من مفكرة سفير عربي في اليابان
بعد تخمة الأخبار المتكررة عن الخصخصة، وأرباح البنوك، وزيادة أسعار الأراضي، نزلت علينا فجأة صدمة أزمة الوول ستريت، وكآبة هبوط أسعار الأسهم، وإفلاسات المؤسسات المالية. وبين هذه العواصف المحزنة، مرت علينا نسمة ثقافية عطرة، خبر تعين الشيخة مي آل خليفة كأول وزيرة للثقافة والأعلام بمملكة البحرين. وكأن أزمة المادة تلفت النظر للروح، وأزمة المال تنبه الذهن لثروة الثقافة والمعرفة. ولن تحتاج إنجازات ومواقف هذه السيدة الفاضلة قلم يوصفها، ولكن ليسمح لي القارئ العزيز أن أناقش الفلسفة التي دافعت عنها من خلال كتاباتها العلمية المرجعية، وإنجازاتها في مجالات الأدب والفن، وصراعها للدفاع عن ثقافة الحياة، لزرع أزهار ما بعد الحداثة بين غابات الإبداع العلمي والحدائق الروحانية. وقد أكدت جميع الأديان بأن على الإنسان أن يعمل لدنياه وكأنه يعيش للأبد، وأن يعمل لآخرته وكأنه يعيش للغد، وبأن يستفيد من الحياة التي وهبها الخالق جل شأنه، ليعمل ويبدع، ليكتشف أسرار الطبيعة ويتفهم علومها الفيزيائية، ليطور العلوم التكنولوجية، وليوجههما من خلال العلوم الروحية والإنسانية لازدهار البشرية وإسعادها. وقد اهتمت جائزة كيوتو اليابانية العالمية بهذه الفلسفة، كما فاز أحد فلاسفتها في هذا العام بالجائزة. فما هي جائزة كيوتو؟ ومن هو هذا الفيلسوف؟ وما هي الفلسفة التي نتحدث عنها؟
لقد أنشاء السيد كوزو ايناموري في عام 1985 مؤسسة ايناموري العالمية، لتكون مسئولة عن اختيار ثلاثة من خيرة علماء العالم سنويا، في العلوم الأساسية الطبيعية والعلوم التكنولوجية الصناعية والعلوم الروحية الإنسانية، لجائزة سميت بجائزة كيوتو. يحصل الفائز على شهادة تقديرية وميدالية ذهبية مرصعة بالجواهر الثمينة، بالإضافة لجائزة نقدية قيمتها ستين مليون ين ياباني. ويشرح السيد إيناموري، مؤسس شركة كيوسيرا التكنولوجية العملاقة، أهداف هذه الجائزة بالقول: quot; تعتمد جائزة كيوتو على الفلسفة التي أؤمن بها، وهي بأنه لن نطمئن على مستقبل البشرية، إلا من خلال خلق التوازن اللازم بين تطور العلوم المادية والعلوم الروحية. وأعتقد بأنه يجب خلق التوازن في ذات الإنسان بين ذكاءه الذهني والعاطفة والإرادة. فالحضارة التي تهتم بالذكاء الذهني، وتبخس قيمة العاطفة والإرادة الإنسانية، هي حضارة آفلة. فقد تقدمت العلوم الطبيعية والتكنولوجية بشكل مدهش في القرن العشرين، ومع بداية القرن الواحد والعشرين ستكون مسؤوليتنا الأساسية أن نرفع العلوم الروحية لنفس المستوى الذي حققته تلك العلوم، لنستطيع التعامل مع اختراعاتها بحكمة. وتختار اللجنة سنويا، ثلاثة من خيرة علماء العالم، الذين خلقوا في نفوسهم التوازن بين الذكاء الذهني والعاطفة وقوة الإرادة، والتي قدمت فلسفتهم وأرائهم العلمية للإنسانية اقتراحات فاضلة، لترفع من قدر أذهاننا وتشرفها.quot; وقد فاز بجوائز هذا العام البروفيسور ألأمريكي رتشارد كارب الأستاذ بجامعة بيركلي عن أبحاثه في لوغريثمات الكومبيوتر، والبروفيسور البريطاني انتوني بوسون الأستاذ بجامعة تورونتو عن اكتشافاته لمستقبلات أنزيمات التواصل الخلوي، والفيلسوف الكندي شارلز تايلور الأستاذ بجامعة ماجيل عن دراساته حول الحداثة والعلمانية والدين. فلنناقش معا عزيزي القارئ فلسفة هذا الفيلسوف الكندي المتدين.
لقد شرح الفيلسوف تايلور في خطاب قبوله الجائزة، كيف أن عصر العلمانية الذي نعيشه هو عصر طغت فيه مدنية المجتمعات التكنولوجية المتفتحة والمرتبطة بالمعلومة والإبداع الذهني، على ريفية المجتمعات الزراعية المنغلقة، والمترابطة عاطفيا، والمرتبطة بثقافة الأرض وقوة السماء والدعاء لنزول المطر. ويناقش في كتابه الجديد، عصر العلمانية، ثقافة الحداثة وما بعدها، وتحدياتها في الصراع القائم بين المؤسسات الدينية والمؤسسات العلمية. كما أكد على دور العلوم الحديثة في تنوير الذهن لفهم التعاليم الروحية للأنبياء، بل اعتبر دورها أكبر من دور المؤسسات الدينية في ذلك. وعرف العلمانية بأنها الوسيلة التي يحاول الإنسان الاستفادة من العلوم الفيزيائية والاجتماعية لتطوير الحياة ولكي يستنير بها لفهم الفلسفة الروحية للأديان. كما يرفض البروفيسور الفرضية التي تدعي بأن العلم يضعف ألإيمان، وبذلك يؤكد مقولة ألبرت أينشتين، عبقري القرن العشرين، والفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل، بأن quot;علم بلا دين فهو علم كسيح، ودين بلا علم فهو دين ضرير.quot;
ويؤكد البروفيسور تايلور بضرورة التعامل بحكمة مع الصراع المصطنع بين العلم والدين، والذي يعتبره مرتبط في حقيقته بالصراع بين المؤسسات العلمية والمؤسسات الدينية. ويعتقد بأن هناك حاجة للتعامل مع هذا الصراع بتفهم واقع ما بعد الحداثة الذي نعيشه، والمرتبط بالعقلانية، والديمقراطية والتصنيع والعمران المدني والتقدم الاجتماعي، وبيئة عالم العولمة الجديد. وقد بدأت كلمة الحداثة تنتشر في القرن السابع عشر مع التطورات العلمية والاختراعات الصناعية، وتعرضت مفهومها الإنساني لصدمة شديدة مع المحرقة اليهودية ودمار قنبلتي هيرشيما ونجزاكي. بينما انتشر مفهوم ما بعد الحداثة في مرحلة العولمة الجديد، بتطور البيئة العالمية للمجتمعات المدنية الديمقراطية والتي ترافقت بالتطورات التكنولوجية في عالم المواصلات والاتصالات. وتعبر كلمة المدنية عن البيئة المجتمعية التي تشمل تقدم البنية التحتية للمدن، من توفر المياه والكهرباء والمجاري والمدارس والمستشفيات، وحتى المواصلات والمطارات والمسارح والمطاعم والفنادق. كما ارتبطت بتطور الثقافة الاجتماعية المعتمدة على احترام حقوق الإنسان، والالتزام بالأنظمة والقوانين، مع ما يرافقها من إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية.
ويعتقد البروفيسور تايلور بأننا نحتاج لثقافة توازن بين حقوق الفرد ومصالح المجتمع، وبأن تهتم باحترام الوقت والالتزام بالقانون، لخلق شخصية مجتمعية تجمع بين الواقعية والمثالية ولتتوسطهما أخلاقيات السلوك. وستكون تحديات الألفية الثالثة هو خلق هذا التوازن بين العقل والروح، بين العلوم الطبيعية والعلوم الدينية، بين الإبداع المادي وبين الثقافة الروحانية، بين العبادات وأخلاقيات السلوك. كما تحتاج مجتمعاتنا للتعامل مع تحدي آخر، وهو تحدي خلق التناغم بين المؤسسات العلمية والدينية، وذلك بتحديد مسئوليات كل منها في مجالات الدين والتعليم والاقتصاد والقانون والسياسة والآداب والفنون والطب والهندسة والصناعة والتجارة والتكنولوجية.
كما يبدو بأن هناك خلافات حول مفهوم العلوم الروحية، فالبعض يربطه بالعبادات والسلوك، بينما يضم البعض الآخر تحت رايته جميع العلوم الإنسانية وبالإضافة للآداب والفنون. وقد عرف الداليلاما في كتابه، أخلاقيات للألفية الثالثة، السلوك الأخلاقي بأنه الالتزام بسلوك يراعي شعور وإحساس ومصالح الآخرين، بينما عرف العلوم الروحية بأنها القيم المرتبطة بالعمل الصالح والأخلاقيات، ودراسة الخيارات الأخلاقية للتعامل مع وقائع الحياة على مستوى العائلة والعمل وفي الحياة العامة، بالإضافة لتعامل مع الطبيعة. وتواجه مجتمعاتنا الحديثة اضطراب في التوازن بين المادة والروح، بين الواقعية والمثالية، فنحن على طرفي نقيض بين أحلام المثالية المستحيلة، وبين حقيقة الواقعية اللا أخلاقية أحيانا. لذلك دعا الداليلاما: لثورة سماها: quot;بثورة روحية،ولكنها ليست دعوة لثورة دينية، ولا حتى لدعوة للعيش بطريقة حياتية حالمة، ولكنها دعوة للتوجه بالبعد عن انشغالنا بذاتنا، دعوة لنحول انشغالنا للمجتمع الإنساني المرتبطين به فطريا وبقوة، وبتوجيه سلوكنا نحو مصالحنا المشتركة مع مصالح الآخرين.quot; ويعتقد بأنه من الممكن تحقيق ذلك بتطوير سلوكنا الإنساني، وذلك بإغناء قلوبنا بالمحبة والرحمة والعطف والسماحة، لنستطيع التعامل مع الآخرين بطريقة إنسانية فاضلة. كما نحتاج للسيطرة على العاطفة حينما نتعرض للظلم والاضطهاد، وذلك بالتوجه للعفو والرحمة والابتعاد عن الحقد والانتقام، وبتهذيبها بثقافة الأدب الفن والمعرفة. والسؤال: هل سنربي أطفالنا في الوطن العربي، للتمتع بثقافة الأدب والفن والمعرفة، والتمسك بأخلاقيات سلوك الاستقامة وتقدير المسؤولية والالتزام بالقانون والانضباط في الوقت ودقة العمل والإبداع فيه؟
سفير مملكة البحرين في اليابان