من مفكرة سفير عربي في اليابان
يتساءل البعض: هل أزمة الوول ستريت أزمة قاتلة مشابه للتجربة السوفيتية؟ أم هي أزمة مؤقتة في تجربة نظام ذات مناعة عالية، يتميز ببيئة ديمقراطية، وبحرية الفكر، وجرأة التساؤل والانتقاد، وبراعة الإبداع، يتقبل التغير، ويستطيع التطور للتعامل مع التحديات، بدراسة الأسباب، ومحاولة علاجها، والوقاية من تكرارها؟
تستلهم التجربة الأمريكية جذورها من الفلسفة الرأسمالية للبروفيسور الأسكوتلندي ادم سميث، أستاذ علم المنطق وفلسفة الأخلاقيات بجامعة غلاسجو، في القرن الثامن عشر. وقد شرح في كتابه ثروة الأمم، أهمية اليد الخفية للتجارة الحرة، والتي تنظم نفسها بنفسها. كما أكد في كتابه الآخر، نظرية أخلاقيات الوجدان، أهمية اليد المرئية للتجارة الحرة، والتي تعبر عنها القوانين التي تحافظ على توازن هذه التجارة، بالوقاية من التلاعب والغش والجشع والاستغلال والاحتكار. ويعتقد سميث بأن الحرية تخلق الإبداع، ولن يتطور الإبداع إلا إذا توفرت حرية التجارة، لتشجع المبدعين على تحويل اختراعاتهم لمنتجات مربحة لهم ولمجتمعهم، وذلك بإنشاء مؤسسات تمول بشراكة مساهمة، يساهم المخترعون بأفكارهم، ويشارك المواطنون بالأموال.
وبعد أن انتهت المنافسة السوفيتية في التسعينات، وتحول العالم لقرية تكنولوجية اتصالات صغيرة، فرضت الولايات المتحدة نظامها الاقتصادي على العالم. فنشرت عولمة تجارة السوق، وهيمنت عليها بالاتفاقات التجارية الثنائية، واغترت بثرائها وتطور تكنولوجيتها الصناعية، وتصورت بأنها ستسير العالم الجديد بنظامها الاقتصادي، وبقوة جبروتها العسكري. وبعد صدمة الحادي عشر من سبتمبر في عام 2001، وجهت جبروتها المالي والعسكري لكي: quot; تصدر الموت والعنف إلى أربع زوايا الكرة الأرضية للدفاع عن الأمة الأمريكية العظيمة.quot; كما قالها الرئيس الأمريكي، وقد تكون هذه السياسة الجديدة بداية زرع بذور أزمة الوول ستريت الحالية.
لقد علق عضو مجلس اللوردات البريطاني والوزير السابق في حكومة السيدة مارجريت تشر، ديفيد هول، بصحيفة اليابان تايمز في الثالث من اوكتوبر لهذا العام، بمقال بعنوان، التكيف مع تغير القوى، يقول فيه: quot;سياسيو الولايات المتحدة وأوروبا استمروا يتكلمون عن قيادة العالم، وكأنه حق من حقوقهم. وتستمر حكوماتهم الافتراض بأن قوتهم في إدارة العالم لم تتضاءل. والحقيقة هي أن قوتهم قد بهتت في واشنطن وبروكسل، فقد أصبح الغرب مبتليا بالقروض والتبذير، والتوقف عن المنافسة، بينما تتراكض آسيا، السريعة النمو، والشرق الأوسط، بغنائه النفطي، لانقاد المؤسسات المالية الغربية. وانتقلت القوة للشرق، ومن الحكومات للشعوب، ولكن لا يعني ذلك بحلول إمبراطورية جديدة مكان إمبراطورية قديمة، فقد ساعد الميكروشبس خلية عنف صغيرة أن تتحدى جبروت القوى التقليدية. واكتشفت الإدارة الأمريكية أخيرا، وبذهول عجيب، بأن الإنفاق العسكري لن يساعدها على قيادة العالم. وقد أتت الإمبراطورية البريطانية ورحلت، وجاءت الإمبراطورية الأمريكية واختفت بتراكم ديونها وضعف دولارها. بينما تراكمت مدخرات الذهب والدولارات في البنوك المركزية الأسيوية، ليؤكد ذلك بأن العالم تغير جذريا. فالوول ستريت لا يحكم سوق المال اليوم، وتكنولوجية المعرفة الغربية وعباقرتها، الذين أعطوا بلدانهم قوتها، هم يحطمونها اليوم بحيلهم الإبداعية المالية السامة. وقد أتجه المال والهيمنة للشرق، وأبتعد عن الغرب تماما.quot; وتساءل الكاتب: هل ستتكيف أمم الغرب مع هذه الصدمة الكبيرة؟ وهل سيقللوا من تبذيرهم ويخفضوا من ديونهم، ويرممون تعقلهم المالي، ويتصرفون كشريك متواضع ومحترم، بدل أن يستمرون كحكام متغطرسين في شبكة العولمة؟ ويعتقد الكاتب بأن يحتاج تحقيق ذلك للقبول quot;بأن النظام المالي ليس احتكار غربي يرقص العالم على إطاعته، وبذلك سيكون بداية الحكمة، وهي بداية الرجوع للتوازن والاستقرار في العالم.quot; تلاحظ عزيزي القارئ كيف شخص الوزير حقيقة الأزمة وربطها بزيادة الاستهلاك الشعبي والبذخ الحكومي وقلة الإنتاجية ونقص الإبداع.
وقد حاولت الإدارة الأمريكية بإيجاد حلول لهذه الأزمة بالموافقة على اقتراح وزير المالية بدعم السوق بسبعمائة مليار دولار. فهل فعلا سيحل هذا المبلغ الأزمة الحالية؟ لقد ناقش روبرت صميولسون هذا الموضوع بصحيفة اليابان تايمز الصادرة في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر الماضي في مقالة بعنوان، ليس هناك دواء معالج لذعر بوليسون، فقال: quot;لم يجد بوليسون علاج لصدمة الوول ستريت إلا بشراء الحكومة سندات خطرة بقيمة سبعمائة مليار دولار، وتصوره بأنها ستحل الأزمة، وهو في حلم غير واقعي. فتأميم كمية لم يسبق لها مثيل من الدين الخاص لن يؤدي إلا لتغطية أعراض الأزمة لا لحلها.quot; ويؤكد التاريخ الأمريكي ذلك، حينما جمد الرئيس نيكسون الرواتب في عام 1971، انخفض مؤشر الاستهلاك ل 1% بعد أن كان معدله السنوي 4%. وبقى التضخم مخفيا تحت غطاء سيطرة الحكومة، وبقيت نسب البطالة 4%. واستمرت الحكومة بضخ الأموال في السوق، وحينما رفعت غطاء الدعم في عام 1974 زاد التضخم إلى 12%، وارتفعت نسب البطالة إلى 10.8%. وقد حيرت القروض العقارية في هذه الأزمة الأسواق المالية، مما أدى بفقد الثقة بين البنوك، وخفض الاقتراض بينها. ويعتقد بوليسون بأن شراء الخزانة لهذه القروض، سيقلل الخوف من وضع السوق المالية. ولكن المشكلة هي أن التخوف قد تجاوز القروض العقارية، وامتد للتأمينات التقاعدية وشركات التامين وقروض التعليم، وحتى قروض السيارات وقروض البطاقات الائتمانية والممتلكات التجارية. وقد أدى ذلك لخفض القروض إلى 80% في عام 2008، كما هبط إصدار سندات الشركات العملاقة بنسبة 22%، بينما انخفض إصدار سندات ذو الإرباح العالية الخطيرة بنسبة 65%. ويعني كل ذلك بأن الشركات والمصانع لن تستطيع الحصول على القروض اللازمة لتسير عملها، وقد يؤدي ذلك لإفلاسها. كما أدى جمع القروض العقارية في رزم إستثمارية معقدة، لصعوبة فهم الأوضاع المالية في السوق، والجهل يسبب الخوف، والخوف في تجارة المال يولد الكساد. كما ستتعقد الأمور بزيادة الحاجة للمال، حينما تحاول المؤسسات المالية بيع بعض السندات والأسهم لتغطية ملتزمات قروضها. وسيؤدي ذلك لقلة توفر المال للشركات الصناعية والتجارية، مما سيوقف خططها الإنمائية ويخفض أسعار أسهمها. كما سيؤدي زيادة الحاجة للمال للخوف من أزمة مالية حادة، فيبدأ البعض ببيع الأسهم، لتزداد كميتها في السوق وتنخفض أسعارها، وليتضاعف الخوف. وقد توقف خطة بولسون هذه الحلقة من الخوف، وتساعد المستثمرين للتخلص من القروض والسندات الغير مضمونه، ولكنها لن تشجع الإقراض من جديد ولن تنشط أسواق الأسهم، ولن توقف الافلاسات، quot;بل سيحتاج الأمر للوقت والصبر لمعرفة هل سيوقف الانهيار أم سيخلق وحش جديد يحطم النظام المالي بأكمله.quot;
فتلاحظ عزيزي القارئ بأن هذه الأزمة هي عرض لمرض، بدأ مع زيادة الغرور بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فتفرد الغرب بنشر عولمة حرية تجارة السوق حسب شروطه، وفرض اتفاقيات ثنائية تحرر التجارة من قيود الأنظمة والقوانين التي تقي من التلاعب والاستغلال والاحتكار. وقد زاد الطين بلة بعد الحادي عشر من سبتمبر حينما أعلنت القيادة الأمريكية بأنها ستنشر الرعب والموت في أربع زوايا الكرة الأرضية للدفاع عن الأمة الأمريكية. فسياسة العين بالعين أدت لتحول العالم لعالم أعمى كما قالها الزعيم الهندي العظيم مهاتما غاندي. وتوسعت الحرب على الإرهاب للحرب في أفغانستان والعراق، ليخسر العالم الأرواح والأموال في سياسة ضريرة من الحقد والانتقام والعنف. لتنتهي بخسارة الغرب لحريته وسمعته، وزيادة مصاريفه الأمنية والعسكرية، ولتنخفض ميزانية الرعاية الصحية والتعليم والتدريب والبحث العلمي، وليقل الإبداع وتنخفض نسب التصدير وترتفع نسب الاستيراد. واستمرت شعوبها في التبذير والاستهلاك، لترتفع ديون بلادها، وتنخفض أسعار عملاتها. فأزمة الوول ستريت لن تعالج إلا بتواضع الغرب للعمل بتناغم مع دول العالم للتعامل مع تحديات الألفية الثالثة بحكمة وصبر لازدهار العالم ورخائه وسعادته. والسؤال: هل ستكون أزمة الوول ستريت بداية عصر مشاركة عولمة متناغمة، ونهاية لغطرسة عالم القوى العظمى؟ وهل ستستفيد مجتمعاتنا العربية من هذه التجربة، لتقلل البذخ وتشجع الادخار؟
سفير مملكة البحرين في اليابان