quot;المدهش خلال هذه الحقبة هو تواجد الخروج من الدين مع العودة إلى اكتشافهquot;[1]
ثمة رأي شائع يعرف العلمانية على أنها فصل الدين عن المجال العام سواء في التدبير السياسي للمجتمع أو عند رسم الغايات النهائية للحياة الإنسانية ويفهم التنوير على أنه إخفاء للرموز الدينية من الحياة المدنية وتحييد للمقدس في عملية الحراك الاجتماعي ويتحفظ على قيام النظريات السياسية على أساس قراءة تأويلية اجتهادية لما توفره المعتقدات الدينية من أفكار عامة حول المعاملات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والتنظيم الإداري بل يصل به الأمر إلى تبني خيارات لااعتقادية مادية من أجل الدفاع عن العلمانية وينادي بتجفيف المنابع اللاهوتية والحسم مع الرؤى الميتافيزيقية الغيبية ويتصور أن ذلك هو جوهر الديمقراطية الحقيقية ويعارض وجود هيئات ثقافية وحقوقية واجتماعية لها مرجعية دينية ويعتبر ذلك تهديدا لمكاسب الحداثة والدولة العصرية وهذا التصور يتبناه الكثير من الناشطين والمثقفين الذين يزعمون أنهم تحديثيين وتقدميين.
بيد أن مثل هذا الرأي يؤدي إلى ارتكاب عدة أخطاء ويسجن نفسه في بوتقة ضيقة ولا يرى الأمور سوى من جانب واحد ويسيء التعامل مع واقعه ويفضل الحكم السكوني الثابت على عالم من الحياة المتحرك والمتدفق الذي يعيشه الناس والذي يلعب فيه العامل الديني أحيانا دورا مركزيا، كما أنه لا يستطيع أن يقتلع هذا البعد العقائدي من جذوره ولا يتمكن بالفعل من تحييده من الصراع الاجتماعي بل نراه يعطي للموقف الإيماني المضاد مبرر الدفاع عن نفسه والتواجد بقوة ويصل الأمر أن توظفه الأنظمة الشمولية والإمبراطوريات المعولمة لفائدتها من أجل تحقيق المزيد من السيطرة والتوسع.
هذا الرأي الشائع يناقشه مارسيل غوشيه في كتابه: quot;الدين في الديمقراطيةquot; ويرد عليه بالحجة الساطعة والبرهان الواضح مبينا أن علمنة الدين لا تعني إلغاء لدوره في الحياة العامة والإلقاء به إلى هامشية الحياة الخاصة بل فهمه والتعرف على الإمكانيات الهائلة التي يحتوي والتي لا تزال صالحة لتوجيه الناس وحفز الهمم نحو تحقيق التنمية والتقدم.
كما أن دمقرطة المجتمعات لا تفترض أفول الآلهة واختفاء المقدس وثورة ضد الإيمان واعتبار عقيدة الجمهور عقيدة باطلة بل بالعكس ترتبط بالانطلاقة في عالم الروح وتحقيق وثبة جدلية بين النظر والعمل عن طريق الإيمان والإخلاص والصدق ودون هذه القيم السمحة لا يقدر أي فعل سياسي راشد أن يتخلص من الفساد والتسلط والأنانية ليؤسس الصلاح والبذل ويتحلى بروح المسؤولية أين تترك الفرصة لكي يستيقظ صوت الضمير في أفراد المجتمع فتسود بينهم مبادئ الإخاء والتعاون وتتقوى اللحمة الاجتماعية وينصرفون نحو العمل والعطاء من أجل الفضاء المشترك الذي يربط بينهم.
قد يقول البعض إن هذه محاولة لإصلاح السياسة عن طريق الأخلاق ولجعل الأخلاق مستخلصة من الدين وهو ما يدفع إلى طرح الأسئلة التالية: ما المقصود بالديمقراطية؟ وماذا نعني بالدين؟ وكيف ينبغي أن نفهم العلمنة؟ وما العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة: العلمنة، الدين، الديمقراطية؟
قد تطرح الإشكالية على النحو التالي: هل تحتاج الديمقراطية إلى إقصاء للرموز الدينية من المجال العام أم إلى قراءة علمية للظاهرة الدينية؟ وهل تفهم العلمنة على أنها خروج عن الدين وتهميش له أم عودة إليه تفهما وعقلنة؟ ما معنى دين مدني؟ وهل يجوز أن نتحدث عن حداثة دينية مثلما نتحدث عن حداثة جمالية أو حداثة علمية بعد القرن السابع عشر ميلادي؟
إذا كان من اللازم التخلص من الثيوقراطية باعتبارها فكرة قروسطية تجعل حق الإنسان تابع لحق الله وتسقط في الخلط بين الحكومة الدينية والحكومة المدنية وتضفي المشروعية على بعض الأنظمة الشمولية باعتبار أن البعض من الحكام يعتبرون أنفسهم ظل الله في الأرض ويصدرون القرارات بوحي الهي فهل المطلوب للتخلص من هذه المزاعم الكاذبة إقامة حكومة دينية على مرتكزات علمانية أم السعي نحو تشييد حكومة علمانية ذات مرجعية دينية؟ هل يجوز لنا أن نتحدث عن علمانية دينية وعن دين مدني؟ كيف تؤمن العلمانية بالدين ويجد الفضاء الديني طريقه إلى العلمنة الجذرية؟
هذه الإشكاليات يمكن معالجتها بالقول أن الدين اعتقاد وإيمان وافتراض وجود قوى غيبية ينبغي العمل على إرضائها وأخذها بعين الاعتبار ونصوص مقدسة متعالية على الواقع التاريخي يجب الرجوع إليها،أما العلمنة فهي العقلنة والتأويل والتدبر التفكيري وإخضاع الظواهر الإنسانية المتنوعة للمنهاج العلمي قصد تفسيرها وفك رموزها وإدراك حقيقتها والكشف عن مقاصدها ومعانيها، بينما تفيد الديمقراطية مشاركة الناس مشاركة فعالة في تسيير الشأن العام وذلك بالقطع مع عقلية الحكم الفردي والتسيير الفوقي وتعمل على مأسسة الحياة السياسية والاجتماعية وضمان حقوق الأفراد.
في هذا السياق يقول مارسيل غوشيه: quot; هناك منعطف في العلاقات بين الأديان والسياسة. هذا المنعطف الذي بلغت فيه العلمانية في أوروبا مرحلة جديدة يحتاج إلى تحليل عميق وليس هذا للإجابة عن سؤال يتزايد طرحه: ما معنى أن يحكم الإنسان بعد أن تخلص كما يقول من سلطة الآلهة؟ وإنما أيضا لمعرفة دوافع القلق الذي تنتجه العلمانية في مجتمع يطالب بها وكذلك لمعرفة الصيغ والصعوبات الجديدة التي تواجهها الديمقراطية، في مرحلة تبدو فيها المفارقة كبيرة: تراجع الديني يخلخل فكرة السياسة التي قامت وتطورت سابقا لمواجهته. تراجع الديني يدعو إذن إلى إعادة تعريف السياسة والديمقراطية معا.quot;[2]
تقوم الأطروحة اللازمة والضرورية لحضارة اقرأ من أجل الاستئناف والتقدم والتنوير على إيمان عميق بأن الديمقراطية لن تتأسس كنمط من الحكم الصالح عندنا ولن يقع تفعيل آلياتها وجذب الناس إلى مؤسساتها وبناها التحتية إلا بإيجاد علاقة معينة مع العامل الديني تكون في شكل مصالحة وتفهم وعقلنة وعلمنة له مع تأكيد المرور من مرجعية الدين إلى مرجعية السياسة على مستوى تحيد شرعية السلطة وشكلها ودورها والعلاقات الناتجة عنها باستعادة المجتمع الاستقلالية في تنظيم ذاته بنفسه دون اللجوء إلى معايير متعالية عنه. لكن ما حاجة البشرية إلى العلمانية؟ وكيف نشأت ؟
إذا نظرنا إلى الأديان التوحيدية الثلاث الكبرى اليهودية والمسيحية والإسلام نجد حضروا بارزا لإشكالية العلاقة بين اللاهوت والسياسة وان بشكل متفاوت،فإذا كانت السياسة حاضرة بشكل مكثف في نصوص التوراة وإذا كان الإنجيل خاليا من أية إشارة إلى مسألة الحكم مهتما بالروحانيات وقد عوضت الإمبراطورية هذا الغياب بالتحالف الرسمي مع الكنيسة من اجل إضفاء المشروعة على نظامها السياسية وتعهدها نشر المسيحية وحماية تابعيها ودور عبادتها من كل اعتداء فان ثنائية السياسة والدين تطرح بشكل حرج داخل الإسلام الذي يزعم البعض أنه دين ودولة ويرى البعض الآخر أنه دين وأمة.
والحق أن التاريخ الإسلامي لم يعرف نمط الدولة الدينية التي يحكم فيها الملوك باسم الحق الإلهي ولكن وجد الفقهاء إلى جانب الحكام وقد تقاطع الفريقان فوظف الحكام الفقهاء من أجل تبرير ممارساتهم وتعامل الفقهاء بحذر مع رجال السياسة من أجل المحافظة على وحدة الأمة واتقاء شر الفتنة ولكن هناك من الفقهاء الذين مارسوا وظيفة المحاسبة والمراقبة للحكام وطبقوا عليهم مبدأ ألمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد نجح عدد قليل في ذلك بينما تعرض البقية إلى البطش والتنكيل وهناك البعض من الحكام الذين حاولوا تهميش دور الفقهاء وإبعادهم عن شؤون الحكم ومقبل ذلك قربوا بعض الفلاسفة والحكماء ولكن القانون العام الذي حكم العلاقة بين الشأن الديني والشأن السياسي في الإسلام هو الانفصال الهادئ والحذر بين الطرفين والكل يمارس سلطته على المجال الذي يخصه وتارة يأخذ بعين الاعتبار وجود الآخر وتارة يهمش دوره ونادرا ما يدخلان في صراع.
غاية المراد أنه لا توجد دولة دينية واكليروس بالمعنى الدقيق في الإسلام وحتى وان ادعى البعض وجود ذلك فهو ليس سوى تحريف وتزييف وابتعاد عن حقيقة التدين الصافية ومتاجرة بالدين ومحاولة للزج به في مجالات لم يعد لها أصلا.
إن تأصيل العلاقة مع الظاهرة الدينية لن تتم إلا بالكف عن الإبعاد والفصل والتفريق والإقصاء والاستئصال والتحييد لأنها أفعال أثبتت التجربة التاريخية عدم جدواها وإفلاسها خاصة وأن الحرب ضد المقدس تساهم في إذكاء ناره وعودته بقوة ومحاولته فرض نفسه بعنف على المجال العام.
من جهة مقابلة يقول جمال البنا دفاعا عن العلمانية في الإسلام:quot;إذا كانت العلمانية هي توثين الإنسان وليس عبادة الله والاعتراف بالحياة الدنيا وجحود الآخرة فلا جدال في مخالفتها بل ومناقضتها للإسلام. ولكننا لا نفهم العلمانية بهذا الشكل. ولكن أنها الفصل بين الدولة والدين. بمعنى أن الدولة لا تمارس مهام دينية ولا تعني بمناشط دينية وإنما تدع الدين للناس تؤمن به كما تشاء، بل لعل الدولة العلمانية قد تناصر الكنائس دون أن تتدخل في عمل الكنائس أو تسمح للكنائس بالتدخل في عملها والشواهد عديدة فحرية الاعتقاد مقررة للجميع والكنائس قائمة في الدول العلمانية بل وهناك أحزاب مسيحية...quot;[3]
بيد أن مثل هذا الرأي يؤدي إلى ارتكاب عدة أخطاء ويسجن نفسه في بوتقة ضيقة ولا يرى الأمور سوى من جانب واحد ويسيء التعامل مع واقعه ويفضل الحكم السكوني الثابت على عالم من الحياة المتحرك والمتدفق الذي يعيشه الناس والذي يلعب فيه العامل الديني أحيانا دورا مركزيا، كما أنه لا يستطيع أن يقتلع هذا البعد العقائدي من جذوره ولا يتمكن بالفعل من تحييده من الصراع الاجتماعي بل نراه يعطي للموقف الإيماني المضاد مبرر الدفاع عن نفسه والتواجد بقوة ويصل الأمر أن توظفه الأنظمة الشمولية والإمبراطوريات المعولمة لفائدتها من أجل تحقيق المزيد من السيطرة والتوسع.
هذا الرأي الشائع يناقشه مارسيل غوشيه في كتابه: quot;الدين في الديمقراطيةquot; ويرد عليه بالحجة الساطعة والبرهان الواضح مبينا أن علمنة الدين لا تعني إلغاء لدوره في الحياة العامة والإلقاء به إلى هامشية الحياة الخاصة بل فهمه والتعرف على الإمكانيات الهائلة التي يحتوي والتي لا تزال صالحة لتوجيه الناس وحفز الهمم نحو تحقيق التنمية والتقدم.
كما أن دمقرطة المجتمعات لا تفترض أفول الآلهة واختفاء المقدس وثورة ضد الإيمان واعتبار عقيدة الجمهور عقيدة باطلة بل بالعكس ترتبط بالانطلاقة في عالم الروح وتحقيق وثبة جدلية بين النظر والعمل عن طريق الإيمان والإخلاص والصدق ودون هذه القيم السمحة لا يقدر أي فعل سياسي راشد أن يتخلص من الفساد والتسلط والأنانية ليؤسس الصلاح والبذل ويتحلى بروح المسؤولية أين تترك الفرصة لكي يستيقظ صوت الضمير في أفراد المجتمع فتسود بينهم مبادئ الإخاء والتعاون وتتقوى اللحمة الاجتماعية وينصرفون نحو العمل والعطاء من أجل الفضاء المشترك الذي يربط بينهم.
قد يقول البعض إن هذه محاولة لإصلاح السياسة عن طريق الأخلاق ولجعل الأخلاق مستخلصة من الدين وهو ما يدفع إلى طرح الأسئلة التالية: ما المقصود بالديمقراطية؟ وماذا نعني بالدين؟ وكيف ينبغي أن نفهم العلمنة؟ وما العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة: العلمنة، الدين، الديمقراطية؟
قد تطرح الإشكالية على النحو التالي: هل تحتاج الديمقراطية إلى إقصاء للرموز الدينية من المجال العام أم إلى قراءة علمية للظاهرة الدينية؟ وهل تفهم العلمنة على أنها خروج عن الدين وتهميش له أم عودة إليه تفهما وعقلنة؟ ما معنى دين مدني؟ وهل يجوز أن نتحدث عن حداثة دينية مثلما نتحدث عن حداثة جمالية أو حداثة علمية بعد القرن السابع عشر ميلادي؟
إذا كان من اللازم التخلص من الثيوقراطية باعتبارها فكرة قروسطية تجعل حق الإنسان تابع لحق الله وتسقط في الخلط بين الحكومة الدينية والحكومة المدنية وتضفي المشروعية على بعض الأنظمة الشمولية باعتبار أن البعض من الحكام يعتبرون أنفسهم ظل الله في الأرض ويصدرون القرارات بوحي الهي فهل المطلوب للتخلص من هذه المزاعم الكاذبة إقامة حكومة دينية على مرتكزات علمانية أم السعي نحو تشييد حكومة علمانية ذات مرجعية دينية؟ هل يجوز لنا أن نتحدث عن علمانية دينية وعن دين مدني؟ كيف تؤمن العلمانية بالدين ويجد الفضاء الديني طريقه إلى العلمنة الجذرية؟
هذه الإشكاليات يمكن معالجتها بالقول أن الدين اعتقاد وإيمان وافتراض وجود قوى غيبية ينبغي العمل على إرضائها وأخذها بعين الاعتبار ونصوص مقدسة متعالية على الواقع التاريخي يجب الرجوع إليها،أما العلمنة فهي العقلنة والتأويل والتدبر التفكيري وإخضاع الظواهر الإنسانية المتنوعة للمنهاج العلمي قصد تفسيرها وفك رموزها وإدراك حقيقتها والكشف عن مقاصدها ومعانيها، بينما تفيد الديمقراطية مشاركة الناس مشاركة فعالة في تسيير الشأن العام وذلك بالقطع مع عقلية الحكم الفردي والتسيير الفوقي وتعمل على مأسسة الحياة السياسية والاجتماعية وضمان حقوق الأفراد.
في هذا السياق يقول مارسيل غوشيه: quot; هناك منعطف في العلاقات بين الأديان والسياسة. هذا المنعطف الذي بلغت فيه العلمانية في أوروبا مرحلة جديدة يحتاج إلى تحليل عميق وليس هذا للإجابة عن سؤال يتزايد طرحه: ما معنى أن يحكم الإنسان بعد أن تخلص كما يقول من سلطة الآلهة؟ وإنما أيضا لمعرفة دوافع القلق الذي تنتجه العلمانية في مجتمع يطالب بها وكذلك لمعرفة الصيغ والصعوبات الجديدة التي تواجهها الديمقراطية، في مرحلة تبدو فيها المفارقة كبيرة: تراجع الديني يخلخل فكرة السياسة التي قامت وتطورت سابقا لمواجهته. تراجع الديني يدعو إذن إلى إعادة تعريف السياسة والديمقراطية معا.quot;[2]
تقوم الأطروحة اللازمة والضرورية لحضارة اقرأ من أجل الاستئناف والتقدم والتنوير على إيمان عميق بأن الديمقراطية لن تتأسس كنمط من الحكم الصالح عندنا ولن يقع تفعيل آلياتها وجذب الناس إلى مؤسساتها وبناها التحتية إلا بإيجاد علاقة معينة مع العامل الديني تكون في شكل مصالحة وتفهم وعقلنة وعلمنة له مع تأكيد المرور من مرجعية الدين إلى مرجعية السياسة على مستوى تحيد شرعية السلطة وشكلها ودورها والعلاقات الناتجة عنها باستعادة المجتمع الاستقلالية في تنظيم ذاته بنفسه دون اللجوء إلى معايير متعالية عنه. لكن ما حاجة البشرية إلى العلمانية؟ وكيف نشأت ؟
إذا نظرنا إلى الأديان التوحيدية الثلاث الكبرى اليهودية والمسيحية والإسلام نجد حضروا بارزا لإشكالية العلاقة بين اللاهوت والسياسة وان بشكل متفاوت،فإذا كانت السياسة حاضرة بشكل مكثف في نصوص التوراة وإذا كان الإنجيل خاليا من أية إشارة إلى مسألة الحكم مهتما بالروحانيات وقد عوضت الإمبراطورية هذا الغياب بالتحالف الرسمي مع الكنيسة من اجل إضفاء المشروعة على نظامها السياسية وتعهدها نشر المسيحية وحماية تابعيها ودور عبادتها من كل اعتداء فان ثنائية السياسة والدين تطرح بشكل حرج داخل الإسلام الذي يزعم البعض أنه دين ودولة ويرى البعض الآخر أنه دين وأمة.
والحق أن التاريخ الإسلامي لم يعرف نمط الدولة الدينية التي يحكم فيها الملوك باسم الحق الإلهي ولكن وجد الفقهاء إلى جانب الحكام وقد تقاطع الفريقان فوظف الحكام الفقهاء من أجل تبرير ممارساتهم وتعامل الفقهاء بحذر مع رجال السياسة من أجل المحافظة على وحدة الأمة واتقاء شر الفتنة ولكن هناك من الفقهاء الذين مارسوا وظيفة المحاسبة والمراقبة للحكام وطبقوا عليهم مبدأ ألمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد نجح عدد قليل في ذلك بينما تعرض البقية إلى البطش والتنكيل وهناك البعض من الحكام الذين حاولوا تهميش دور الفقهاء وإبعادهم عن شؤون الحكم ومقبل ذلك قربوا بعض الفلاسفة والحكماء ولكن القانون العام الذي حكم العلاقة بين الشأن الديني والشأن السياسي في الإسلام هو الانفصال الهادئ والحذر بين الطرفين والكل يمارس سلطته على المجال الذي يخصه وتارة يأخذ بعين الاعتبار وجود الآخر وتارة يهمش دوره ونادرا ما يدخلان في صراع.
غاية المراد أنه لا توجد دولة دينية واكليروس بالمعنى الدقيق في الإسلام وحتى وان ادعى البعض وجود ذلك فهو ليس سوى تحريف وتزييف وابتعاد عن حقيقة التدين الصافية ومتاجرة بالدين ومحاولة للزج به في مجالات لم يعد لها أصلا.
إن تأصيل العلاقة مع الظاهرة الدينية لن تتم إلا بالكف عن الإبعاد والفصل والتفريق والإقصاء والاستئصال والتحييد لأنها أفعال أثبتت التجربة التاريخية عدم جدواها وإفلاسها خاصة وأن الحرب ضد المقدس تساهم في إذكاء ناره وعودته بقوة ومحاولته فرض نفسه بعنف على المجال العام.
من جهة مقابلة يقول جمال البنا دفاعا عن العلمانية في الإسلام:quot;إذا كانت العلمانية هي توثين الإنسان وليس عبادة الله والاعتراف بالحياة الدنيا وجحود الآخرة فلا جدال في مخالفتها بل ومناقضتها للإسلام. ولكننا لا نفهم العلمانية بهذا الشكل. ولكن أنها الفصل بين الدولة والدين. بمعنى أن الدولة لا تمارس مهام دينية ولا تعني بمناشط دينية وإنما تدع الدين للناس تؤمن به كما تشاء، بل لعل الدولة العلمانية قد تناصر الكنائس دون أن تتدخل في عمل الكنائس أو تسمح للكنائس بالتدخل في عملها والشواهد عديدة فحرية الاعتقاد مقررة للجميع والكنائس قائمة في الدول العلمانية بل وهناك أحزاب مسيحية...quot;[3]
1) إن سبب هذا التضارب في الآراء يعود إلى سوء الفهم للعلمانية والخلط بين العلمانية تكون العين مفتوحة والعلمانية تكون العين مكسورة وبين العلمنة أي عرض كل شيء على محك العلم واللائكية كفكرة سياسية تعني إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله أي التمييز بين شؤون الآخرة وشؤون الدنيا، كما أن هذا التباين في التصورات ترجع إلى سوء فهم للإسلام واعتبار أحكام الفقهاء هي التي تمثل وجهة نظر الإسلام من العلمانية وكذلك الوقوع في الخلط بين الأبعاد الثلاثة التي يتفرع إليها كل دين:
- المعنى الأول يعنى بالنصوص المكتوبة والمقدسة لدى الأديان.
- المعنى الثاني يراد منه النظريات والآراء والعقائد التي ترجع إلى أكثر من حقل معرفي(فقه، أخلاق، إلهيات، عرفان، فلسفة) بل يشمل بعضها الآراء والنظريات الوضعية كالتاريخ والجغرافيا.
- المعنى الأول يعنى بالنصوص المكتوبة والمقدسة لدى الأديان.
- المعنى الثاني يراد منه النظريات والآراء والعقائد التي ترجع إلى أكثر من حقل معرفي(فقه، أخلاق، إلهيات، عرفان، فلسفة) بل يشمل بعضها الآراء والنظريات الوضعية كالتاريخ والجغرافيا.
- المعنى الثالث يقصد منه تجربة التدين الشخصية الطبيعية عند كل فرد أو جماعة.
عندئذ يمكن التمييز في كل دين بين جانب دنيوي وجانب أخروي وبين ماهو مجال للقداسة والتعظيم وماهو مجال للنظر والتدبر والاستفادة الدنيوية لأن quot; الدين شأن مقدس ولكن لابد من القبول بحقيقة أن تصورنا له موضوع بشري دائماquot;[4] وتحول الأديان إلى عوامل انحطاط ومحافظة ناتج عن الخلط بين هذين المستويين ووقوعه ضحية التوظيف البرغماتي والاستغلال الايديولوجي، في هذا السياق يقول الإيراني محمد خاتمي:quot;إن الضرر والأذى يلحقان بجوهر الدين عندما يتصور الإنسان ndash; أيا كان- أن ما يتصوره عن الدين هو الدين بعينه لأن هذا يعني خنق كل رؤية أو فكرة أو نظرة أخرىquot;[5].
ان علمنة الدين هو الشرط الضروري لقيام ديمقراطية في الحالة العربية طالما أن تجارب الإصلاح الديني هي التي قادت نحو إحداث إصلاح سياسي وطالما أن وراء كل تجربة ديمقراطية ناجحة تقف محاولة تفهمية تأويلية للنصوص الدينية.
ان التفكير في الخروج من الدين نهائيا هو ممكن من ناحية الاعتقاد والنظر والمعرفة ولكنه غير ممكن من ناحية الاجتماع والتربية والسياسة لأن الوظيفة البارزة للأديان هو تمتين العلاقات بين الأفراد وإسناد أهداف نهائية للحياة وتقوية وازع الضمير والإيثار في وجدان الناس.
ان علمنة الدين هو الشرط الضروري لقيام ديمقراطية في الحالة العربية طالما أن تجارب الإصلاح الديني هي التي قادت نحو إحداث إصلاح سياسي وطالما أن وراء كل تجربة ديمقراطية ناجحة تقف محاولة تفهمية تأويلية للنصوص الدينية.
ان التفكير في الخروج من الدين نهائيا هو ممكن من ناحية الاعتقاد والنظر والمعرفة ولكنه غير ممكن من ناحية الاجتماع والتربية والسياسة لأن الوظيفة البارزة للأديان هو تمتين العلاقات بين الأفراد وإسناد أهداف نهائية للحياة وتقوية وازع الضمير والإيثار في وجدان الناس.
تلك هي الفكرة نخرج بها بعد مطالعتنا لكتاب مارسيل غوشيه عن دور الدين في الديمقراطية والغريب أن البعض من التحديثيين يقبلون اعتماد بعض الأحزاب السياسية الغربية على المسيحية أو اليهودية ويرفضون أي دور ممكن للإسلام في تفعيل انطلاقة قاطرة الديمقراطية،فلماذا نقبل فكرة المسيحي الديمقراطي ونرفض فرضية المسلم الديمقراطي؟ أليس دراسة التيارات السياسية ذات المرجعية الدينية دراسة علمية يسهم من التقليل من الخوف من الإسلام والتخويف به المتصاعدة هذه الأيام؟
هوامش:
[1] مارسيل غوشيه الدين في الديمقراطية ترجمة د. شفيق محسن المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى 2007 ص37
[2] مارسيل غوشيه، الدين في الديمقراطية ترجمة د. شفيق محسن المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى 2007
[3] جمال البنا، موقفنا من العلمانية والقومية والاشتراكية،الفصل الأول.
[4] محمد خاتمي مطالعات في الدين والإسلام والعصر، دار الجديد بيروت الطبعة الثانية 1998ص40
[5] محمد خاتمي مطالعات في الدين والإسلام والعصر، دار الجديد بيروت الطبعة الثانية 1998ص 38
[2] مارسيل غوشيه، الدين في الديمقراطية ترجمة د. شفيق محسن المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى 2007
[3] جمال البنا، موقفنا من العلمانية والقومية والاشتراكية،الفصل الأول.
[4] محمد خاتمي مطالعات في الدين والإسلام والعصر، دار الجديد بيروت الطبعة الثانية 1998ص40
[5] محمد خاتمي مطالعات في الدين والإسلام والعصر، دار الجديد بيروت الطبعة الثانية 1998ص 38
كاتب فلسفي
التعليقات