من مفكرة سفير عربي في اليابان
تتحدث تقارير الصحافة العالمية عن بدأ حركة حداثة في التطور البشري والاقتصادي بمنطقة الخليج العربي غير مسبوقة منذ قرون. ويبدو بأن هذه المنطقة قد تعلمت من خبراتها الشرق الأوسطية في القرن الماضي، واستفادت من فرصة ارتفاع أسعار الطاقة، لتتوجه لتهيئة أجيالها المستقبلية لتحديات الألفية الثالثة. وكتب صحفي الغرب مقالات عديدة يبدون إعجابهم بالخطوات الفاعلة لتحويل دبي لهونج كونج التجارة في منطقة الشرق الأوسط، وأبو ظبي واحة للمحافظة على البيئة، ودولة قطر مركزا للتعليم المتقدم، ودولة عمان نموذج للرعاية الصحية المجتمعية المتطورة، ومملكة البحرين منارا للثقافة الديمقراطية. كما تتجه دولة الكويت لمرحلة جديدة في تجربتها الديمقراطية وتنميتها الاجتماعية والاقتصادية، أما المملكة العربية السعودية فيعتقد اليابانيون بأنها تعيش ثورة عصر الميجي في التعليم والتصنيع.
وقد علق البروفيسور ساتورو ناكامورا، الأستاذ بجامعة كوبيه اليابانية، في احتفال اليوم السعودي الذي نظمته سفارة المملكة العربية السعودية بجامعة ويسادا في طوكيو الشهر الماضي بالقول: quot;أحد أكثر الدول التقليدية في الشرق الأوسط، المملكة العربية السعودية، تخطو بسرعة نحو الحداثة لتلحق بالتطور السريع في عالم العولمة الجديد. وهناك تساءل محير: كيف ستجمع هذه المملكة بين تقاليدها وإيديولوجيتها المحافظة وسياسات الحداثة الجديدة التي تهدف لتنمية الاجتماعية بالمشاركة الفاعلة في اقتصاد العولمة؟ وقد يذكرنا ذلك بعصر الحداثة في اليابان خلال حكم الإمبراطور ميجي.quot; لقد قارن البروفيسور التحديات التي واجهتها اليابان في عصر الإمبراطور ميجي لخلق توازن بين الاستفادة من خبرات الغرب التعليمية والتكنولوجية مع المحافظة على الثقافة والتقاليد اليابانية، وبين تطورات تجربة المملكة العربية السعودية اليوم بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله. وقد عبر سعادة سفير المملكة الأستاذ فيصل بن حسن طراد عن هذه التجربة في كلمته بمقولتين يابانيتين، أحدهما للأمير الياباني شتوكو تاشي يقول فيها: quot;روح الوئام والوفاق مع الآخرين هي أسمى الفضائل الموجودة على هذا الكون.quot; بينما تدعو المقولة اليابانية الثانية: quot;للتعلم ولو في الستين.quot; ولتعبر هاتين المقولتين عن الرؤية السعودية المستقبلية لوئام التعاون الدولي وللاهتمام بالتعليم والتدريب التكنولوجي المستمر لتلعب دورها القيادي في عولمة الألفية الثالثة.
لقد مرت اليابان قديما بفترات عصيبة في تاريخها من الحروب الأهلية بين العشائر والقبائل، وانتشرت هذه الصراعات للأقاليم بين لوردات الحرب الديميو، مما أدى لفقدان الاستقرار وتهميش سلطة الديوان الإمبراطوري. وقد أستطاع تيوتومي هيديوشي في منتصف القرن السادس عشر، بعد وفاة اودا نوبوناجا زعيم لوردات الحرب، أن يصبح زعيما مركزيا قويا يحكم كل الأقاليم وليلقب بنابليون اليابان. وانتقلت السلطة في عام 1603 لعساكر الشوجن بقيادة توكوجاوا ليازو، ليؤسس حكومة عسكرية مركزية قوية استمرت 264 سنة. وعرفت فترة الاستقرار هذه بعصر الايدو، حيث انتقلت فيها العاصمة من مدينة كيوتو إلى مدينة أيدو (طوكيو). فانتعشت التجارة وأزدهر التعليم، ولكن منع سفر المواطنين للخارج وأغلقت الأبواب عن دخول الأجانب للبلاد، وأوقفت البعثات التبشيرية، مما أدى للمعارضة الشديدة من روسيا وانجلترا والولايات المتحدة. فأصرت الولايات المتحدة على رفع حصار العزلة عن اليابان وفتح موانئها للسفن الأمريكية، وأرسلت القبطان ماثيو بيري في عام 1853مع أسطول حربي مكون من عشر سفن لينذر اليابان بالحرب، لتضطر لفتح موانئها للسفن الغربية وباتفاقيات غير مرضية للطرف الياباني. وقد غضب عساكر السموراي من هذه الاتفاقيات، وثاروا بانقلاب على حكام الشوجن عساكر الإقطاع، وأرجعوا السلطة للإمبراطور من جديد، وليصبح ميجي إمبراطورا لليابان في عام 1868.
وبداء عصر الميجي (التنوير) بالتطور العلمي والتقدم الصناعي وتحولت اليابان لبلد غنية وقوية. واستمرت رياح الحداثة بالاستفادة من العلوم والتكنولوجية الغربية، وانتهى نظام الإقطاع، وفقد عساكر السموراي امتيازاتهم. وتطور الجيش النظامي وشكلت حكومة مركزية قوية، وفرض نظام ضرائبي. وتطورت صناعة النسيج وتشعبت شبكات السكك لحديدية، وانتشرت خطوط السفن البحرية، وأنشئت مصانع كبيرة للحديد. وفرض التعليم الإجباري، فتقدم التعليم وتطور الاقتصاد، وفرضت قوة اليابان العسكرية احترامها على دول الغرب. وطورت مفاهيم دولة الشنتو اليابانية والتي أكدت على قدسية العائلة الإمبراطورية. وسمح بحرية العبادة، فانتشرت البوذية ونشطت المسيحية واستمرت الكنوفوشيسية كفلسفة أخلاقية، وازداد تفهم الشعب الياباني للايدولوجيا الغربية. وفي عام 1882 أعلن اوكوما شنجنوبو تشكيل الحزب الدستوري التقدمي، الذي طالب بنظام دستوري قريب للنظام البريطاني. وقام أنصار الحكومة بتشكيل الحزب الإمبراطوري الحكومي. وأمر الإمبراطور بتشكيل حكومة دستورية وتهيئة دستور للبلاد. فصدر الدستور في عام 1889، ليوافق على برلمان مكون من مجلس نيابي منتخب من الرجال المتجاوزة أعمارهم الخمسة والعشرين، و يدفعون 15 ينا من الضرائب السنوية، وليمثلوا هولا نسبة 1% من السكان. كما عين الإمبراطور مجلس للنبلاء، وأصبحت الحكومة مسئولة إمام الإمبراطور ومستقلة عن السلطة التشريعية. وتوفى الإمبراطور ميجي في عام 1912، فبني له معبدا وأعتبر احد آلهة الكامي اليابانية.
وقد قارن البروفيسور ناكومورا بين التاريخ الياباني والتطورات التاريخية في المملكة العربية السعودية. حيث سرد تاريخ المملكة منذ عصر الجاهلية وحتى بزوغ فجر الإسلام، ولتمر السنوات،ولتتحول الصحراء القاحلة والقبائل المتناحرة، بقيادة حكيمة وقوية، لمملكة موحدة. ليبدأ تاريخها الحديث في التقدم العلمي والتطور التكنولوجي والصناعي، لتصبح مركزا عالميا للطاقة يوفر للعالم 26% من حاجته. ولتتطور شركة ارامكوا خلال عقود قليلة، لترتفع قيمتها المالية لأكثر من 781 مليار دولار، ولتقوم بتطوير صناعة النفط في المنطقة، وتوفر للعالم منتجات نفطية متعددة، وتهيئ الآلاف من الشباب السعودي بالتعليم والتدريب لاستلام المسئولية. وأستطاع الملك عبد الله، بعد استلامه للحكم قبل ثلاث سنوات، تكملة مسيرة التطور والإصلاح التدريجي. فرفع ميزانية التعليم لثلاثة أضعاف لأكثر من خمسة عشر مليار دولار سنويا، وأصدر أوامره الملكية لإنشاء مائة جامعة وكلية خلال أربع سنوات قادمة. كما شاركت المملكة في منظمة التجارة العالمية لتنفتح البلاد على السوق العالمية، ولتمنع الاحتكار، ولتبدأ مرحلة متقدمة من الشفافية والمحاسبة.
وقد علق روبرت لاسي في كتابه، المملكة، بالقول: quot;فحينما تحتاج لتطوير النظام تحاول أن تختار اقصر الطرق الممكنة وبأقل وقت لتتجاوز العوائق، وستحتاج لمؤسسة علمية لتساعدك. لذلك اختارت المملكة شركة ارامكو لتقوم ببناء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا والتي ستكلف عشرة مليار دولار، لتكون جسر بين الشعوب والثقافات ولتخدم البشرية جمعاء.quot; وقد كتبت مجلة النيوزيك الأمريكية في الشهر الماضي تقريرا مفصلا عن هذه الجامعة. فستكون هذه الجامعة جامعة مشتركة، وبرامجها عالمية، وستستقبل خيرة طلاب العالم. وسيكون مقرها على شواطئ البحر الأحمر كواحة علمية حقيقة متقدمة. وستكون مسئولة عن ميزانيتها إدارة عالمية مستقلة، كما سيكون هناك مستشارين من خيرة جامعات العالم كجامعة كورنيل بولاية نيويورك وامبريل كولج بلندن، بالإضافة لأساتذة من جامعات أم أي تي واكسفورد وكالتيك وستانفورد. وستصبح من أغنى ست جامعات في العالم، وستلعب دورا في خلق بيئة علمية متقدمة للتفكير والإبداع وبحرية. وقد علق أحد قادة شركة أرامكو بالقول: quot;حينما تحاول أن تطور المجتمع تحتاج إلى نموذج، ويريد جلالة الملك أن تكون هذه الجامعة نموذجا يحتذي به في البلاد.quot; وتتوقع المجلة بداء أول منافسة علمية تكنولوجية بين الدولة العبرية التي تفتخر بجامعاتها ال 35 لسكانها السبعة ملايين، ودول المنطقة ممثلة بالمملكة العربية السعودية بجامعاتها ال 110 ولسكانها الاثنين والعشرين مليونا.
سفير مملكة البحرين في اليابان