من مفكرة سفير عربي في اليابان
يحاول الغرب، في الألفية الثالثة، نشر ديمقراطيته في الشرق الأوسط، والتي تعاني من رأسماليتها الفائقة. وقد ضعفت الثقة بهذه الديمقراطية بعد انفلات سوقها الحرة من الأنظمة والقوانين، والتي أدت للازمة الاقتصادية الخانقة في عام 2008. وقد زاد الشك في حاجة الدول النامية لهذه الديمقراطية، بعد أن نجحت الصين، بخطواتها البرغماتية في خلق توازن بين سوقها الحرة وحكومتها المركزية، للمحافظة على استمرار نموها الاقتصادي والاجتماعي. والسؤال المحير: هل انتهى العمر الافتراضي للديمقراطية الغربية بعد بريقها خلال القرنين الماضيين؟ وهل سيستفيد الشرق الأوسط من التجربة الصينية، وحكمة كونفوشيسيتها، لتطوير نظمه السياسية المستقبلية؟
ناقش ديفيد هوول، عضو مجلس اللوردات، والوزير والنائب السابق بمجلس العموم البريطاني، التحديات الذي تعاني منها الديمقراطية الغربية في عالم العولمة الجديد، في مقاله، أفول الثقة في الطبقة السياسية، والذي نشرته صحيفة اليابان تايمز في الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي. يعتقد الكاتب بأن العالم يمر بأزمة شرعية سياسية، بعد أن فقد مواطنو الغرب، وبأعداد متصاعدة، الثقة في حكوماتهم وطبقاتهم الحاكمة. وتؤكد استطلاعات الرأي، بأن هناك أزمة ثقة بين شعوب المجتمعات المتقدمة في حق قياداتها السياسية وطبقاتها الحاكمة، لتمثيلهم وتقرير مصائرهم. فقد قدرت استطلاعات الرأي في الاتحاد الأوربي، بأن أكثر من 80% من الناخبين لا يثقون بأحزابهم السياسية، كما أن الثلثين منهم يشككون في حكوماتهم. كما أكد استطلاع رأي آخر، أجري في 18 دولة متقدمة، بأن 63% من المواطنين يعتقدون بأن رجال السياسية مهتمين فقط بمصالحهم الشخصية، ولا يهمهم مصالح شعوبهم. ويعلق الكاتب على ذلك بقوله: quot;فقد تبخرت فكرة الإيمان بأن الحكومة تملك الحكمة، وتمثل مصالح الشعب، بعد انتشار شفافية تكنولوجية العولمة، ومن خلال صفحات الانترنت، لتكشفت عن كذب ادعاءات سياسيو الغرب وتصرفاتهم المخزية، وتبرز علامات هذه الأعراض في بريطانيا، وبطريقة فتاكة. حيث يعتقد شعبها بأن نوابه يستغلون أموال الضرائب لمصالحهم الخاصة، بل امتدت عدم الثقة للأحزاب السياسية والنظام الديمقراطي البريطاني بأكمله. وتؤكد الدراسات، وفي جميع الدول، بأن الشعوب تنظر لحكامها السياسيين كمصدر لقوانين غير فاعلة، وتصريحات فارغة، وعدم كفاءة عجيبة.quot;
ويعتقد الكاتب بأن تكنولوجية الانترنت خلقت شبكات معارضة جديدة وأفكار مبدعة ومنظمات متعددة، وربطتهم بمئات الملايين من شعوب العالم. فقد أوصلت شبكات اليوتيوب والتويتر والفيسبوك بين الحركات السياسية الجديدة ولوبياتها محاولة استبدال الهرم التقليدي للحكومات. وينهي الكاتب مقاله بالقول: quot;فقد خلقت هذه الشبكة من التواصل العالمي هوية عولمة وطنية وثقافة متنوعة ومحمية، يشتاق المواطنون من خلالها، شبابا وشيوخا، لقيادات جديدة ملهمة، مهتمة بمصالح مجتمعاتها، وبارتباطها بباقي العالم، وتكون صريحة في طرح مواقفها من التحديات الحياتية وطرق معالجتها.quot;
وبينما يستاء البرلماني البريطاني ديفيد هوول من شيخوخة الديمقراطية الغربية، يندهش الكاتب الأمريكي فريد زكريا، رئيس تحرير مجلة النيوزويك، من ما حققته الصين خلال فترة قصيرة بإصلاحاتها الاقتصادية، وبحكومتها المركزية، وبدون سحر الديمقراطية الغربية، في مقال بعنوان، الفائزون الحقيقيون في التراجع الاقتصادي، والذي نشر في 26 من اكتوبر الماضي. فيعلق الكاتب بقوله: quot;وقد كانت دهشة عام 2009، هي مرونة الأسواق الكبيرة الصاعدة، الهند والصين واندونيسيا، والتي استمرت اقتصادياتها نشطة، بل أن الصين، لم تتجاوز الأزمة فقط بل نمت من خلالها. فالاقتصاد الصيني سينمو بنسبة 8.5% في هذا العام، كما ارتفعت صادراتها لما كانت عليه في عام 2008، وزادت مدخراتها في الخارج إلى 2.3 تريليون دولار، ورفعت الحكومة نسب الصرف لتطوير البنية التحتية. وتم كل ذلك بسياسات حكومية صائبة، فاستفادت الصين من الأزمة الاقتصادية العالمية لتتقدم وبقوة للأمام في تنميتها الاقتصادية، بينما انشغلت الدول الغربية بحماية مواقع ضعفها.quot;
ويعتقد الكاتب بأن الفائزة في أزمة العولمة الحالية، هي حكومة بيجين، بتطبيق فلسفتها الكونفوشيشية، الأزمة خطر وفرصة. فبينما اصطدمت حكومات الغرب بالأزمة وبدون استعداد مسبق، وصرفت الكثير في الدعم على مؤسساتها المالية لتزداد ديون دولها. فسيزيد ديون دول الاتحاد الأوربي في العام القادم لأكثر من 8% من إنتاجها المحلي الإجمالي، مع أن الاتحاد طالب، قبل ثلاث سنوات، بخفض هذه الدول ديونها لي 3%، لكي تكون مؤهلة لانضمام. بينما عايشت الصين الأزمة وهي تدخر الأموال الكثيرة، بل كانت ترفع من نسب الفائدة لكي تهدئ من سرعة نموها الاقتصادي، كما كانت بنوكها مليئة بأموال مدخرات المستهلكين. فاستطاعت الحكومة الصينية، مع بدء الأزمة، تطبيق قواعد العلوم الاقتصادية بسهولة، لزيادة نموها الاقتصادي. فخفضت نسب الفائدة، ورفعت الصرف الحكومي على تطوير البنية التحتية والتعليم، وسهلت القروض للمستثمرين، وشجعت المستهلكين على الصرف، فبانضباطها في سنين الطفرة، استطاعت أن تسهل أمور شعبها في الأزمة.
ولو قارنا بين الولايات المتحدة والصين في الدعم الحكومي للاقتصاد، نجد بأن الحكومة الأمريكية توجهت للصرف على دعمها للاستهلاك لتغطية ذنوب بنوكها ورواتب موظفيها وتكلفة رعايتها الصحية، بينما توجهت الصين للاستثمار في المستقبل، البنية التحتية والتكنولوجيا والتعليم. فمثل ما طورت الصين بنيتها التحتية للقرن الواحد والعشرين في العقد الماضي، تقوم بتكملتها خطتها في العقد القادم. فستصرف 200 مليار دولار على القطارات السريعة خلال السنتين القادمتين، لتقلل مدة السفر بين بيجين وشنغهاي من عشر ساعات لأربع، وستضيف 44 ألف ميل من الشوارع وحوالي 100 مطار جديد خلال العقد القادم. وأصبحت الصين رائدة في المواصلات البحرية، فاثنين من أكبر موانئ العالم هي في شنغهاي وهون كونج. بينما ستصرف الولايات المتحدة اقل من 20 مليار دولار على ديزينة من المشاريع الغير مضمونة. كما وعت الصين خطورة الاعتماد على النفط الأجنبي، فتحركت بشكل مدهش، في الصرف على تطوير تكنولوجية الطاقة الشمسية والرياح والبطارية، بل أكثر من مما ستصرفه الولايات المتحدة، فأربعة من عشرة شركات عالمية في القمة هي شركات صينية. والجدير بالذكر بأن الصين اعتمدت أيضا على استثمارات هائلة في تطوير قواها البشرية وتقدم بحوثها التكنولوجية، والتي ستبرز نتائجها في العقود القادمة.
وينهي الكاتب مقاله بالقول: quot;وبينما كان الاقتصاد الصيني ينمو بشكل غير مسبوق خلال العقد الماضي، استمر محللو الغرب يتساءلون متى ستأتي الصدمة القادمة، وبعد النمو العجيب في هذه الأزمة، بدءوا يتساءلون متى سيتوقف هذا النمو. فبينما هم ينظرون للحقائق، لم يستطيعوا استيعابها، فالمزيج الصيني من التدخل الحكومي والسوق الحرة والدكتاتورية والكفاءة محيرة، ولكن حان الوقت للتوقف عن الأمل في فشل الصين، والبدء بفهم والاستفادة من نجاحها.quot; فتلاحظ عزيزي القارئ كيف تفرغ الشعب الصيني لتطوير مجتمعه ببرغماتية واقعية، وبعيدا عن الأيدولوجيات المفرقة والثوريات المفرقعة. فبدأت بتطبيق فلسفة زعيمها الراحل دنغ، لا يهم إن كان القط أبيض أم أسود ما دام يقوم بصيد الفئران، وبهذه الفلسفة البرغماتية، نست أحقاد الماضي بأيديولوجياته الثورية، وطورت علاقاتها مع جميع دول العالم، وبحثت عن الفرص الاستثمارية في كل مكان. واستثمرت في التعليم لتطوير قواها البشرية، فأرسلت خيرة طلابها لدراسة التكنولوجيا الهندسية والعلوم الاقتصادية في دول الغرب. لتهيئ، خلال عقود قليلة، قيادات هندسية واقتصادية، متخرجة من جامعات هارفارد وستانفورد وأكسفورد، لهندسة إصلاحاتها. وذلك بدمج العلوم التكنولوجية والإنسانية العالمية بالثقافة الصينية وتاريخها وفلسفتها الكونفوسيشية، لبلورة حضارة عولمة جديدة، وبدون التقليد الأعمى لديمقراطية الغرب الشائخة ورأسماليتها الفائقة. والسؤال لعزيزي القارئ: هل سيستفيد العرب من هذه التجربة لتطوير نظمهم الاقتصادية الإنسانية، لزيادة إنتاجية بلدانهم، وبدء إبداعاتهم المربحة، ليحققوا تنميتهم المستقبلية، ويشاركوا في بناء حضارة عولمة جديدة؟
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات