من مفكرة سفير عربي في اليابان

تطورت الديمقراطية في المجتمعات البشرية لكي يشارك المواطن في إبداء الرأي عما تتم من قرارات تؤثر على حياته ومستقبل عائلته، وتوفر له الفرصة للتعبير عما يجيش بداخله بحرية وضمن القانون، لمنع تراكمه لضغوطات انفعالية، وللوقاية من غليانه وانفجاره ليؤدي لكلام أو لأفعال مسيئة. ويعبر الإنسان عما في نفسه بالكلام والكتابة والفعل، وتتباين طريقة التعبير باختلاف ثقافة المجتمع، والتربية الشخصية، ومستوى التعليم، وقدرة الذكاء. ويتميز الإنسان بعقل يلتقط الإحساسات البيئية ويحللها، ليقرر نوعية الفعل الذي سيعبر عنه بقرار عملي واقعي، أو بتصورات مثالية حالمة، أو بتعبيرات أدبية جميلة، أو بشتيمة لفظية أو كتابية. وتلتقط الإحساسات البيئية أجهزة الحواس الستة، لتنقلها لمراكز الإحساس، وتوصلها بمراكز الذكاء لتحليلها، لتصدر قرار تحوله مراكز الحركة لكلام مسموع أو لكتابة مقروءة أو لحركة مفهومة. وتنقسم مراكز الذكاء في العقل لخمسة مراكز رئيسية، هي مراكز الذكاء الذهنية والعاطفية والاجتماعية والروحية والجسدية. فالذكاء الجسدي مسئول عن المحافظة على سلامة الجسم من الأخطار وسوء التغذية وقلة الحركة، بينما يحافظ الذكاء الاجتماعي على مستوى رفيع من لباقة التواصل الاجتماعي. ويؤدي الذكاء الروحي لربط الإنسان مصالحه بمصالح أقرانه، مع حسن التعامل مع الطبيعة والمحافظة على مواردها. ويهتم الذكاء العاطفي بالسيطرة على الانفعالات العاطفية وتوجيهها لخدمته. ويرتبط مركز الذكاء الذهني بمراكز الذكاء الأخرى، فيراجع المعلومات المخزونة ويربطها بالإحساسات البيئية المستقبلة ويحللها، ليصدر قرارا بالقول أو الكتابة أو الحركة. لذلك يعتبر جميع ما يتلفظ به المجتمع أو يكتبه هو مرآة للواقع الذي يعيشه، ولمستوى ذكاء أفراده ولقوة تعبيره، ليشكل كل ذلك أعلام الصحافة والإذاعة والتلفزيون والانترنت، وليمثل انعكاس تكاملي للذكاء العقلي للمجتمع وثقافته. والسؤال لعزيزي القارئ ما فرق بين ثقافة الشتيمة والثقافة الأدبية الفكرية المبدعة؟
تجمع الثقافة الفكرية الأدبية بين الأفكار المبدعة والتعبيرات الجميلة، وتستفيد من الإعلام لنقلها لأفراد المجتمع، لتتفاعل مع أفكار أخرى بالنقد والتحليل، ولتصقل وتنقح وتتبلور، وليعبر عن انعكاساتها بتصورات تراكمية تنتج منها إبداعات مفيدة. فتخلق هذه الثقافة بيئة الإبداع الفكري والاختراع التكنولوجي، ولتتحول هذه الأفكار التراكمية المجتمعية لمنتجات أدبية واختراعات تكنولوجية، تثري تناغم المجتمع وتنمي صناعته واقتصاده. وتحتاج بيئة الإبداع هذه لتقبل الاختلاف، حيث يعبر الإبداع عن فكرة مختلفة جديدة معرضة للانتقاد والاختلاف، ولو كانت فكرة قديمة ومقبولة مجتمعيا لما أصبحت فكرة مبدعة. كما تحتاج لاحترام الأفكار الجديدة، وقبول مناقشتها بتفكير علمي مجرد، بعيد عن الانفعالات العاطفية. وتتميز المجتمعات التقليدية من معضلة الخوف من التغير وأفكاره المبدعة. وتهدف هذه الثقافة لتفاعل الإنسان مع بيئة من المناقشات الفكرية بإيجابية، ليشارك بأفكاره وإبداعاته في تطوير المجتمع وثرائه. بينما تعتمد ثقافة الشتيمة على تفريغ الانفعالات العاطفية، فيستغل صاحبها ثقافة الأعلام، ليعكس ما بداخله من قهر وحقد وغضب، بعيد عن التحليل العلمي والنقد الموضوعي المجرد، وليعبر عنها بألفاظ نابية ولغة مسيئة. وتتلخص مشكلة هذه الثقافة في مقولة الكاتب الايرلندي الساخر برنارد شو: quot;الرجل العاقل يتأقلم مع العالم، بينما ينتظر الرجل الغير العاقل أن يتأقلم العالم معه.quot; فالرجل العاقل يتحسس ما حوله من تحديات ومعوقات، فيدرسها ويحللها بذكاء ذهني، وبسيطرة ذكاء عاطفي، ليكتشف إبداعات فكرية تساعده على التعامل مع هذه التحديات، ليشارك بجد وإتقان في تنمية بلاده. أما الرجل الغير العاقل فينفعل أمام التحديات والعوائق التي يواجهها، فيضعف ذكائه الذهني، ويفقد ذكائه العاطفي السيطرة على انفعالاته، وينسى ذكائه الروحي دوره في المحافظة على وحدة المجتمع وتناغمه، وضرورة تعامله الإنساني مع الآخرين، وبنظرة بعيدة عن المصالح المجتمعية الطويلة الأمد، ليركز على المطالبة بمصالحه الآنية الصغيرة، وليتحول سببا لاضطراب المجتمع وفقد تجانسه، وعالة ثقيلة على اقتصاده، وعصاه معيقة في عجلة رقيه وازدهاره. كما يضعف ذكائه الاجتماعي ليتحول تواصله لألفاظ نابية جارحة تضعف التناغم المجتمعي، ولا تتحمل هذه الشخصية الاختلاف، فكل ما تعتقده هو الصحيح، وكل من يخالفها فهو مخطئ، وترفض الاعتراف بأخطائها، وتستمر في تحجر أفكارها، ولتفرضها بعنف على الآخرين، بل لتشوه فكرهم إذا اختلفوا معها.
وقد اهتمت اليابان بالوقاية من ثقافة الشتيمة، فمنذ أن بداء عصر الإمبراطور ميجي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اهتمت الدولة بالثقافة الفكرية المبدعة، ففرضت تعليم إجباري وتربية صارمة في السلوك والأخلاقيات، وشجعتً انتشار الصحافة، وطورت اللغة اليابانية للغة علمية، ونفذت قوانين حقوق الإنسان، كما فرضت بحزم وصرامة احترام الأنظمة والقوانين والدستور. كما طورت العلوم التكنولوجية ودعمت الصناعة اليابانية، ودربت القوى البشرية، واهتمت ببيئة العمل، فطورت مفاهيم التناغم وعمل الفريق الواحد وسياسات الإدارة الاقتصادية والصناعية. واعتمدت فلسفة التواصل اليابانية على مقولة الأمير شتوكو تاشي: quot;روح الوئام والوفاق مع الآخرين هي أسمى الفضائل الموجودة على هذا الكون.quot; ولعبت ثقافة الإيمان بروح الوئام دورا هام للتنمية السريعة بعد الحرب، ويلاحظ الزائر الحذر في الإعلام الياباني من مناقشة الاختلافات، والتوجه نحو الثقافة الفكرية المنتجة، والابتعاد عن ثقافة الخلافات المعيقة لتناغم العمل. وتحتاج مجتمعاتنا العربية للوقاية من ثقافة الشتيمة، لحرية رأي مسئولة ومحاسبة ضمن القانون. كما سنحتاج لتطوير تعليم يقبل المساءلة، ومستعد لمحاورة الأفكار الجديدة، والقبول بالإبداع الفكري، والعمل على تشجيعه لازدهار المجتمع وثرائه. فلم يزدهر الغرب إلا حينما فصلت المسيحية عن العلوم الفيزيائية والتكنولوجية، وشجعت الأفكار المبدعة، واستفادت من هذه الأفكار في تجارتها الحرة لتطوير اختراعات ومنتجات مربحة. وتعتبر معظم شركات بورصة الأسهم الأمريكية، النازداك، نتيجة جهود فردية طورت اختراعاتها المبدعة لشركات عالمية عملاقة. كما ستحتاج مجتمعاتنا لثقافة مرتبطة باحترام آداب التعامل لخلق بيئة الوئام والوفاق المجتمعية، ولتطوير ثقافة سياسية مسئولة بأدب الحوار واحترام الاختلاف والتعامل مع تحدياته باتزان وصبر وحكمة. ولن تكتمل سبل الوقاية من ثقافة الشتيمة إلا بأنظمة وقوانين تطبق على الجميع بنزاهة وعدالة، ويعاقب من يخالفها بصرامة وحزم وانضباط. والسؤال لعزيزي القارئ هل ستقي مجتمعاتنا الشباب العربي من ثقافة الشتيمة، بنشر ثقافة تعليمية تشجع التساؤل والإبداع، وتهيئ الظروف اللازمة للعمل الحر، ليحولوا إبداعاتهم واختراعاتهم لمنتجات تزيد من ثراء المجتمع وازدهاره؟

سفير مملكة البحرين في اليابان