من مفكرة سفير عربي في اليابان
لقد بداء الشرق الأسيوي يراجع إنجازاته، ويتساءل عن عوائق تخلفه عن ركب حضارة الغرب، بعد أن واجهه تقاطع طرق بين تطورات تكنولوجية الاتصالات والمواصلات وتحول العالم لقرية عولمة صغيرة، وبين انتشار نظرية صراع الحضارات ومفاهيم نحن وأنتم ومعنا أو معهم. ولو راجعنا تحديات منطقة المينا (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) لوجدنا تقارب بينها وبين التحديات التي تواجهها الدول الأسيوية. فهناك تشابه في تاريخ حضارات ثرية، وصراعات حروب عنيفة، واحتلال استعمار أجنبي، ونزاعات حدودية، وتباين أنظمة بين رأسمالية واشتراكية وبين ديمقراطية وشمولية، وحاجتها للتفاهم مع الغرب لضمان أمنها واستقرارها والتعاون معه لتطوير التكنولوجية اللازمة لتنميتها الاقتصادية والاجتماعية.
لقد بدأت شعوب الدول الآسيوية التعامل مع تحدياتها بشراكة عقلانية، فتناست حروب الماضي، وتقبلت أنظمتها المتباينة، وناقشت خلافاتها ونزاعاتها في مجموعة أسيوية إقليمية بصراحة، وجاهدت لكي تحول هذه المجموعة لقوة اقتصادية تستطيع التعامل مع تحديات العولمة. ويبدو بأن شعوب منطقة المينا ستحتاج لنفس هذه المراجعة في التفكير، وسيفرض عليها واقع العولمة الجديد التساؤل عن مدى إمكانية استفادتها من تجربة الإتحاد الأوروبي، لتبعد عن بلدنها شبح الحروب المدمرة، ولتوفر الأمن والاستقرار لدولها وأنظمتها، ولتطور بالتعاون مع الغرب التكنولوجية اللازمة لتحقيق التنمية المرجوة.
وقد لفت نظري كتاب للبروفيسور كيشور محبوباني عن مدى تقارب التحديات الأسيوية من التحديات التي تعاني منها شعوب منطقة المينا، كما وجدت في بعض تحليلاته ضالتي، بربطه لهذه التحديات بطريقة تفكير العقل الشرقي. فلنحاول عزيزي القارئ أن نتصفح معا هذا الكتاب، ونتدارس مدى تقارب التحديات الآسيوية من تحديات منطقة المينا، فقد ننجح في الاستفادة من هذه التجربة للتعامل مع تحديات مجتمعاتنا العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة.
لقد ربط البروفيسور كيشور مهبوباني، عميد كلية السياسات الحكومية بجامعة سنغافورة والسفير ووزير الخارجية السابق، علاقة التحديات التي تعاني منها منطقة آسيا بطريقة التفكير العقل الأسيوي، في كتابه، هل يستطيع العقل الأسيوي التفكير؟ فيعلق في مقدمة كتابه بالقول: quot;بالنسبة لي كشخص آتي من سنغافورة بسكانها الثلاثة ملايين، أتصور بأنها معجزة أن تستطيع دولة صغيرة، كالبرتغال، وبتعدادها السكاني القليل، أن تستعمر مناطق مثل جوا وماكاو وملاكا، وهي مناطق في بلاد واسعة وتملك حضارات قديمة وعظيمه. والأغرب بأن يتم ذلك الاستعمار في القرن الخامس عشر، ويتبعه الاستعمار الاسباني والهولندي والفرنسي والبريطاني. فقد سمحت شعوب آسيا، وخلال فترة طويلة وتتجاوز الثلاثة قرون، بأن تستعمرها مجتمعات صغيرة. ولم تكن معضلة آسيا احتلال أرضيها فقط، بل الأخطر من ذلك الاستعمار الذهني الذي أدى للشعور بعقدة النقص بأن شعوبها أقل كفاءة وحضارة من الغرب. وقد تفسر عقدة النقص هذه سبب استعمار قلة مكونة من عدة آلاف من البريطانيين شعوب جنوب آسيا بعددها المائة مليون، ولم يمحى هذا الاستعمار الذهني حتى الآن من عقولنا، بل تصارع مجتمعاتنا الآسيوية لمحاولة التخلص منه. والغريب بأنه، وحتى الآن، وبعد خمسمائة عام من وصول البرتغاليين، لم يستطع إلا بلد واحد في آسيا أن يتجاوز هذه العقدة ويحقق ما حققته دول الغرب. فقد كان العقل الياباني أول المستيقظين في عصر الميجي، في القرن التاسع عشر، ليعترف الغرب بتقدمه، ويقبله كند متساوي في التحالف الانجليزي الياباني في عام 1902.quot;
ويركز كيشور محبوباني محور نقاشه في السؤال التالي: هل فعلا يستطيع العقل الآسيوي أن يفكر؟ ولماذا لم يستطع إلا بلد واحد في آسيا منافسة الغرب؟ ويستطرد الكاتب في الجواب بالقول: quot;ليسمح لي القارئ أن أبداء الحوار بالإجابة على هذا السؤال أولا بنعم، وثانيا بربما.quot; فربط الكاتب جوابه بنعم يستطيع العقل الآسيوي التفكير، بالنجاحات التي حققها شعوبه في التعامل مع تحديات مجتمعاته، وبينما ربط الإجابة بربما بالتحديات التي لم يستطع حتى الآن تجاوزها. فعرض الكاتب دور تفكير العقل الآسيوي في ما حققته من كفاءة في الأداء الاقتصادي اليابان، وتبعته النمور الأربعة الجديدة وهي كوريا الجنوبية وتيوان وسنغافورة وهون كونج، بالإضافة لما حققته الصين والهند. فقد احتاجت بريطانيا 58 عاما لكي تضاعف إنتاجها الاقتصادي، واحتاجت الولايات المتحدة 47 سنة، بينما احتاجت اليابان إلى 33 سنة. كما استطاعت شعوب بعض الدول الأسيوية بفضل تطور تفكير عقولها بالتعليم والتدريب وبانتشار ثقافة احترام الوقت والعمل المنتج، وبالاستفادة من التكنولوجية الحديثة لخفض هذه المدة بشكل مبهر، فضاعفت اندونيسيا إنتاجها الاقتصادي خلال 17 سنة وجنوب كوريا خلال 11 سنة والصين خلال 10 سنوات.
وربط الكاتب تطور تفكير العقل الأسيوي بالتغير الذي حصل عن الاعتقاد السائد بأن دول آسيا تحتاج لتقليد الغرب لكي تحقق تقدمها التكنولوجي ونموها الاقتصادي والاجتماعي. فهو يؤمن اليوم بأن الطريق الغربي لا يناسب واقعه، بل على شعوبه أن تختار طريقها الخاص المرتبط بمجتمعها وحضارتها وثقافتها وقيمها، كما عليها الوقاية من سلبيات التجربة الغربية بمشاكلها الاجتماعية المعقدة البارزة بتفكك الرباط العائلي وانتشار المخدرات والجريمة. كما تغير العقل الأسيوي بإيمانه بقناعات جديدة، تعتقد بأن تقدم مجتمعاته تحتاج لأنظمة ديمقراطية لبرالية معاصرة، تحترم الحرية الفردية، وتقدر صعودها في السلم الاجتماعي بكفاءة جهودها وأخلاقياتها لا بعروقها وألقابها. وربط الكاتب تطور تفكير العقل الأسيوي بانتقال الفرد من مرحلة التفكير في توفير حاجياته الغريزية من مأكل ومشرب ومسكن، لمرحلة التفكير في توفير حاجياته النفسية والذهنية. فبعد أن توفرت للفرد حريته الاقتصادية، بدأ العقل الآسيوي يفكر ويراجع ثقافته وحضارته، مما زاد ثقته بنفسه حينما أكتشف بأنه أرثه الحضاري ثري بالثقافة والفلسفة.
وأكد الكاتب بأن الشرق الأسيوي قد نجح في التعامل مع التحديات الاقتصادية الجديدة، فأتقن أساسيات علم الاقتصاد الحديث، وحرر سوقه الحرة، وشجع الاستثمار الأجنبي، ومارس سياسات مالية مدروسة وحذرة، وزاد مدخراته المحلية ليحمي اقتصاده، وطور قيادات وخبرات اقتصادية أثبتت مهاراتها في الأزمات. كما نجحت الحكمة الصينية أن تترجم الأزمة المالية لعام 1997 لخطر وفرصة، فاستفادت من خطورة الأزمة كفرصة لبناء نظام اقتصادي ومالي وإداري متطور، يستطيع ألتعامل مع تحديات سوق العولمة. كما درست هذه الدول حاجتها لبناء مجتمعات تجمع الاستقرار السياسي والتناغم الاجتماعي، فراجعت ما حققه الغرب من أنظمة مستقرة ينعدم فيها الانقلابات العسكرية، وتنعم بسلام عادل بينها بعد أن خفضت نسبة فرص الحرب بين دولها للصفر، وتساءل: متى ستصل الهند وباكستان والكوريتين لهذه النسبة؟
وناقش الكاتب التحديات الاجتماعية الخطيرة في الشرق الأسيوي. فمع أن التقدم الصناعي في الغرب قد قضى على الإقطاع التقليدي، ولكنه ليس من الواضح متى ستؤدي التطورات الصناعية والاقتصادية لتحول دول آسيا من quot;مجتمعات الرشوة والفساد والوساطةquot; لمجتمعات الكفاءة والجودة، بحيث أن يستطيع المواطن النمو معتمد على مهاراته وكفاءته لا على أساس مولده وارتباطاته العائلية. وناقش الكاتب القيم والأخلاقيات في المجتمعات الأسيوية، وتساءل إن كان يستطيع العقل الأسيوي أن يطور خلطة من القيم وقوة التقاليد والأخلاقيات الأسيوية، ويربطها بالتواصل العائلي والتناغم المجتمعي واحترام المؤسسات والقوانين والدفاع عن المصالح المجتمعية والتأكيد على الانجاز والنجاح الفردي والحرية الاقتصادية والسياسية واحترام القوانين ومؤسسات الدولة. ويعتقد الكاتب بأن هناك علاقة قوية في آسيا بين الحكومات الناجحة ومرونة تعاملها مع الأزمات المالية، والتي لا تتحدد بارتباطها بأيديولوجية معينة بل برغبتها وتمكنها من تطوير نظام اقتصادي واجتماعي وإداري مرن لكي تستطيع التعامل مع التحديات الاقتصاديات المعاصرة. ويعتقد الكاتب بأن الصين خير مثل لذلك، حيث أن قياداتها لا تطمح في نظام سياسي مثالي نظري، بل تبحث عن حلول عملية يومية لتطوير مجتمعاتها.
نلاحظ كيف استطاع الشرق الأسيوي أن يوفق في خطواته الإصلاحية حينما تجراْ وتساءل: هل يستطيع العقل الأسيوي أن يفكر؟ والسؤال: هل حان الوقت لشعوب منطقة المينا أن تتجرأ وتسأل نفس السؤال؟ وهل سيؤدي تفكيرها للقناعة بالحاجة لإصلاحات تحمي أنظمتها من الانقلابات، وتقلل نسبة الحروب بين دولها للصفر، وتهيئ حكوماتها لمرونة تستطيع التعامل مع تحديات مجتمعاتها بشكل واقعي يومي، وتختار قيادات لبرلماناتها تتجنب صراعات الأيدولوجيات النظرية وتتفرغ لتحقيق التنمية لمجتمعاتها، بتوفير حاجياته الغريزية في المأكل والمشرب والمسكن، وحاجياته النفسية والذهنية في عمل منتج ومبدع، وحاجياته الوقائية في التعليم والرعاية الصحية وتأمين التقاعد والتعطل؟ وهل حان الوقت لمؤسساتنا الدينية الفاضلة التفرغ لاختصاصها في نشر أخلاقيات وقيم الدين، وحماية مجتمعاتنا من الطائفية، بزرع بذرة التالف والتراحم والتناغم وحب العمل والإبداع في إنتاجيته؟
سفير مملكة البحرين في اليابان