الذين تعاملوا مع الأزمة الآسيوية. وقد أدى ذلك لتساؤل الدول النامية: كيف لم تستخدم واشنطن نفس العلاج الذي فرضته على الدول الآسيوية؟ وتساءل الكاتب: لماذا نهتم نحن الأمريكيون بوهم النمط الأمريكي للرأسمالية؟ وهل سنستطيع البقاء إذا لم يلتزم باقي العالم بنمط رأسماليتنا؟ وهل ممكن أن يلتزم العالم بنمط رأسماليتنا إذا لم نلتزم نحن الأمريكيون بها؟
ويعتقد الكاتب بأن سمعة الولايات المتحدة قد تلاشت بعد هذه الأزمة، فقد كان الأمريكيون يديرون استثمارات العالم، لإيمان العالم بقدرتهم في الاستثمار، وبعد أن فقد العالم الثقة بهم، برزت الاقتصاديات الأسيوية وأمريكا اللاتينية. فقد زادت الاستثمارات الصينية، في السنوات الأخيرة، في البنية التحتية والتجارة والزراعة وفي تنمية الموارد الطبيعية وبناء المؤسسات المالية والتجارية في الدول الأفريقية، كما بدأت تركض الدول النامية في أزماتها الاقتصادية لبكين لا لواشنطون، بل وحتى دول أمريكا اللاتينية واستراليا تجد حل مشاكلها في بكين. كما لعبت الصين، قبل الأزمة، دورا هاما في نمو أسعار الاستيراد والتصدير، والتي أدت لتنمية اقتصادية غير مسبوقة في الدول الأفريقية والدول النامية الأخرى، وحتى بعد أزمة عام 2008، سيزداد هذا النمو، وسيحقق الكثير للدول النامية مع النمو الاقتصادي في الصين من جديد بعد عام 2009. وقد تستفيد الدول النامية من دروس الأزمة، بأن هناك حاجة لتوازن بين دور السوق والحكومة، والذي ترافق بأنظمة وقوانين منظمة، وإدارة قوية وفاعلة، لمنع تلاعب الربحية الشخصية، فيجب ألا تستبدل آليات كارل ماركس الشيوعية بآليات ملتون فريدمان الرأسمالية الفائقة، فلم يخدم جماعة فريدمان دينهم الجديد، بل عانى منه الفقراء في سوق العولمة الحرة، ولم تنجح اقتصاد تسرب الخير من القمة للقاعدة، وسيعاني الفقراء من جديد، بزيادة التدخل في السوق، وفقد التوازن بين فرض الأنظمة وحرية السوق الملتزمة، والذي لن يحقق استدامة التنمية. وينهي الكاتب حواره بالقول: quot;قد أدت هذه الأزمة لانهيار كبير في إيمان العالم بالقيم التي تنادي بها الديمقراطية الأمريكية اللبرالية ورأسماليتها الفائقة. ولم تعد فكرة السوق الحرة المنفلتة، وفكرة الحكومة سبب للمشاكل وليست لحلها، مقبولة. فقد لعبت الحكومات دورا هاما في الدول الشرق أسيوية، فزيادة دخل الفرد في هذه الدول خلال العقود الأربعة الماضية غير مسبوقة في التاريخ، وقد لعبت حكوماتها دورا هاما في التنمية من خلال آلية السوق. فقد نمى الاقتصاد الصيني بمعدل 9.7% خلال العقود الثلاث الماضية، وأنقذت مئات الملايين من الفقر، كما حققت اليابان وكوريا وسنغافورة وماليزيا معجزات اقتصادية ليزداد دخل الفرد ثمانية أضعاف خلال ربع قرن.quot; لقد نفخنا الكثير في ديمقراطية الغرب اللبرالية ورأسماليتها الفائقة، ويبقى السؤال: هل سنتعظ من هذه الأزمة ونبدأ في التفكير في نظام سوق اقتصادي ملتزم، يعتمد على العلوم الإنسانية، وينبع من ثقافة وحضارة مجتمعاتنا، ومرتبط بقيمنا وأخلاقياتنا، بدل أن نركض وراء أنظمة دفعت بها مؤسسات الغرب الخاصة، لتضمن زيادة ربحيتها، وكأن المجتمعات الإنسانية بنيت على صراع التنافس وحوافز الربحية اللاأخلاقية، لا على حوافز الإبداع الإنسانية الذاتية؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات