من مفكرة سفير عربي في اليابان

ازداد الغرب فخرا بديمقراطيته الرأسمالية، بعد فشل دكتاتورية الحزب الواحد للاشتراكية السوفيتية، ليحرر السوق من ما بقي من نظم حكومية مكبلة. ومع تطور تكنولوجية الاتصالات والمواصلات، وتحول العالم لقرية كونية صغيرة، انتشرت موضة السوق المحررة، لتلغي الكثير من الدول قوانينها المالية المنظمة، ولتنشط حكوماتها خصخصة مسئولياتها الاجتماعية. وقد أدى كل ذلك لتطور رأسمالية عولمة فائقة، quot;السوبركابيتالزم،quot; لينتقل ثراء الغرب وازدهاره في أيد قلة من مالكي المؤسسات العملاقة الخاصة. فانكمشت الطبقة الوسطى، وزادت بؤر الفقر والعوز، وانتشر التطرف والإرهاب، وزادت قوة هذه المؤسسات الخاصة بشراء برلمانات بلدانها. لتتحول ديمقراطية الغرب الشعبية، لديمقراطية القلة الفائقة الثراء، وليتحول اقتصاد التصنيع الغربي المعاصر، لاقتصاد فقاعة سوق الأسهم والعقار، والذي أدى انفجاره لانهيار النظام المالي العالمي. والسؤال لعزيزي القارئ: هل انتهت قرون الديمقراطية الغربية التقليدية؟ وهل سيتوجه العالم لديمقراطية الدولار؟ وما علاقة ذلك بالذكاء الإيكولوجي؟
يناقش البروفيسور الأمريكي دانيال كولمان في كتابه الجديد، الذكاء quot;الايكولوجيquot;، بأن هناك قوة جديدة في الأفق لديمقراطية جماهيرية تعتمد على ذكاء القوة الشرائية للدولار، بعد أن يئست شعوب العالم من ديمقراطية برلماناتها. وقد كان ذلك واضحا في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، حين استطاع البروفيسور بارك أوباما الوصل للرئاسة من خلال استخدامه تكنولوجية الانترنت، لجمع دولارات مؤيديه، لدعم حملته الانتخابية، فقد تحولت دولارات التبرعات الشعبية، لقوة سياسية لتحقيق أحلامهم quot;الايكولوجيةquot;. ويعقب الكاتب: quot;هناك ثلاثة قوى لاستمرارية الحياة: ضوء الشمس وماء المطر وحكمة استهلاك الموارد الطبيعية. وقد أساءت الحضارة المعاصرة لهذه الحكمة ومهارتها. فمع بدايات القرن العشرين فقد الجنس البشري عقلانية بقائه، فنشاطاته الحياتية منفصلة تماما عن تأثيراتها الخطيرة على البيئة والمجتمع والموارد الطبيعية. كما أدت عولمة التجارة والصناعة وتحريرها من أنظمتها المكبلة، لانتشار تأثيراتها السلبية في كل بقعة من قريتنا الكونية، والتي تنبئ بزوال الجنس البشري، بسبب زيادة الاستهلاك والتلوث بسرعة تفوق عن طاقة كوكبنا الاستيعابية. ونحتاج اليوم لتنشيط ذكائنا الايكولوجي، لنستطيع التعامل بكفاءة وتناغم مع البيئة والمجتمع وموردنا الطبيعية، لكي نقلل الضرر ونزيد من استمرارية الحياة.quot; ويوصف الذكاء الايكولوجي بأنه إمكانية التكيف بتناغم بين الإنسان والطبيعة، ويعرف الايكولوجي بفهمنا للكائنات الحية، ونظامها البيئي ومواردها الطبيعية، كما يعرف الذكاء بالقدرة على الاستفادة من الخبرات المجتمعة لتأثير النشاطات البشرية على نظامنا البيئي بكفاءة وتناغم لتقليل الضرر وزيادة استمرارية الحياة. ويجب أن تفتح هذه اليقظة أفاق جديدة وتغيرات في فرضياتنا ومداركنا، والتي ستؤدي لثورة ليس فقط في تجارتنا وصناعاتنا، بل أيضا في أفعالنا وسلوكنا الشخصي. وقد نحتاج للتفريق بين قدراتنا العقلية التي تساعدنا للنجاح في المدرسة، عن القدرات الأخرى التي تساعدنا النجاح في الحياة والتعامل مع تحدياتها، والتي تشمل قدرتنا الفريدة في التكيف مع التغيرات البيئة، وتمتد لقدراتنا في فهم القوانين الطبيعية من خلال العلوم الفيزيائية والكيماوية والبيئية وتطبيقاتها على ديناميكية الحياة من مستواها الذري لمستواها العولمي. ويشمل الذكاء الايكولوجي أيضا، فهم تناغم العمل بين الأشياء والطبيعة، وذلك بفهم التفاعل والتشابك بين الطبيعة ونظامها والنشاطات البشرية، بالإضافة لفهم تأثيراتها على كوكبنا وصحتنا وعلى نظامنا الاجتماعي. ويجمع الذكاء الايكولوجي هذه المهارات الذهنية مع عاطفة التراحم والتعاطف مع أنوع الحياة المتنوعة في كوكبنا الأرضي.
ويعمل نظام الطبيعة على عدة مستويات، وضمن دورات بيئية متكررة، فمثلا دورات البيولوجية الكيماوية لدورة الكربون، تعمل للمحافظة على نسب الكربون في الهواء بشكلها الطبيعي بخلق توازن بيئي بين كمية الكربون المنتجة في الهواء من النشاطات البشرية والحيوانية، والكميات المستهلكة منه في النباتات. فحينما تزيد نسب السكان والسيارات والمواشي في البيئة تزيد نسب الكربون في الهواء، بينما تقل هذه النسبة بزيادة زراعة النباتات والأشجار. كما يزيد الذكاء الاكلوجي الرحمة في قلوبنا، بإدراكنا الذهني للانهيار البيئي، كجفاف الغابات وذوبان جبال الثلوج وزيادة مستوى الماء في البحار وقلة الأمطار ونقض نسب المياه العذبة في الأنهار. وتتحقق فائدة الذكاء الاوكولوجي حينما يكون ذكاء مجتمعي شامل ومتناغم، يعرف جميع أبناء المجتمع التأثيرات الخطرة للتغيرات البيئية والعمل على الوقاية منها وتحسينها والمشاركة في تبادل معلومات أخطاره. ويناقش الكاتب التطورات المستقبلية المتوقعة في الصناعة ومنتجاتها لكي تتحول صديقة للمجتمع والبيئة ومواردها الطبيعية، وذلك بتحديد نسب انبعاث الكربون في الصناعة وكفاءة استهلاك هذه الموارد. فمثلا ستحدد شركات الطيران نسب الكربون التي ستضيفها كل رحلة جوية للبيئة، فرحلة نيويورك إلى فرانكفورت تضيف سبعمائة كيلوغرام من الكربون. كما سيحتاج صنع بطاطا الشبس وسيحتاج صنع بطاطا الشبس وإيصاله ليد المستهلك لإضافة خمسة وسبعين جرام من الكربون في الهواء. ويمثل هذا الرقم قيمة لحسابات معقدة، تبدأ من معرفة كمية الكربون المنبعثة من استهلاك الطاقة لزرع بذور البطاطا وعباد الشمس، بالإضافة للحصاد والتنظيف والقطع والقلي والتغليف والخزن والشحن، مع صنع الأكياس وتلوينها، والتخلص منها برميها في الزبالة، وجمع الزبالة ونقلها ودفنها أو حرقها. وتنتقل البطاطا منذ زرعها في الحقل وحتى رمي أكياسها في الزبالة حوالي ألف وخمسمائة ميل في الولايات المتحدة، وتختلف كمية انبعاث الكربون حسب نوع وسيلة النقل، فنسبة انبعاث الكربون بالنقل الجوي أكثر بستة أضاف من النقل البحري وخمسة أضعاف النقل البري. كما نحتاج تذكر أهمية المحافظة على مواردنا الطبيعية، فقد بدأت دول العالم تعاني من قلة المياه العذبة، ونحتاج لذكاء أوكولوجي لكي نحافظ على استدامة المياه الباقية، وقد نستغرب حينما نتذكر بأن قنينة الكولا التي نشربها تحتاج لمائتي قنينة ماء، لكي توفر محتوياتها من السكر، بزرع قصب السكر وترويته. كما ينتج بلاستيك القنينة ذرات سامة من مادة البيسفينول المضادة للهرمونات الذكرية، والتي تزداد كميتها لخمسة وخمسين ضعف حينما يكون محتوى القنينة ساخنا.
ومن التحديات الكبيرة في التعامل مع التحديات الايكولوجية هو وجود فجوة في المعلومة البيئية، فمثلا حينما نشتري جهاز فيديو رخيص، نحتاج للمعلومة للإجابة على الأسئلة التالية: كيف أمكنهم صناعة هذا المنتج بسعر رخيص؟ فهل خفضوا رواتب العمال؟ وكيف كانت حياة هؤلاء العمال؟ وهل كان بينهم أطفال يعملون بأجور رخيصة؟ وما هي المواد التي استخدموها؟ فهل هي مواد سامة؟ وكيف تخلصوا من المخلفات الصناعية؟ فهل رموها في النهر أم حرقوها؟ وما هي نوعية الطاقة التي استخدمت في المصنع؟ هل هو طاقة ملوثة أو نظيفة؟ وما هي كمية المياه المستخدمة في هذا المصنع؟ وما هي نوعية الأصباغ التي تستخدم؟ وهل بها مواد سامة سرطانية؟ وهل تدفن مخلفات المصنع؟ وما تأثيرات هذا المصنع على المجتمعات التي تحيط به، وعلى المواطنين؟ وهل ممكن الحصول على جميع هذه المعلومات حينما نشتري المنتج؟ وكيف يستطيع فهم الإنسان العادي هذه المعلومات والأرقام بسرعة خاطفة؟ وهل هناك حل يسهل على المستهلك أن يفهم بذكائه الايكولوجي كل تلك التفاصيل وبسرعة؟ وهل ممكن أن توضع على المنتج عدد من النجوم الخضراء لتعبر على مدى سلامة هذا المنتج للبيئة والمجتمع وموارده الطبيعية؟
ولتحديد ايكولوجية المنتج وتحديد نجومه الخضراء نحتاج لكمية هائلة ومعقدة من المعلومات، وقد وضح البروفيسور ستجلتز ذلك بقوله: quot;عدم التناسق المعلوماتي بين المستهلك والشركات يخلق فجوة في عدالة وكفاءة تنافس السوق، ليؤدي لشلل الكفاءة التجارية، بينما تؤدي المعلومات الصحيحة عن المنتج لأن يحدد المشتري قرارات صائبة ذكية. فالمعلومة لها قيمة إضافية وتتحول لقوة مؤثرة في تجارة التسوق، والتي تحددها ليست فقط الربحية المادية بل أيضا تأثيراتها الايكولوجية على البيئة والمجتمع وموارده الطبيعية. كما سيحتاج اختياراتنا لشفافية اكولوجية لمعرفة التفاصيل الايكولوجية لكي نقرر شراء البضاعة المناسبة التي تحمي في صناعتها البيئة ومواردها الطبيعية والبشرية. وستؤدي هذه الشفافية لثورة خضراء والتي ينادي بها الرئيس اوباما، وستترافق بثورة تكنولوجية تصنيع هائلة ورابحة. ويقول البروفيسور ستجلتز: quot;لا تتم الثورة ببساطة باختراع تكنولوجية جديدة، بل تنجح حينما تؤثر هذه التكنولوجية في خلق سلوك وأخلاقيات جديدة. والشفافية الخضراء ستكون قوة في السوق حينما تعتمد عليها المستهلكين لإصدار قرارات الشراء، كما سيساعد التواصل التكنولوجي بالانترنت لتبادل المعلومة حول جودة البضائع والمنتجات، والثورة على الشركات المصنعة المخالفة لقوانين المحافظة على البيئة، وعلى تكافل المجتمع بتوفير بيئة عمل صحية وأجور مناسبة ورعاية صحية وتدريب عملي وتأمين تقاعد وتعطل، والدفاع عن العمال في اتحادات عمالية متعاونة عادلة، واستدامة الموارد الطبيعية.quot; كما يقترح البروفيسور جوزيف ستجلتز مؤشر اقتصادي جديد سماه بالشبكة الخضراء للناتج القومي، بدل الناتج المحلي الاجمالي. والسؤال: هل سيطور التعليم في منطقتنا الذكاء quot;الايكولوجيquot;؟ وهل سيستثمر تجارنا في التكنولوجية quot;الايكولوجيةquot;؟

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان