من مفكرة سفير عربي في اليابان
لقد عانت اليابان في القرون الوسطى من استغلال الدين في التطرف الفكري والسياسي، مما أدى لخلافات دينية مذهبية حادة، وصراعات سياسية طائفية مرعبة، وخاصة قبل العصرين الذهبيين، الأيدو، في القرن السادس عشر، والميجي، في القرن التاسع عشر. ويعتبر المؤرخون، غزو عساكر اليابان لجيرانهم، ومشاركتهم في الحربين العالميتين، مرتبط بأيمانهم بحرب الحروب الكبيرة، التي نادى بها الراهب نشرين، للقضاء على الهيمنة الغربية على آسيا. ولم تتأصل ثقافة التناغم الديني والمذهبي إلا بعد انتهاء دمار الحرب العالمية الثانية، بدخول جيش الحلفاء بقيادة الجنرال ماك آرثر، وموافقة البرلمان على دستور فصل الدين عن الدولة، ومنع الحرب في مادته التاسعة، ليعيش الشعب الياباني في وئام وسلام خلال الستة العقود الماضية. كما لعب التعليم دورا هاما في نشر بيئة ثقافة مجتمعية متزنة، بخلق التوازن بين العلوم الطبيعية الفيزيائية المهتمة بتطور ألإبداعات التكنولوجية، والعلوم الروحية الأخلاقية المهتمة بالوئام الإنساني واحترام الطبيعة ومواردها المختلفة. ولنستمع لما قاله كوزو أيناموري رئيس شركة كيوسيرا، مؤسس جائزة نوبل اليابانية، والمسماة بجائزة كويتو العالمية: quot;الفلسفة التي أؤمن بها هي أنه لن نطمئن على مستقبل البشرية إلا من خلال خلق التوازن اللازم بين تطور العلوم المادية والعلوم الروحية. فالحضارة التي تهتم بالذكاء الذهني فقط، وتبخس قيمة الروح والعاطفة والإرادة الإنسانية، هي حضارة آفلة، ومع بداية القرن الواحد والعشرين ستكون مسؤوليتنا الأساسية أن نرفع العلوم الروحية، لنفس المستوى الذي وصلت إليه العلوم الطبيعية والتكنولوجية، لنستطيع التعامل مع اختراعاتها بحكمة، ولنرفع من قدر أذهاننا ونشرفها.quot;
ومن المظاهر الملفتة للنظر لزائر اليابان، هو التناغم بين مختلف الأديان والمذاهب. فالشعب الياباني يتجنب الحوار في الأمور الخلافية، ويمتنع عادة عن مناقشة الدين، مع أن هناك أكثر من مائة وستين ألف معبدا، ويصل عدد زوار بعض هذه المعابد لأكثر من سبعة مليون زائر سنويا. ويحتفل اليابانيون بالمولود الجديد في معبد الشنتو، وبالزواج في الكنيسة، وأما الوفاة فلها طقوسها الخاصة والهامة وتتم في المعابد البوذية. وتعتبر الشنتو الديانة الأصلية لليابان، وترجع تاريخها لأكثر من ألفي وستمائة سنة. ودخلت البوذية في القرن السادس عن طريق كوريا من الصين، فتقبلها الشعب اليابان برحابة صدر، واستفاد مما رافقها من الحضارة الصينية لتطوير بلاده. كما امن الشعب الياباني بمقولة بوذا: quot;لا تؤمنوا بشيء، لا يهم من أين تقرءوه، ولا من قاله، ولو سمعتموه مني، إلا إذا كان يتفق مع منطق العقل والفطرة البشرية.quot; (انتهى). وقد حاولت البعثات التبشيرية نشر الأديان الإبراهيمية، فهناك قلة من المسيحيين والمسلمين. وتوجد في اليابان مذاهب عديدة، ولها منظمات وهيئات دينية مـتباينة الأهداف والمصالح، ولكن لا يسمح لها قانونيا ممارسة السياسة، فالدستور يفصل الدين عن الدولة. فمثلا هناك منظمة مشهورة لأحد المذاهب البوذية، ولكن جناحها السياسي المسمى بحزب الكيموتو، منفصلا تماما عن هذه المنظمة، وله أعضاء في البرلمان، بل ويشارك في الحكومة مع الحزب اللبرالي الديمقراطي الحاكم، ولكنه لا يناقش أي من أمور الدين، بل تحدد مسئولياته ضمن الشؤون السياسية الحياتية: الصحة، والتعليم، والإسكان، والبطالة، والاقتصاد، والتنمية ألاجتماعية. وتعتبر الشؤون الدينية، من اختصاص رهبان المعابد، وأكاديمي التخصصات الدينية المختلفة في الجامعات. وأما القيم الأخلاقية والروحية، وطرق سلوكها، فهي مسؤولية وطنية على كل فرد.
ويبدو وكأن منطقة المينا (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) تعيد اليوم، المرحلة التي عاشتها اليابان في القرون الوسطى، من صراعات تطرف فكري وإرهاب عنف سياسي استغلت فيها الاختلافات الدينية والمذهبية. وقد حاولت قيادات المنطقة، لخلق بيئة من التناغم الديني، باحترام الاختلافات الدينية والمذهبية، للوقاية من استغلال الدين لنشر ثقافة التطرف والإرهاب. وقد نشرت صحيفة إخبار الخليج بتاريخ 24 يوليو الماضي تصريح لجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك مملكة البحرين، يدعو فيه العلماء: quot;للقاء ودي، تحت سقف المصارحة والتحاور الحر المباشر، لطرح أمور الدين الحنيف، بشفافية وصدق ورؤية قائمة على العلم والبحث النزيه، والارتقاء بالخطاب الديني إلى ما أمر به العزيز الحكيم، في محكم كتابه من الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وبما يؤسس بالتالي لخطاب وطني رصين يستند إلى القيم الروحية والأخلاقية السامية والى الحقائق العلمية والاجتماعية، في إطار الوحدة الوطنية التي هي من الثوابت والأولويات.quot; (انتهى).
لقد طرح جلالته مشروع لخطاب وطني يستند على ثلاثة دعائم أساسية: القيم الروحية الأخلاقية، والحقائق العلمية والاجتماعية، وأن يكون ضمن إطار الوحدة الوطنية. ولكي يكون الحوار علميا ومنتجا، حدد جلالته صيغة محددة لهذا لحوار تجمع بين الحكمة والشفافية والصدق، وبرؤية قائمة على العلم والبحث النزيه. ويهدف هذا المشروع للوقاية من استغلال البعض للدين لغسل عقول الشباب وبالأخص في فترة المراهقة الحرجة لتبرير التطرف وإرهاب العنف، لتلتقي قلوب الشباب وعقولهم على الاهتمام بالعلم والمعرفة، واحترام الواجب، والولع بالإبداع والإنتاجية، واحترام الوقت وتنظيمه، والتفاني في العمل وإتقانه، ولخلق توازن بين العلوم الطبيعية الفيزيائية والعلوم الروحية الأخلاقية، وإيجاد معادلة ناجحة بين الواقعية الحياتية والمثالية الحالمة، لكي يستمر الاستقرار والوئام، ولتتناغم إنتاجية المجتمع، لمواصلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية المرجوة.
فلنحاول عزيزي القارئ أن نتدارس تفاصيل هذا المشروع الحضاري، والذي نحن في اشد الحاجة لتنفيذه، في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة، بسبب تحديات العولمة والجهود المبذولة لبناء حضارة الألفية الثالثة. وقد نحتاج، أولا، لتعريف القيم الروحية والأخلاقية، والحقائق العلمية والاجتماعية، ومفهوم المواطنة والوحدة الوطنية، ليتم الحوار على أسس واضحة، ولتجنب ضياع الوقت في مجادلات غير منتجة. ولكي تتوسع مدارك هذا الحوار، ولنبتعد عن الاعتقاد بأن كل منا يملك وحده الحقيقة كلها، نحتاج، ثانيا، للإجابة على سؤال قد يبدو غريب وحالم: هل هناك كائنات حية في كواكب الأجرام السماوية الأخرى، والتي تبعد بعضها عنا المليارات من الكيلومترات؟ وهل توجد بين هذه الكائنات فصائل تملك عقل إنسان الأرض؟ وهل هناك رسالات سماوية انتشرت بين هذه الكائنات في أجرام الكون الأخرى؟ وقد تبدو للوهلة الأولى بأن هذه الأسئلة أسئلة خيالية، ولكنها أصبحت في الحقيقة أسئلة واقعية مع بدأ الألفية الثالثة، وتحول الكرة الأرضية لقرية عالمية صغيرة، بفضل تكنولوجية الاتصالات والمواصلات. فقد أرسلت مؤسسة الفضاء الأمريكية quot;ناساquot;، في الشهر الماضي، مركبة للنزول على سطح المريخ، للبحث عن وجود الماء على هذا الكوكب، والذي قد يعكس إمكانية وجود الكائنات الحية في كواكب الأجرام السماوية الأخرى. وقد تأكد العلماء، فعلا الأسبوع الماضي، من وجود كتل ماء ثلجية تحت سطح المريخ. فستوسع هذه الاكتشافات الجديدة مدارك عقولنا، لمعرفة مدى عظمة الخالق جل شأنه، ليس فقط في خلق الأجرام السماوية التي لا حصر لعددها، بل أيضا لوضعه، جل شأنه، القوانين الفيزيائية التي تحكم السيطرة على هذا الكون. فمثلا تتكون جميع المواد الفيزيائية، والكائنات الحية، من تريليونات من الجزيئات الصغيرة. وتحتوي هذه الجزيئات على ذرات صغيرة جدا، وهي أصغر وحدة كتلة في الكون، تشبه تركيبة كل منها الإجرام السماوية، فهناك نواة مركزية كالشمس، وبها مجموعة من البروتونات والنيوترونات، وتدور حولها مجموعة من كواكب الالكترونات. وتعكس هذه الحقائق مدى عظمة الخالق جل شأنه، وبأن لا أحد من البشر يملك الحقيقة، بل جميعنا طلاب للحقيقة، وليس هناك حقائق علمية مطلقة، بل هي متغيرات، حسب ما يجمعه الإنسان من علم ومعرفة عن أسرار هذا الكون، والذي لا يعرف حقائقها إلا الخالق جلت عظمته. وستجنب الإنسان هذه الحقائق، من التعصب في الرأي، وتساعده على احترام اختلاف الرأي الآخر، والتحاور معه بنزاهة، لتخلق بيئة عليمة، تتفاعل فيها الأفكار وتتبلور، لتنتج إبداعات ثقافية واختراعات تكنولوجية مفيدة. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان