من مفكرة سفير عربي في اليابان
يستغرب البعض بأن الشعب الياباني لم يغير المادة التاسعة من دستوره منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فبعد انتهاء الحرب ودخول جنود الحلفاء لليابان، أعد الفريق القانوني للجنرال الأمريكي ماكارثر الدستور الياباني لما بعد الحرب. وقد اضطرت القيادة اليابانية بالموافقة عليه في عام 1947 بعد تغيرات طفيفة، ولم تتغير أي من مواده منذ ذلك الوقت. وتتعلق المادة التاسعة من القانون باستخدام القوة لحل الخلافات الدولية وقد نصت المادة التاسعة من الدستور الياباني على ما يلي: quot;أن الطموح الصادق للشعب الياباني للسلام العالمي يعتمد على العدل والقانون الذين يرفضان الحرب أو استخدام القوة لحل الخلافات الدولية. ولتحقيق ذلك لن تمتلك اليابان، وللأبد، أية قوة حربية هجومية في البحر أو الجو أو على الأرض، أو أي نوع آخر من الإمكانيات العسكرية العدوانية، كما لن تعترف بحق الدولة في العدوان الحربي الهجومي.quot; والسؤال لعزيزي القارئ ما الذي منع اليابان من أن تقوم بأي تغير في المادة التاسعة طوال الستة عقود الماضية؟ هل هو الخوف من الحلفاء، أم هي نتيجة الحكمة التي أكتسبها الشعب الياباني بعد ما عاناه من ويلات الحرب والانفجاريين المرعبين للقنبلتين النوويتين على مدينتي هوريشيما ونجزاكي؟ أم لعبقرية حسابات علماء ألاقتصاد بأن الحرب لا تنعش الاقتصاد، بل تؤدي لشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟
لقد انتهت الحرب العالمية الثانية بفقد اليابان أربعة من جزرها الشمالية التي دخلتها عساكر ستالين قبل استسلام اليابان، وأعتبرها الاتحاد السوفيتي جزء من أراضيه. كما استمرت اختلافها مع الصين على بعض الحدود البحرية الغنية بالنفط والغاز. وقد تجنبت اليابان بعد الحرب الأخيرة من تحول هذه الاختلافات لخلافات متطرفة أو مجابهة عسكرية، بل حاولت بحكمة واتزان أن تجمد التعامل مع هذه الخلافات لتتفرغ لتطوير تكنولوجيتها الصناعية وتنميتها الاقتصادية والاجتماعية. وبعد أن أصبحت اليابان ثاني اقتصاد عالمي تحاورت مع روسيا والصين لإيجاد حلول تفيد الطرفين. فمثلا تم الاتفاق في شهر يونيو من هذا العام بين القيادتين اليابانية والصينية على التعاون في البحث على الغاز في المناطق البحرية المختلفة عليها وذلك بأن تساهم اليابان في عملية الاكتشافات بتكنولوجيتها المتطورة وأموالها الكثيرة وأن يستفيد الطرفان الصيني والياباني من الإرباح. وتجري أيضا محادثات جادة بين اليابان وروسيا لإيجاد صيغ ناجحة للتعاون المشترك لاستفادة من الجزر الأربع الشمالية المختلف عيها في استثمارات مشتركة تفيد البلدين.
تلاحظ عزيزي القارئ كيف تجنبت اليابان العنف والتطرف لحل خلافاتها، بل حولت هذه الاختلافات لفرص استثمارية جديدة، وعملت مع أعداء الماضي كشركاء للمستقبل لتستمر هذه الشراكة في بناء تكنولوجيتها واقتصادها لكي تحقق التنمية المرجوة لشعبها. ولنتذكر أيضا بأنها اتفقت على شراكة عسكرية مع الولايات المتحدة، فضمنت حماية بلادها، وتجنبت الصرف الكبير على شبكة الصورايخ النووية والأسلحة الهجومية، وحافظت على تطوير تكنولوجية أسلحتها الدفاعية، لتعتبر هذه التكنولوجية من أفضل التكنولوجيات في العالم، بحيث حينما اشتدت الأزمة النووية الكورية الشمالية، طلبت الولايات المتحدة من اليابان المشاركة بتغطية حمايتها من هذا الخطر النووي الكوري بصواريخها المضادة. واستطاعت اليابان بهذه الحكمة والرصانة أن تضمن حمايتها وتتفرغ لتطوير تكنولوجيتها واقتصادها، وبميزانية دفاعية سنوية لا تزيد عن الأربع والأربعين مليار دولار بينما تتجاوز ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية العشرة أضعاف لتصل لخمسمائة مليار دولار سنويا، وطبعا بدون ذكر إضافات تكلفه حرب العراق وأفغانستان.
ولكي نتفهم الحكمة اليابانية في فلسفة تجنب الحروب والتوجه نحو حل الخلافات الدولية بطرق سلمية، أدعو القارئ العزيز لكي نتفحص معا كتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستجلتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، ورئيس اللجنة الاقتصادية الاستشارية في الإدارة السابقة للرئيس الأمريكي بل كلينتون، ونائب رئيس البنك الدولي سابقا. وعنوان هذا الكتاب الجديد هو: حرب الثلاثة تريليون دولار التكلفة الحقيقية للنزاع العراقي، والتي شاركته في كتابته زميلته لندا بلمس. يناقش الكاتب الاقتصاديات الدقيقة لحربي العراق وأفغانستان، ويتحدث عن تقديرات متوسطة وأخرى متحفظة جدا لتكلفتها، وسنركز النقاش على التقديرات المتوسطة والتي هي أكثر واقعية في رأي المتواضع. ويقسم الكاتب تكلفة الحرب لأربعة أجزاء: التكلفة المباشرة على الولايات المتحدة، وتكلفة الدول المشاركة، وتكلفة الحرب على دولتي العراق وافغانستان، بالإضافة لتكلفة الحرب على الاقتصاد العالمي. كما ناقش الكاتب ثمن الوقت الذي ضاع هدرا من تاريخ العالم في هذه الحرب، والربحية المتوقعة من أجمالي تكاليف هذه الحرب لو استثمرت أموالها في التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية وفي الأبحاث وتطوير التكنولوجية والصناعة، وفي مجالات استثمارية أخرى متعددة. كما درس الكاتب تأثير الحرب على ارتفاع أسعار النفط والغذاء والتكلفة الإجمالية لهذا الارتفاع على الاقتصاد العالمي.
ويصنف الكاتب تكاليف الحرب على الاقتصاد الأمريكي إلى ثلاثة أجزاء:التكلفة العسكرية، وتكلفة الرعاية الطبية والاجتماعية للعسكر المتوفيين والمصابين، والتكلفة المجتمعية للحرب الغير مباشرة والتي لا تدفع عادة الحكومة مصاريفها. فيقدر الكاتب تكلفة العسكرية الحالية والمستقبلية حتى عام 2015 المباشرة والغير مباشرة لحوالي اثنين تريليون دولار، بينما ستكون تكلفة الرعاية الصحية والاجتماعية للعسكريين لحوالي السبعمائة مليار دولار، أي بمجموع كلي قدره 2.7 تريليون دولار. وبما أن هذه التكلفة يتم تغطيتها من ديون خارجية من الدول الأسيوية ودول الشرق الأوسط، فتحتاج حساب تكلفة أضافية لفوائد ديونها والتي يقدرها الكاتب بحوالي 800 مليار دولار، وبذلك تكون التكلفة الإجمالية المباشرة للحرب على الخزانة الأمريكية لحوالي 3.5 تريليون دولار. وهناك تكلفة إضافية أخرى وهي التكلفة الاجتماعية للحرب والتي تتضمن تكلفة التعويض عن الوفاة للعسكريين وتكلفة التعطل عن العمل للمصابين والتكلفة المجتمعية للعائلات للاهتمام المزمن للمصابين وترك بعض الزوجات لإعمالهم، بالإضافة لاضطرابات النفسية والعائلية للزوجة والأطفال وتكلفة علاجهم ومصاريفهم الأخرى لتصل تكلفتها الإجمالية لحوالي 415 مليار دولار. ولو جمعنا كل هذه المصاريف معا لتصل التكلفة الكلية المباشرة للحرب على الاقتصاد الأمريكي لما يقارب الأربعة تريليون دولار.
وناقش البروفيسور جوزيف ستجلتز التأثيرات الإضافية الغير مباشرة لهذه الحرب على الاقتصاد الأمريكي. فمثلا أرتفع سعر برميل النفط من 25 دولار في عام 2001 إلي حوالي 100 في عام 2007، وطبعا أرتفع في شهر يونيو من عام 2008 لحوالي 140 دولار للبرميل، ومن المتوقع أن يستمر في الارتفاع. ويعتقد الكاتب بأن أحد أسباب هذا الارتفاع في أسعار النفط هو الحرب. وقدر الكاتب الاستهلاك السنوي للنفط المستورد في الولايات المتحدة لحوالي الخمسة مليار برميل سنويا. وفرض بأن الحرب كانت سببا لزيادة متحفظة للأسعار بمتوسط 23 دولار للبرميل حينما كان سعر برميل النفط مائة دولار قبل صدور الكتاب. وقدر تكلفة الحرب على زيادة تكلفة النفط في الولايات المتحدة لحوالي 1.6 تريليون دولار. ولو أضفنا هذا المبلغ على التكلفة السابقة لارتفعت تكلفة الحرب الكلية إلى 5.5 تريليون دولار.
وحاول الكاتب دراسة الربحية التي كان من الممكن أن تستفيد منها الولايات المتحدة لو استثمرت أموال تكلفة الحرب الكلية وهي الخمسة والنصف تريليون دولار في استثمارات متعددة. فصرف هذه الأموال على الحرب وعلى الطاقة النفطية شلت الاقتصاد الأمريكي، فلو صرفت هذه الأموال على اختراعات جديدة وتطوير مصانع تكنولوجية جديدة، وتطوير التعليم والتدريب والرعاية الصحية، وتطوير البنية التحتية للبلاد لكان لها مردود اقتصادي كبير. فستخلق وظائف جديدة، وتهيئ قوى بشرية متدربة، وتوفر تسهيلات في المواصلات والاتصالات، كما ستؤدي لتطوير اختراعات توفر للصناعة منتجات جديدة تباع في الأسواق المحلية والعالمية، لتدخل على الاقتصاد الأمريكي أموال طائلة. وتبين الحسابات الاقتصادية بأنه لو صرفت هذه الأموال التي هدرت في العراق في مشاريع استثمارية أمريكية لنتج عنها ربحية تقدر بما لا يقل عن 320 مليار دولار. كما خسرت الولايات المتحدة نتيجة لهذه الحرب الكثير من سمعتها واحترامها ووقارها وسلطتها بين دول العالم. وترافق ذلك بخسارة المنتجات الأمريكية سمعتها، لتؤدي لخسارة شركات كبيرة عملاقة لزبائنها. ولو أضفنا خسائر سوق الأسهم الأمريكية وأزمة الديون الإسكانية وانخفاض سعر الدولار فلن نستطيع أن نتخيل تكلفة حربي العراق وأفغانستان على الاقتصاد الأمريكي. ولنتذكر أيضا بأن البروفيسور كان متحفظا في حساباته، حيث أجريت هذه التقديرات حينما كان سعر برميل النفط مائة دولار.
وناقش الكاتب أيضا خسائر العراق من التكلفة المباشرة للحرب وتدمير بنيته التحتية وخبراته البشرية، بالإضافة لانتشار البطالة والعنف والإرهاب وزيادة عدد القتلى والجرحى والأيتام والأرامل، وما رافقه من خسارة في الإنتاجية وزيادة الحاجة للرعاية الصحية والاجتماعية. ومع أنه من الصعب تصور التكلفة الكلية لهذه الخسائر البشرية والمادية، ولكن قدرها البروفيسور لحوالي 8.6 تريليون دولار. ولو أضفنا خسائر الدول التي شاركت في الحرب والتي تصل لحوالي الأربعين دولة، مع خسائر دول العالم من انخفاض أسعار الأسهم وهبوط سوق العقار وارتفاع أسعار النفط والأغذية، وما رافقتها أيضا من انتشار التطرف والإرهاب وزيادة الفقر والمجاعة والأمراض والوفيات، لأصبحت تكلفة الحربين العراقية والأفغانستانية على العالم أرقام فلكية لا يمكن تصورها.
تلاحظ عزيزي القارئ كيف تفهمت اليابان حكمة اقتصاديات الحرب في قريتنا العالمية الصغيرة، وحاولت أن تتجنب تحول الاختلافات لخلافات مدمرة، بل حولتها لفرص للاستثمار والتطور الاقتصادي والاجتماعي. والسؤال: هل ستستفيد دول الشرق الأوسط من هذه التجربة لدراسة خلافاتها وإيجاد الصيغ المناسبة لتحويلها لفرص للاستفادة منها في تطوير اقتصادها ومجتمعاتها؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان