أذكر ذات إقامة امتدت قرابة الشهر في القاهرة العاصمة المصرية، أنني قد اضطررت لتبديل ثلاثة فنادق في غضون مدة الإقامة المذكورة، فمن فندق /المرديان إلى الهلتون إلى الشيراتون / حيث أصبح هاجسي الأوحد في هذه المدينة المكتظة بكل ما يُعجبك وبكل ما لا يروقك أحيانا، البحث كل ليل عن سكينةٍ تخولني الاستغراق في حلم متواصل لا يقطّع أوصاله حالة الصخب التي تعتري هذه المدينة الساهرة التي لا تنام ليلا، وإن على شفا نهار حافل بصفارات المرور وأصوات الباعة وزعيق quot;الزمامير quot; المنبلجة من كافة المركبات صغيرة كانت أم حافلاتٍ للنقل.
ليل القاهرة هو ليل استثنائي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فما إن تشرع بالدخول إلى أيّة عتبة من عتبات النوم حتى توقظك دون مقدمات أو تردّد، أصوات الساهرين ومكبّرات الصوت التي تحمل ذبذبات شرسة لألحان متناثرة في أجواء المدينة على امتداد النيل الحافل بالمراكب السيارة والتي تتهادى على وقع الهرج والمرج وابتهاج الساهرين بين رقص وغناء يتسلل رغما عنك إلى أبعد نقطة ممكنة تستهدف سمعك أينما كنت وأين حللت.
عند الفجر استبدّ بي غيظ متكامل فرفعت سماعة الهاتف ساخطةً أسأل موظف الاستقبال بشيء من الحدّة: quot;وآخرتها معهن! quot;
بلطف ولباقة ردّ موظف الاستقبال: quot;همّ مين يافندم quot;.
سألته: quot;حضرات المفرفشين الكرام متى ينامون؟ quot;،
أجاب بحسم:quot; القاهرة مدينة لا تنام ما تعر فيش دا يا فندم؟quot;،
بدهشة هائلة علّقت: quot; وأنا كيف أنام؟quot;
بهدوء وثقة بالغين أجاب: quot;بكرا تتعودي يا فندم quot;.
وكان لا بدّ أن أتعوّد النوم في ظلّ الضجيج العارم الذي كان يعصف بأركان الغرفة المطلّة على مشهد حافل ليرضيك تماما، ومشهد حافز ليغضبك بنفس المقدار.
عندما عبّرت عن تذمّري أمام الإعلامية الصديقة quot;آمال.م quot; عقب الحوار الذي أجرته معي لإذاعة quot;صوت العرب quot;، دعتني لحضور حفلة quot;السبوع لابن اختها quot; كانت المناسبة أشبه بعرض طقسيّ خاصّ جدّا، داهمتني خلاله كل أعراض الفزع الممكن وانتابتني جلّ المخاوف خلال ممارسة الطقس التقليدي المنظّم بكامل الفوضى، عندما تناولوا المولود الغضّ الطري وبدأت الجدة تضرب بأداة نحاسية مؤلّفة من قطعتين تسمى quot;الهون quot; ولدى سماعي الصدى شعرت بدوار هائل كاد يطرحني أرضا وأنا أحاول بكل ما أوتيت من أمومةٍ أن أصدّ عن ذاك المولود هذا القرع الجنوني فوق رأسه، جميع النسوة كنّ مغتبطاتٍ بتلْقين المولود أول أبجدية quot;الصخب quot;، وبدأتُ أشعر باستياء المولود المستسلم بذهول، شعورا رفدني باستياء مماثل، انتبهتْ صديقتي آمال لما يعتريني فتولّت شرح الهدف من هذا التقليد، مفاده أنّ بلدا كمصر يزيد عدد سكانه عن 75 مليون نسمه لا بد هو بلد ضوضائي بامتياز ولا بدّ للمولود أن quot;يتمصْرن quot; سمعيا، وquot;يتقهْرن quot; اجتماعيا قبل كل شيء، حتى يضمن توازنه مع الأيام، فالضجيج منهجا رسميا من مناهج الحياة في مصر ولا سيّما القاهرة، وظلّت هذه المفارقات راسخة في مطويات الذهن حتى راودتني فكرة الضجيج كمعاناة رسمية ومرض عصري عضال يصيبنا ونحن لا حول لنا ولا قوّة لنصرخ في وجه المسببات ونُسكتها كما نحب وكما ينبغي.
في دمشق الضوضاء عند أوقات الذروة وحسب تسمية إدارة المرور، تصبح مشهدا هستيريا بامتياز داخل العاصمة السورية، وبمعظم الأرجاء بما فيها الأماكن المترفة جدا، حيث صار من الميسور وصول الوافدين من سائر الأرياف والمناطق الأخرى، بحكم الصلات التي تربطهم بمعظم المسؤولين الذين استطاعوا بقدرة قادر وبواسطة دخلهم المحدود جدا، شراء المنازل الفاخرة جدا جدا وبأسعار خياليّة لا حدود لارتفاعها المُتراكم، والمعفيّة من ضريبة الدخل وضريبة السؤال quot;من أين لكَ هذا؟! quot;.
ناهيك عن تخمة الشوارع بسيارات المسؤولين وسيارات أبناء المسؤولين وأقربائهم وأصحابهم ومن لفّ لفيفهم من مرافقين، ورفاق، ومتزلّفين قاسمهم المشترك جميعا quot;زمامير quot; لا تهدأ لتساهم مساهمة فعالة في quot;هشّ quot; المواطن بسطوة الصوت الذي يسجّل أعلى نسبة استجابة وفورية على الأغلب، ليتسنّى إفساح الطريق لهم وحدهم.
وهكذا تصبح دمشق في الوقت المذكور مدينة عائمة على ضجيج يمتد إلى ما بعد الظهيرة ريثما يسترجع الريف قسطا ممن يصدّرهم إلى الدوائر الرسمية على امتداد اليوم مما يفقدك متعة quot;القيلولة quot; فيها، كعادة دمشقية متوارثة من عصر الرخاء الذي كان، وهكذا وفي ظلّ الضجيج السائد تصبح القيلولة هدفا يَستحيلُ تحقيقه، ليظلّ التعب حليفك الرسمي في المدينة العتيقة وميزتها الفائقة.
في بيروت الضجيج مختلف اختلافا نوعيا، حيث لا صوت يعلو على الصوت السياسي وصوت الزعامات، وللزعيم عادة كما للسياسي نبرة خطابية حادّة تضاعفها مكبّرات الصوت الذي يتعدى المسموح بتمريره طبيّا عبر القنوات السمعية حسب قياس quot;الديسيبل quot;، وكما هو معلوم أنّ quot;قناة أوستاش quot; التي يمرّ عبرها السائل quot;الصمخي quot; تكون بمثابة الدوزان لضبط توازن الجسم، ومع تعدي حدّة الصوت يؤدي إلى اضطراب السائل الصمخي في الدهليز السمعي، مما يؤثّر تأثيرا مباشرا على الجملة العصبية لدى المتلقي فيفقده شيئا من التوازن والتركيز والتمييز معهما، فيقع في فخّ الانصياع والتبعية quot;الصمّاء quot; فالصوت المتمادي يطال البصيرة لا البصر، لهذا يُقال تبعية عمياء وبتقديري يُمكن الإضافة إلى الحال المذكور أن يُقال تبعية صمّاء أيضا.
ومن ملحقات الزعامات السياسية الدارجة في بيروت إطلاق العنان كليّا لحَمَلَةِ السلاح بسخاء منقطع النظير، فما من مناسبة تتعلّق بقياديي المرحلة الراهنة إلا ويصبح الرصاص اللغة السائدة للإفصاح والتعبير، ومع شيوع هذه العادة المتكررة اعتاد الناس بشيء من الإدمان على طغيان الصوت وسطوته وسيادته، فحلّت المفرقعات الثقيلة لدى فاقدي السلاح محلّ الذخيرة الحيّة، وباتت تقليدا شبه يومي على مدار الساعة لا يؤخرها، دنو الهزيع الأول أو الثاني أو حتى الثالث من ليل بهيميّ، بل دائما هناك من يفرض على الجميع حسّ المشاركة على مستوى الحي برمّته بما فيها كافة الأحياء المُجاورة، لأي مناسبة كانت /زفاف ميمون، حجّ مبرور، نجاح ميسّر للمرحلة التحضيرية ك.ج one، مثلا... أو حتى طهور مولود، أو نَحِر دجاجة /............
إضافة إلى حركة الموتوسيكلات البهلوانية القادرة على خرق جدار الصوت وقشط طبقات الإسفلت ومغلّفات الأعصاب بأساليب استفزازية قادرة على إشاعة الأصوات الخارقة للاتزان وليس للتوازن وحسب.
باريس العاصمة الفرنسية، لا تقل فوضى وضوضاء عن مثيلاتها من العواصم العربية التي ذكرت وإن اختلفت طرق الضجيج، ولو أننا بحثنا ودققنا في هوّية مشيعي الشغب والضوضاء في العاصمة الباريسية كما يحصل في الأنفاق وquot;الميترويات quot; والأحياء الشعبية، لوجدنا أن معظمها إن لم نجزم بالتعميم، هم بالإجمال من الشباب العرب الوافد للإقامة والدراسة أو التجنيس والعمل من أصقاع المغرب العربي تحديدا.
يبقى القول أن الضوضاء تقلل من فرص الإبداع والابتكار والخلق والتركيز والإنتاج والإرادة، ليحلّ محلّهما الاضطراب والخلل والأعطاب النفسية، الغريب أن الطفولة في بلادنا تُربى على تكريس مفهوم الُصراخ والأصوات المُتصاعدة فغالبية الرسوم المتحركة تعتمد اعتمادا كلّيا على quot;الدبلجة quot; ذات quot;المونوتون quot; العالي الذي يخرج أحيانا عن موضوعية ومعقولية ومنطقيّة الأداء، وهكذا تكون الدُربة بائتلاف الضجيج والضوضاء والصخب بسنّ مبكّرة، وهذا الائتلاف الذي يؤدي ليس إلى تلوّث الذائقة السمعية وحاسّيتها وحساسيّتها وحسب، بل إلى تخريب رهافتها تخريبا متعمّدا، يستكمله الطفل كأسلوب من أساليب السلوك المتّبعة للتواصل مع زملائه في الحي أو في المدرسة، إذ أنّ أسس الحوار القائم بين التلميذ والمدرّسين لن تكون أوفر حظّا إذا ما قورنت مع البيئات الأخرى، بل إنّ الطالب عرضة دائما لسخط المدرس والناظر وquot;سعادة البيه quot; المدير، وهؤلاء جميعا يتناوبون على تصعيد الصوت تصعيدا دراميّا يتناسب طردا مع النزعات القمعية القهرية quot;الكبتيّة quot; الشائعة والمتداولة عموما.
وهكذا يكبر الطفل وتكبر في quot;ذهنيّته quot; قابلية الضوضاء وتبنيها كأسلوب حياة وسلوك اجتماعي، أو رفضها بالمطلق الذي لا يُسلِم الطفل من مغبّة الاحتمال القائم، كأن يكون عاملا من عوامل الخلل النفسي والأعطال الإنسانية والروحية التي تتجلّى مع الوقت والتجربة، بدلالات مباشرة أحيانا ومبهمة أخرى.
هل يُمكن الخلاصة مما تقدّم أنّ الصوت quot;الأرعن quot; هو وسيلة من وسائل الترغيب والترهيب؟
أم هو سبيل آخر من سبل التلوّث الاجتماعي والبيئي والفكري والنفسي والذهني والروحي إلى جانب كل الملوثات والتشوّهات التي نُعانيها كأفراد في مجتمعنا العربي؟.
كيف نفسر الظواهر الشعرية quot;المناسباتيّة quot; المنبريّة التي تُباري غالبيّتها لتفريغ القصيدة من محتواها وملء آذان المتلقي بالصراخ التصاعدي، وفضاء القاعة بدويّ التصفيق، الخادم الأوحد في ذلك كلّه هو quot;النبرة quot; التي لا تتيح للمتلقي أدنى انتباه للمعنى أيّا تكن درجة سطحيّته، أو تطلّع للصورة سواء ارتسمت ملامحها أو انعدمت، لتغلب الحالة quot;المشيميّة quot; بين الشاعر المنبري والمتلقي المأخوذ بحدة الصوت وquot;باهظيّة quot; الأداء وquot;استرساليّته quot; الاستعراضيّة لا غير.
فيحضر بذلك الصوت ويغيب الشعر تمام الغياب.
وأتساءل لو أنّ شعبا فائضا عن الاستيعاب كالشعب الصيني الذي فاق تعداد سكانه المليار نسمة، لم يعرف الهدوء ويراعي أصول الصمت وقواعد التركيز ويعتمد ضوابط التهذيب للسلوك الاجتماعي والبيئي والأخلاقي، وترك لأهوائه التنفيس عما يحلو لها من الضجيج والضوضاء والفوضى، أجزم أنّ الصوت وقتها سيتسرّب لنا ولباقي القارات باقتحاميّة هائلة عبر ذبذبات الأثير.
ولما استطاع أن ينزع إلى براعة الاختراعات المسجّلة وبراءتها على مرأى من أنظار العالم أجمع، ولما تمكّن كذلك من تكريس حضوره الأمثل حتى على مستوى الفنون القتالية كما الجمالية في جميع الميادين.
أكتب لأختم السياق ولا أخلو من تشويش المفرقعات القهرية، الداهمة كالعادة لسكينتنا وعلى مدار الوقت وتعاقب المناسبات، والتي تستعرض فحولة المناسبة من مضاعفة الصوت وتفخيخ الأثير بأكبر ضوضاء وضجيج ممكن.